هل الكاتب المبدع كائن غريب ؟

   

كلما رأيت كاتباً مبدعاً يرتدي ملابس غريبة، صارخة أو متنافرة الألوان، وقد اطلق شعر رأسه، على طريقة الهيبيز، وترك لحيته تنمو لتغطي معظم وجهه. أقول كلما رأيت مثل هذا الإنسان ، تساءلت بيني وبين نفسي: هل هذه هي علامات النبوغ أو العبقرية حقاً، أم أن في الأمر التباساً ما؟

لم تدرس شخصية الكاتب وعملية الخلق الفني إلا قليلاً. ويبدو الكاتب في نظر الآخرين كائناً غريباً ونادراً. الناس يعتقدون أن الكاتب المبدع يجب أن يشذّ عن أعراف وتقاليد مجتمعه، ويتمرد على محيطه بكسر التابوهات، أو يعاني من اضطراب عقلي طفيف، ويرى الحياة بنظرة غير مألوفة؛ ويكون غريب الأطوار والسلوك .

في الواقع، ليس الأمر على هذا النحو، فالكتّاب المبدعون مختلفون عن بعضهم البعض، في مظهرهم وسلوكهم ومنهج حياتهم، وتتباين حظوظهم من الموهبة، والذكاء والثقافة، والخبرة، والصحة النفسية، ولكن السمات الشخصية التي تساعد على الكتابة الإبداعية موجودة. ويدرسها علم سيكولوجية الإبداع  الذي يساعد على الكشف عما هو مفيد حقا  في شخصية الكاتب.

دوافع الكتابة

الكاتب الحقيقي لا يستطيع الا أن يكتب مدفوعاً بهاجس داخلي لا يمكن له مقاومته أو فهمه، ولا يكتب من أجل المال، أو المجد والشهرة . الكتابة الحقة تنبع من داخل النفس، ولا تفرض من الخارج .

الكتّاب يعرفون ان الكتابة في موضوع معين بناء على تكليف هذه الجهة أو تلك ، ليس عملا مملا فقط ، بل يلحق الضرر بقدراتهم الإبداعية لأنه يقحم في عالمهم شيئا غريبا . وبعد تكرار مثل هذه الكتابات يلاحظون هبوط قدراتهم الإبداعية في التخييل وخلق الصور النابضة بالحياة. القلم المتفرد يختنق في الواقع الحياتي ويفقد ما يبدعه الخيال. من الأفضل للكاتب أن يعمل في غسل السيارات من أن يكتب بناءً على تكليف دار نشر أو مجلة ما.

نظرة متميزة الى الحياة والعالم

الناس يوجهون اللوم الى الكاتب المبدع، لعدم اهتمامه بأخبار الساسة أو النجوم ، أو التسوّق ، أو الرياضة او الأغاني الاستعراضية أو صرعات الموضة. الكاتب يعيش في عالم آخر ويتحدث أحياناً عن النجوم وضؤ القمر وعن اشياء عديمة الفائدة للناس. ويمكن النظر الى هذا النوع من اللوم كمجاملة للكاتب. لأن مهنة الكتابة تتطلب العزلة وصفاء الذهن والتأمل من اجل التحليق على أجنحة الخيال، وخلق عالم آخر افتراضي في ذهن الكاتب المبدع . وهذه العملية تؤدي الى الانفصال عن العالم الواقعي مؤقتاً ، والتفرغ للكتابة وإزاحة كل ما يعيقها وتوجيه كل قوى الكاتب نحوها .

الانغماس في صعوبات الحياة اليومية  قد يحرم الكاتب من التركيز على عمله والحد من زخم الطاقة المطلوبة لخلق عمل أدبي ممتع ومتفرد

الميل إلى الحوار الداخلي

نقد آخر يوجه في العادة الى الكاتب المبدع، وهو انغماسه في حوارات داخلية صامتة بينه وبين نفسه أو الحديث في بعض الأحيان إلى نفسه بصوت مسموع. قد ينظر البعض الى هذا الأمر على أنه علامة مبكرة من أعراض الاختلال العقلي والنفسي . ولكن الحوار الداخلي بالنسبة الى الكاتب  – إحدى الطرق الرئيسية لإنشاء النص.  وتفسير ذلك ، أن أفكار الشخص البالغ تتشكل عن طريق الكلمات أولاً ، ومن ثمّ  الصور. الكاتب حين يحدّث نفسه بالحوار الداخلي ويصف المشاعر والأحاسيس انما يصوغ انطباعاته بالكلمات، التي قد تتحول الى صور فنية حية اذا كان يمتلك مهارة الكتابة الإبداعية

الدقة

مع الحوار الداخلي ترتبط عادة أخرى مفيدة للكاتب ، وهي السعي للحصول على التعريف الصحيح الدقيق لما يحدث. والبحث عن الكلمة التي تصف الواقع بأكبر قدر ممكن من الدقة ، وهذا الإحساس المرهف بالكلمة وإيقاعها في سياق الجملة ، قد يكتسب طابع الوسواس القهري. لأن ما لا يمكن وصفه بالكلمات لن يكون له وجود قطعاً

ان النص الفني الذي نقرؤه في سهولة ويسر، شديد الصعوبة في كتابته . فالكاتب يتخير كل لفظ بدقة ليؤدي معنى معينا يحيث لا يمكنك ان تحذفه أو تكتب لفظا آخر بدلاً عنه . لذلك قد يكتب الكاتب الجملة الواحدة مرات عديدة حتى يصل الى اللفظ المناسب الذي يتطلبه المعنى . بمعنى آخر النص الفني الحقيقي يتميز بطلب الحتمية والدقة والوضوح .

حب الاستطلاع

حب الاستطلاع خاصية يتميز بها الكاتب المبدع الذي يتلهف لرؤية اماكن جديدة وتسجيل انطباعاته عنها. وبعد كل زيارة يعود ليكتب بطاقة جديدة مدفوعا بما تركت الزيارة  في نفسه من آثار قوية

تشيخوف سافر الى منطقة (ساخالين ) في اقصى الشمال الروسي وقام برحلة طويلة مرهقة استغرقت عدة أشهر ، من أجل الاطلاع على ظروف الحياة في هذه المنطقة النائية الموحشة ، وأوضاع المعتقلين والمبعدين فيها ، وعاد ليكتب كتابه القيم ” ساخالين ” الذي أثار ضجة كبيرة ، اضطرت معها السلطة القيصرية الى تحسين ظروف الحياة في المعتقلات والمنافي . اسحاق  بابل عقد صداقة غريبة مع مسؤول المخابرات السوفيتية ، وعندما سأله الشاعر اوسيب ماندلشتام عن سبب دخوله الى ” عش الزنابير ” وخطورة ذلك على حياته ، أجاب بكل بساطة : ” أريد أن أشمّ رائحة مطبخ القمع “.

حب الاستطلاع وراء كل عمل إبداعي ، لذا يسعى الكاتب الى الحصول على المادة الخام لأعماله الأدبية ، وهذا السعي يختلف عن فضول الفرد العادي الذي يسمع ما يتحدث به جيرانه وراء الجدار أو مراقبة شجار في الشارع من خلال نافذة في المنزل.

اترك رد