ريمون شبلي…عقلٍ وقلب وخيال

 من الشمال: الأديب شربل شربل والشاعر ريمون شبلي في الاحتفال

لم أكن قد قرأت شيئًا من شعره أو نثره عندما لقيته، لأوّل مرّة، في ثانويّة الياس أبو شبكة في زوق مكايل.

لفتتني، منذ اللقاء الأوّل، أناقتُه وبهاء طلعته، كما لفتني لطفه وعذوبة لسانه. فلمّا جاذبته أطراف الحديث، إمّا مسامرًا وإمّا ممتحنًا، واستدعى الكلام منّا تشريحًا وتحليلًا وتعليلًا، أدركت أنّ الرجل أصيل في الثقافة، مكتنز، بعيد الغور، يصول ويجول في أمدائها، ويتحف سامعيه بالرأي السديد، والحجّة الدامغة، والطرفة غير المصطنعة.

أحببت الزميل المثقّف، من اللقاء الأوّل.

ولمّا أتيحت لنا فرصة لقاء آخر، أو لقاءات، وإن قصيرة، علمت بأنّ حرفة الأدب قد أدركته، فأكبرت فيه هذه المزيّة، وازداد حبّي له، إلى أن علمت بأنّه يحفظ عهد صداقة قديمة لشاعر أكنّ له كلّ الإعجاب، هو المرحوم جورج غانم، عندها غبطّته على تلك الصحبة، وأكاد أقول حسدته، لولا خوفي من أن يفسد الحسد المودّة الناشئة بيننا، والتي عزّزها بإهدائي شيئًا من شعره، فاستمرأت الطُعم، وعلقت في شباكه الذهبيّة السبك، ولمّا أزل عالقًا، على أنّني لا أتخبّط، ولا أحاول هروبًا.

تتبّعت نتاجه، بحكم المزاملة الطويلة التي متّنت أواصر الإعجاب والمحبّة، فإذا نحن صديقان على الدهر.

رافقت كتاباته سطرًا سطرًا، ومقالة مقالة؛ قافية قافية، وقصيدة قصيدة. وأنزلت كتبه، التي زيّنها بلطيفات إهداءاته، منزلة عزيزة على نفسي، أقرأها وأعيد وأعيد وأعيد. وأروح أتخيّل، أو أتذكّر، الشاعر يقرأها أمامي، أو أمام جمهور، في جلسة أدبيّة أو احتفال، فيزداد إعجابي به وبها؛ أليس الإجماع منعقدّا على أنّه أمير إلقاء، وسيّد منبر؟

وبعد، كلّي يقين بأنّ الأستاذ ريمون شبلي كان يستثني نفسه، ومن هم من قُماشته، عندما قال: من لم يكن أمير كلمات، فلينكفئ، وليستتر، لا يرجمها بألف شتيمة وشتيمة، بل فليعترف بالهزيمة…

كان يتحدّث عن القصيدة الأصيلة شكلًا، التي خرجت من جذعها بنتٌ رشيقة القدّ… بنت حرّة التفعيلة كخطى النسائم العليلة، ترقص في خفّة البُرْدِ…

لقد عشق شاعرنا الأمّ وابنتها وقدّم لهما خواتم الماس، وسبائك الذهب، وأطواق اللؤلؤ والياسمين، من صنع يديه، عفوًا، من صنع موهبته وكيانه، كلِّ كيانه.

أجل، ريمون شبلي شاعر أصيل متمكّن من التراث الشعريّ، عالم بتفاصيل علم العروض، قادر على الإجادة والإبداع، والإدهاش، وهو، في آن معًا، مجدّد، يتلاعب بالأوزان، ويبدع، ويدهش.

كان من حسن حظّنا في ثانويّة الياس أبو شبكة التي قرّرت إصدار مجلّة أسمتها ” رؤى” أن يتولّى الأستاذ ريمون المسؤوليّة عن إصدارها، فعكف على هذا العمل بكلّ ما أوتي من خبرة، وثقافة، وحسّ بالمسؤوليّة، فكان ” الكلّ في الكلّ”: يقترح موضوعات المحاور، يحثّ الكثيرين على المشاركة في الكتابة، ويهتمّ بكتابة التقارير عن الاحتفالات، ويعدّ للنشر الكلمات التي تلقى، ويُعمل قلمه في تبويب الموادّ، وتشذيبها، وتقويم اعوجاجها- وهو المدقّق الأصيل- لكي تنشر سليمة من الأخطاء، إلى أقصى حدّ. وإذا كانت مجلّة رؤى، التي كانت تصل نسخ منها إلى مختلف الثانويّات الرسميّة، قد اعتبرت مجلّة رفيعة المستوى، وقد وصلتنا أصداء ردود الفعل المقدّرة، فقد كان للأستاذ ريمون اليد الطولى في تحقيق هذا النجاح.

ولئن كان لقب ” الشاعر” أحبّ الألقاب إلى قلب الأستاذ ريمون، فإنّه لا يكفي لاختصار شخصيّته المتعدّدة الأبعاد.

