سبعون يومًا

 

الضابط أودع الشيخ أنور السجن. المخبر وصل إلي المصنع الذي يسهر على حراسته وذهب بهم إليه.

كانت المحكمة قد حكمت عليه بثلاث سنوات غيابيا في قضية مخدرات قتل فيها قتيلا. وما كان يعرف الشيخ أنه طرفا في القضية ولم يخطره أحد. ولما عرف الحكم من ابن عمه لم يسلم نفسه، على أمل أن يذهب مع المحامي يوم الجلسة بعد إعادة الإجراءات ويرد معه. لكن الضابط أمسك به قبل الجلسة بسبعين يوما. السجن جديد وتحت الأرض بثلاثة طوابق. به عشرة عنابر متوسط الواحد خمسين متهما. أمام كل عنبر نظارة ينظر منها النوبتجي. بالإضافة لبوفيه للسجائر والشاي، حيث أن السجائر هي العملة المعتمدة.

دخل الشيخ العنبر الخامس القريب من الطرقة. كان يرتدي جلبابا داكنا وله لحية طويلة مقصوصة بغير عناية، وعلى رأسه شال أبيض ملفوف أشبه بالعمامة، ويحمل تحت إبطه الوسادة والبطاطين. وحين أغلق العسكري الباب ألقى الشيخ السلام وجلس مكانه فوق أشيائه. الساعة كانت نحو الثانية ليلا، والدخان المتكاثف في سماء العنبر جعل عينيه الضيقتين الساكنتين تدمعان. ثم وجد بضعة نفر يعتزلون الناس وفي وجوه بعضهم لحى ؛ فضحك وواحد ينهض من بينهم ويأتي إليه.

سلم عليه فرد السلام، ولما سمعه يقول أهلا بك أخي ، رد وهو يضحك: غير عينك، أنا اتبع هؤلاء.

قال الشاب لم أفهم؟. رد الشيخ: سهلة، وسرعان ما ناوله سيجارة.

قال الشاب أشكرك؛ فأنا لا أدخن. قال الشيخ: حسنا، كلكم يقول ذلك وأغلبكم يدخن في الخفاء.

في هذا الوقت تطوع ثلاثة بفرش بطاطين الشيخ أنور في المكان الذي جلس فيه، ثم جاؤوا له بطفاية، وأعطوه رقم تلفون قطعوه أربعة أجزاء، ولما صلى الفجر صلوا معه.

بعد أسبوعين اكتشف الشيخ أن المخدرات والبرشام بالداخل كما بالخارج، المتغير الوحيد هو السعر. ما تشتريه بالخارج بخمسة تشتريه في الداخل بخمسين. وأن المتهمين لا يتشاجرون ويجرح بعضهم بعضا إلا لحاجة. فكثير منهم لا يزوره أحد، وأكل السجن لا يقيم. غير أنه حين يقف ويفصل بينهم يكبرونه وينزلون علي رغبته.

لقد أشبعهم بالقصص وألحكايات. ولطالما امتدح الحرية واشتكى من عدم رؤيته للشمس والسماء.

وصار أغلبهم يصلي. حتى أن الحراس كانوا يجتمعون على نظارة عنبر خمسة وقت صلاة المغرب والعشاء. صيحة آمين التي يطلقونها بعد قراءة الشيخ للفاتحة كانت تقوى يوما بعد يوم. وكأن الشيخ كان يشعر بالحرس في الطرقة فيطيل القراءة. وما ترك حوارا قرآنيا عن فرعون الإ صلى به خصوصا العشاء. والضابط الذي كان يأخذ التمام تغير مع الأيام. كان يصيح إذا دخل من الباب: كله للحائط يا ابن القحبة أنت وهو، ثم صار يقول: التمام يا رجالة.

وبعد شهر أتت قوة المصلحة. شاع الخبر في السجن فارتعد كل متهم. هؤلاء يقلبون الدنيا رأسا على عقب ويضربون بالهراوات دون رحمة. يضربون كيفما اتفق، ولا يهمهم شج أو كسر أو موت. وحدهم السوابق يفلتون من جحيم الهراوات. يقف الواحد منهم خلف سجين ضعيف البنية، وإذا حمي الوطيس حمله وتلقى به الضربات.

الشيخ حين خبر ذلك. إنه في صراع منذ ذهب خلف الشمس. يريد أن يظهر أمام هؤلاء الذين يصلون خلفه أنه لا يخاف من غير الله وهو يخاف من الحاكم. في السجن لا معنى لعلاقة المحكوم بالحاكم غير الخوف. لقد صار أغلب المتهمين يهرش من حرقة الانتظار.

زرقة الدخان وغياب الشمس جعلت أيام السجن كليلة واحدة سوداء طويلة. فجأة انفتح باب العنبر بقوة ودخل الزبانية. في هذه اللحظة لمح الشيخ أنور سجينا خلف الباب فحشر جسده بجواره. نحو نصف ساعة من الضرب العشوائي لم ينج من العنبر غير هذين الاثنين. ثم جاء موعد الجلسة وخرج المتهمون إلى المحكمة عبر دهاليز تحت الأرض.

كانوا أربعة وعشرين في القفص ومعهم المحامين بالقاعة. قال المحامون لموكليهم إن هذا القاضي ظالم وكافر لتحليل الأتعاب. وما كاد يصرخ الحاجب محكمة وحل صمت حتى قال أحد المتهمين بصوت جهور: يا حضرة القاضي إياك أن تظلمني. قال القاضي ومن أخبرك أنني أظلم؟ قال المتهم دون تردد: المحامي.اكفهر وجه القاضي فنهض عن المنصة واستأذن في الخروج ربع ساعة. ولما عاد حكم على متهم واحد بسنة مع إيقاف التنفيذ و على بقية القفص بالبراءة.

اترك رد