هل نعرفُ لمَاذا نُصلِّي؟

   

جاءَني بالأَمْسِ صديقٌ مؤْمنٌ ملتزمٌ وفي قَلْبِهِ تَوْقٌ إلى معرفةِ مَا يُؤْمنُ به، وَقَفَ أَمامي وعلى وَجْهِهِ علامةُ اسْتِفهامٍ كُبْرى جَعَلَتْهُ يَحارُ كَيْفَ يَبْدأُ الحديث، وبأَيَّةِ عباراتٍ يُوضحُ لي مَا يَجولُ بفِكْرِه، فبادرْتُه قائِلًا: مَا بِكَ ومَا الذي يُشغِلُ بالَك؟ وأَيُّ أَمْرٍ يُقْلِقُكَ؟ فقال: لمْ أَعدْ أَعرفُ كيف أُصلِّي، ومسْأَلةُ الصَّلاةِ كمَا وَرَدَتْ في الكتابِ المُقدَّسِ جعلَتْني، حينَ أُفكِّرُ فيها، أَغْرقُ في تناقُضاتٍ دَفَعَتْني إلى الاسْتفْهامِ عَنْها، ومَا هدفي منْ ذلك إلَّا لأَنِّي، كمَا تعرفُني، أَرْغبُ في فَهْمِ مَا أُومِنُ بِهِ.

أَمامَ هذا الواقعِ سأَلْتُه عنِ الآياتِ التي يعرفُها وتتناولُ الصَّلاةَ وكيف بَدَتْ له متناقضة؟ قال: يقولُ لنا السَّيِّدُ المسيح إسْأَلوا تُعْطوا، أُطلبوا تَجِدواـ إقْرَعوا يُفْتح لكم، لأَنَّ كلَّ مَنْ يسأَلُ ينالُ ومَنْ يطلبُ يَجِدُ. وأَضافَ صديقي: أَلا يعني هذا الكلامُ أَنَّه عليَّ أَنْ أُصلِّي طالبًا أَمْرًا مُعَيَّنًا منَ الله كي أَحصلَ عليه؟ وفي الموضوعِ عَيْنِه يقولُ لنا الرَّسولُ بولس في رسالتِهِ إلى أهلِ روما: إنَّ الرُّوحَ يأْتي لنَجْدَةِ ضعفِنا، لأنَّنا لا نُحْسِنُ الصَّلاةَ كما يجب. وهذا الرُّوحُ يعرفُ مَا في القُلوب، وإنَّ الله يسَخِّرُ كلَّ شيْءٍ لخَيْرِ الذين يحبُّونه، أُولئِكَ الَّذين دُعوا بسابقِ تَدْبيرِه. وأَضافَ صديقي: أَفَلا يعني هذا الكلامُ أَنَّ الله يعرفُ مَا نحن بحاجةٍ إليْه من دون أَنْ نطلبَ أَو نصلِّي؟

وزادَ هذا الصَّديقُ المُتْعَبُ: واسْمَعِ القدِّيسَ يعقوب ماذا يقولُ في رسالتِهِ «أَنتم لا تنالون لأَنَّكم لا تسْأَلون»، ويُسانِدُ قَوْلَه قَوْلُ الإنجيليُّ مرقص: آمِنوا أَنَّ كلَّ مَا تطلبونَهُ بالصَّلاةِ يكونُ لكم. ولكنَّ المَسْأَلةَ تصلُ إلى القدِّيسِ متَّى الذي يكتبُ لنا مِنْ وَحْيِ الرُّوحِ القُدُسِ في إنجيلِهِ، كلامًا لا أَراه يتوافَقُ مع مَا وَرَدَ سابِقًا تَمَامَ المُوافقة. إسْمَعْ مَا يقول: إذا صلَّيْتُم فلا تكونوا كالمُرائين، ولا تُكرِّروا الكلامَ عَبَثًا كالوَثنيِّن الذين يظُنُّون أَنَّهم بكَثْرَةِ الكلامِ يُسْتَجابُ لهم، فلا تتشبَّهوا بهم لأَنَّ أَباكم يعلمُ مَا تَحْتاجونَ إلَيْه قَبْلَ أَنْ تَسْأَلوه. وأَضافَ صديقي: أَيْنَ هذا الكلام من صلُّوا ولا تملُّوا؟ فيا عزيزي، بصراحة لَمْ أَعدْ أَعرفُ ماذا أَفعلُ وكيف أُصلِّي، وهل للصَّلاةِ علاقةٌ بالإيمانِ الذي ينقلُ الجِبالَ أَمْ أَمْ؟ ولماذا قال السَّيِّدُ المسيح: إنْ شِئْتُمْ أَنْ تُصلُّوا فقولوا…؟ أَفي ذلك احْتِرامٌ لحُرِّيَّتِنا، أَمْ فيه خَيارٌ بين الصَّلاةِ والإيمانِ بالمُطْلَق؟