إنّه ناثر بامتياز،

وتتجلّى موهبته النثريّة في مقالاته النقديّة كما في ” هوامش على عالم الشعر والقصيدة” حيث تلفتك دقّتُه في استعمال المصطلحات وصياغةِ التعابير، وبراعتُه في حسن التوصيل.

كذلك تتجلّى موهبته في مقالاته الأدبيّة، كما في “عسى”. وهو وجدانيّات نثريّة تأمّليّة، تحاكي الشعر، وتتميّز مضمونًا وشكلًا، وتفصح عن ثقافة إنسانيّة بعيدة الغور، ينسجم فيها الفكر والوجدان ليقدّما للقارئ توليفة آسرة. فلنسمعه في “المختلف المتميّز، الإنسان” يقول:

مختلفٌ، متميّز بثلاثة معًا: عقلٍ، وقلب، وخيال.

يقول العقل لصاحبه: أنا المفكّر السائس، المخطّط المهندس، بدوني أنت جسد غبيّ، بائس، تافه، تائه، آلة من طين زائلة. أنا المحلّل المعلّل، الحليم الحكيم المكتمل…

يقول القلب لصاحبه: أنا الحبّ والانفعال، الاشتعال والابتهال، بدوني أنت جسد بارد، جامد، ليس فيه أيّ وتر من الطيبة والصدق، الرقّة والشوق، الرحمة والحنان، الرأفة والغفران، البراءة والإيمان…

يقول الخيال لصاحبه: أنا الجناح المطلق المحلّق، المستشرف المستشفّ المكتشف، بدوني أنت جسد ملتصق بالتراب، لا يخترق، لا يستبق، لا يبني في اللامحدود، لا يغني باللاموجود!…

ص 18…

وقل مثل ذلك في كتابه “هل”، الذي جمع فيه مقالات كتبها في مجلّة “وتبقى الكلمة” التي، وبكلّ أسف، توقّفت عن الصدور، إضافةً إلى ثلاث نشرها في مجلّة “رؤى”، والثالثة الختاميّة خصّ بها روايتي الأولى” غابة الضباب” التي قرأها قراءة نقديّة موضوعيّة أنصفتها، وختمها بما يأتي:

تُرى، أبعد” غابة الضباب”

رواية ثانية رواية السلامِ

والحبّ والطهارة،

أو “وطن الحضارة”؟

يا طيّب القلب يا صديقي، أعترف أنّني خيّبت ظنّك، كي لا أقول خذلتك، ولكنّك تعلم في أيّ واقع أغمس ريشتي، وفهمك كفاية…

هذا، ولا تقتصر براعة مُكرَّمِنا في النثر على تدبيج المقالات، وتحرير التقارير، وكتابة التأمّلات، فالأستاذ ريمون خطيب لامع، تميّز في تقديم الاحتفالات، والمشاركة في المهرجانات الأدبيّة، حتّى صار علامة مميّزة في هذا المجال، تشتاق المنابر وقفته، ويَهزّ أركانَها إلقاؤه. على أنّه، وهو الشاعر، كثيرًا ما كان يمهّد بالشعر، أو ينتهي إليه.

مَن فاته الاستماع إليه، فليعد إلى ديوانه الأخير”شرفات وقصائد” الذي خصّصه لشعره المنبريّ، والذي كتبت فيه مقالة نشرت في الصفحة الثقافيّة في جريدة الأنوار التي، وأقولها بمرارة، توقّفت مؤخّرًا عن الصدور، فخسرنا منبرًا من منابر الرأي، تحت وطأة هذا الزمن الذي تتراجع فيه القراءة، وتطفأ أنوارها.

نقرأ من شرفات وقصائد “يجمعنا في النعص يوحنّا”، حيث يقول الشاعر(ص27):

في النعص نحن

أم أنّنا في جنّةٍ كما ولا عدْنُ؟

الله يا نعص

وكم عليك يكبر الحرص!

وأنت مثلما ولا مكان؛

صنوبرٌ..صنوبر

وبعض شربين وحورْ

وبعض سنديان…

صنوبر..صنوبرْ

وبعض صفصاف ودلبْ

وبعض صعتر يشقّ القلبْ

صنوبر ..صنوبر

والأرض معدنيّة  المياه

ونسمة من لبان

تجدّد الحياهْ

حقًّا، يا صديقي، في النعص نحن، حولك، وأنت صنو قممه، شموخًا وعزّة وعطاء؛ هو يرتجل الروائع من صنوبر وحور وسنديان، وأنت تبتدع الروائع، التي يفوح طيبها ويغذّي النفوس المتعطّشة للجمال الفنّيّ الخالد، المؤمنةَ بالقيم التي لاتنفكّ تنثرها، يمينًا وشمالًا، وتُعليها، وتجدّد إيمانك بها، القيم الفنّيّة والإنسانيّة والوطنيّة والروحانيّة، قيم الحقّ والخير والجمال، التي يزخر بها نتاجك.

أستاذ ريمون

مبروك لك هذا التكريم،

وسنظلّ على مواعيد مع إشراقاتك وإبداعاتك.

 ****

(*) ألقيت في  تكريم  التجمع العائلي لساقية المسك وبحرصاف الشاعر ريمون شبلي في  يوبيله الأدبي الذهبي في فندق النعص الكبير في 10-11-2018. 

اترك رد