حصل “نبيل” على لقب رئيس تحرير، فهرع إلى السوق لشراء بذلة جديدة وقميص وربطة عنق تليق بالمقام، تمهيدًا للاحتفال بالمهمة الجديدة وتلقّي التهانئ في هذه المناسبة السعيدة… وكانت مفاجأته كبيرة، عندما تبيّن له أن صاحب المتجر، الذي دخل إليه، كان زميله منذ بضعة عقود على مقاعد الدراسة، قبل أن تفرِّق الحياة بينهما منذ ذلك الحين…
بعد التحية وتبادل المجاملات، سأله زميله التاجر: “شو عم تشتغل بهالإيام؟”، فنفخ صاحبنا صدره ورفع رأسه مفاخرًا، وأجاب بكلمة واحدة: “صحافي”…
لفظها مفخّمة، معظّمة ومضخّمة، وانتظر أن تقابل بكلمات المديح والثناء من الزميل السابق، الذي –على العكس- بادره ممازحًا: “ولا يهمك يا صديقي، الشغل مش عيب، بكرا الله بيفرجها عليك، وبتلاقي شغلة تضمنلك مستقبلك وتحفظلك كرامتك”!
مزحة الصديق هذه لم تمر مرور الكرام، بل كانت بمثابة سكبْ “سطل ثلج” على رأس نبيل، أيقظه من نومته على حرير “شيك اللقب”، الذي لا يمكن صرفه، أللهم إلا في “بنك فجلة المعنويات”، وجعله يفكِّر مليًا بعبارة “تلاقي شغلة تضمنلك مستقبلك”، كون العمل في بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة) لم يعد يطعم خبزًا في هذه الأيام…
فقد شهدت الصحافة الورقية أزمة حقيقية في خلال السنوات الأخيرة، نتيجة لثورة الاتصالات والمعلومات وظهور شبكة الإنترنت، تمثّلت في عزوف الكثير من القراء عن اقتناء الصحف الورقية أو مطالعتها، ونشوء جيل جديد لم يعد يتعامل مع الورق، إضافة إلى تغيّر أنماط القراءة لدى مجتمع المعرفة، وشيوع ثقافة الحصول المجاني على المعلومة، ما أدى إلى لجوء مجموعة كبيرة من الصحف ذائعة الصيت إلى تقليص أرقام توزيعها والغاء آلاف الوظائف وتسريح عدد كبير من العاملين فيها، فيما تحوّلت صحف اخرى إلى صحف رقمية، تعاني بدورها من ضعف في مواردها الإعلانية… وانخفض عدد المطبوعات اللبنانية السياسية الصادرة من 110 مطبوعات إلى أقل من 13 مطبوعة، فيما انخفض عدد المطبوعات غير السياسية من 2039 مطبوعة إلى بضع عشرات!
ازاء هذا الواقع المأسوي، الذي استفاق عليه صاحبنا مـتأخرًا، راح يتساءل: ماذا لو وصلت موسى الصرف إلى ذقنه؟ ماذا ينفعه اللقب؟ وكيف يضمن مستقبله، وما هي البدائل المتاحة في بلد مثل لبنان؟ وبالتالي ماذا فعلت الدولة لحفظ حقوق الصحافيين الذين صرفوا من بعض المطبوعات المحلية، التي تمّ إقفالها، وتلك التي تعاني من صعوبات مالية وتتجه إلى الإقفال وتشريد المزيد من الزملاء؟
عندما بدأ نبيل عمله قبل نصف قرن، كانت الصحافة اللبنانية في عصرها الذهبي، ولم يكن أحد من العاملين في دُورِها يهتم بالحصول على أي نوع من الضمانات المالية، كونها كانت بمثابة “تحصيل حاصل”، في ظل الطفرة الاقتصادية في تلك الأيام… حتى أن معظم الصحافيين كان لا يهتم برقم الراتب الرسمي الذي تسجّله إدارة الصحيفة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ظنًا منه أن ما يتقاضاه “من تحت الطاولة” هو نعمة دائمة، وأن “الإدارة” لا يمكن أن تغدر به عند نهاية الخدمة… والدليل أنها تقابل تفانيه في العمل وإخلاصه له، بمنحه المزيد من الألقاب، التي ترفع رأسه عائليا وتعزز مكانته إجتماعيًا!
لكن الأمر الآن أصبح مختلفًا، فقد بلغ نبيل السن مع بلوغ “أزمة الصحافة” ذروتها، وبات مهددًا (بعد خفض راتبه إلى النصف) بالصرف من الخدمة، مثله مثل الكثيرين غيره، كما أن تعويضه من الضمان (المسجّل على أساس الحد الأدنى للأجور) “لا يغني ولا يسدّ جوعًا”، والقانون لا يحمي الأغبياء… فما العمل ونظام التقاعد في لبنان لا يشمل العاملين في القطاع الخاص، كما لا أمل في المدى المنظور بتطبيق قانون ضمان الشيخوخة؟
ويبدو أن هواجس نبيل (“الصحافي الآدمي”، أو “الغشيم” بالمفهوم السائد، كونه لم يستغل مركزه ولم “يدبّر حاله” على الطريقة المعروفة) كانت في محلها، إذ أن قرار صرفه من الخدمة كان أسرع من فرصة إرتدائه البذلة الجديدة لتلقي التهانئ باللقب، الذي أفنى خمسين عامًا من عمره للحصول عليه…
الصدمة أصابت “الآدمي” بأزمة قلبية حادة، وقيل إنه روى لمسعفيه في غرفة العناية الفائقة، قصة شاب اشترى سيارة رياضية مكشوفة، ملأ خزانها بالوقود وقادها بسعادة غامرة على اوتوستراد سحري ظهر أمامه لحظة خروجه من مرآب الشركة… وفجأة… وفي قمة فرحه بـ “مشوار العمر”… تبيّن له أن الأوتوستراد مسدود بجبل شاهق، ومحاط عن جانبيه بالوديان السحيقة، والضوء الأحمر في “تابلو” سيارته ينذر بفراغ خزان الوقود…
وقبل أن ينهي قصته، ذرف نقطة حبر، حفرت على بلاطة إبتسامته عبارة: “ولا يهمكم… الموت مش عيب”…