هنا أَوْقفتُه عنِ الكلامِ وقُلْتُ: إسْمَحْ لي أَنْ أَتدخَّلَ في هَواجِسِكَ، وعُدْتُ إلى نَفْسي كي أَجِدَ كلامًا يُرْضيني ولا يحيدُ عنِ حقائِقِ الإيمان، وبالوَقْتِ نَفْسِهِ يُرْضيه ويُبْعِدُ عنه الخَوْفَ منَ التَّساؤُلِ حبًّا بالمعرفةِ وتعمُّقًا بالإيمان، فقلت: الصَّلاةُ يا عزيزي هي حوارٌ مع الله وشكرٌ على مواهِبِه، وفي الحوارِ بُنْيانُ علاقةٍ وثيقةٍ بَيْنَكَ وبَيْنَه. وعُدْ إذا شِئْتَ إلى الصَّلاةِ التي علَّمَنا إيَّاها السَّيِّدُ المسيح، وقد أَتَيْتَ على ذِكْرِها، وتَبْدأ بكلمةِ «أَبانا» وهنا تعرفُ أنَّكَ تُحاوِرُ أَبًا مُحِبًّا حَنونًا تطلبُ منه ما تشاءُ وتتركُ له أَنْ يختارَ ما هو الأَصلح لنفْسِكَ لأَنَّه يرى كلَّ الأَبعادِ والنتائِج التي أَنْتَ لا تراها بوُضوحٍ ولا تراها بمُجْمَلِها. لذلك قال السَّيِّدُ المسيح: أُطْلُبوا أَوَّلاً مَجْدَ الله وبِرَّه والباقي يُزاد لكم.

وحين قالَ المسيحُ أُطلبوا تَجِدوا، لم يقصِدْ بقَوْلِهِ أَنْ تقولَ لله مَا تريدُ لأَنَّه لا يعرفُ حاجتَكَ، بل يريدُكَ أَنْت، بطلبِكَ، أَنْ تعرفَ نَقْصَكَ وأَنَّكَ بحاجةٍ إلى مَنْ يُكمِلُ هذا النَّقْص، لأَنَّك وَحْدَكَ عاجزٌ عنْ إكمالِه. وهذا مَا قصَدَهُ الرَّسولُ بولس بقَوْلِه: يأْتي الرُّوحُ لنَجْدَةِ ضُعْفِنا. وهذا واضحٌ في كلمةِ القدِّيس مرقص: أَبوكم يعلَمُ مَا تحتاجونَ إلَيْه قَبْلَ أَنْ تطلُبوه. أَمَّا أَنتَ يا صديقي فهلْ تعرفُ تمامًا مَا هو خَيْرٌ لكَ كي تطلبَهُ؟ وإنْ عرفْتَ فأَنْتَ تعرفُ الخَيْرَ الآنيَّ الذي يُلَبِّي حاجةً معيَّنة، أَمَّا الله الذي يرى مَا في القلوبِ فيعرف مَا أَنتَ بحاجةٍ إلَيْه كيْ تصلَ إلى حَيْثُ يريدُكَ أَنْ تَصِل.

 

اترك رد

%d