الخمر والعشق والغانيات في النصوص الصوفية والعرفانية

  

تطفح النصوص الصوفية والعرفانية (شعرا ونثرا) بمفردات مثل: (الكأس، الساقي، الخمر، الشراب، النديم، العشق، الغرام، الجسد ،….) وهي حالة شكلت لبسا عظيما في الحكم على هذه النصوص وأصحابها إلى الدرجة التي أتهم الكثير منهم بالفسق والمجون والمروق والزندقة والكفر، إذ يكفي أن الشاعر الإيراني الكبير وصاحب النصوص العرفانية الجميلة (حافظ) عند موته جرى جدال حول إمكانية دفنه في مقابر المسلمين وهل أن دينه سليما، وقد تم الاحتكام إلى ديوانه كما يجري اليوم من التفأل بديوانه اليوم من قبل الكثير من الإيرانيين وقد ظهرت لهم إحدى غزلياته التي على أساسها تمت الموافقة على دفنه في المكان المعروف اليوم بحافظية شيراز.

والسؤال الأهم في هذا الحديث: “كيف يمكن أن يستقيم الحال بين الدرجات الإيمانية العالية ومراتب القرب لشخصيات كثيرة مثل ابن عربي وحافظ وسعدي والحلاج وصدر الدين الشيرازي وغيرهم وبين استعمال كلمات ذات مداليل محرمة أو ممنوعة أو انها موجودة في نصوص المجنون والخلاعة كما الحال في الخمر والكأس؟ ” والسؤال الآخر: “هل أن هذا الاستعمال ضروريا بحيث ليس في اللغة أي قدرة على التعبير عن تلك المعاني إلا من خلال تلك المفردات؟”

ويتبعهما سؤال أكثر أهمية: “هل أن هناك نصوصا تحكي حكاية القرب والتعلق بالله وعشقه ولم تستخدم تلك المصطلحات في سردها؟ “.

قبل الخوض في إجابة هذه الأسئلة لدينا معالجة أخرى تتعلق بهذا الحديث المشهور : ” الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق” والذي عند تجاوز مدلوله الواضح الذي يحكي عن أن الوصول إلى الله جل وعلا لا حدود له وهو مفتوح على مصراعيه ومتاح بأي طريق يناسب لذاك الوصول ،يجري الحديث عن أن كل “حالة وصول” هي تجربة شخصية خاصة تتعلق بصاحبها كبر مقامه أو صغر وأن الله جل وعلا من إبداع تنوعه جعل حتى مسالك معرفته وطرق الوصول إليه متنوعة ولا متناهية بقدر عدد أنفاس خلقه ،وانه لا يمكن الحديث عن “تعميم وتعليم” أي طريق للوصول بما فيها المسالك العرفانية والصوفية لأشخاص قطعوا شوطا عظيما في هذا الطريق ،وأن هذه التعابير هي خصوصية لأصحابها في مضمارهم الخاص في طريق السلوك إلى الله سبحان وتعالى وتكتسب خصوصية معانيها ضمن تلك النصوص من فردانية تجربة أصحابها ؟

توجد عدة أطروحات تتعلق بتفسير استعمال تلك المفردات في مثل تلك النصوص ومنها:

  • إن خلاصة السعي إلى المعبود هي الحب ،وأن درجات الوصول والكمال تقاس بمقدار الحب ،فالأقرب هو الأكثر حبا لله ،ومع أن حب الله يتعالى أن تتم مقايسته بأي حب آخر فإن طرفه هو الإنسان وأن قدرات الإنسان لرسم حالة التعلق والشوق والهيام والذهول هي مسالك اللغة وما رصدته من مفردات للتعبير عن كل صور العشق والتيم والغياب في المعشوق ومغازلة جماله ومفاتنه ،وأن السياق العقلي لتلك النصوص وما أنكشف من استقامة سلوك هؤلاء الأفراد تكون بمثابة قرينة تصرف تلك المعاني عن مدلولاتها التقليدية العادية إلى مدلولات رفيعة ،فيصير الكأس ليس طريقا للسكر والمجون ،بل للغياب والذهول في حالة معرفة وانقطاع ،وتصير الخمرة جرعة من النشوة في ثناء المحبة وهكذا المفردات الأخرى بحيث يتم تفسيرها على هذا المنوال.

  • رأي آخر يرى بأن تلك الألفاظ بمثابة التورية عن التعابير التي تلخص حالة العلاقة في درجات القرب الشديدة والتي إذا ما تم التعبير عنها بصراحة ستكون وبالا على صاحبها كما فعلت مفردة “أنا الحق” بالحلاج وأدت إلى صلبه.

  • وهناك رؤية تقول إن أصحاب السلوك والمعرفة على مشارب فهناك من هم طريقهم القرآن والسنة وأن تعبيراتهم هي من هذين المصدرين أو مشتقاتهما ،وجماعة أقرب إلى الفلسفة ولغة العقل ولديهم نصوص تستعمل تلك المفردات أي الفلسفية في التعبير عن حالات الشوق والعشق ،وأما تلك الطبقة التي تستعمل تلك الألفاظ فهم ما بين شعراء وأناس من العامة أو أن طريقتهم بالأساس هي نحو من الخلق الذاتي القائم على توجه الفطرة فيهم ونبيهم الداخلي كمرشد أساس ولذلك هم يتعاطون مع هذا العشق والقرب بنفس مفرداته في الحالات الاعتيادية مع قداسة المعبر عنه.

ومع كل تلك الأطروحات تبقى هناك تفسيرات مجهولة تتعلق بهذا الاستعمال وضرورته وقدرته عن وصف حالة العشق الإلهي وهي حالة لا يمكن إنكارها لمن يغور في تلك النصوص المتفردة ويتماهى مع معانيها ويحاكي حالة الوله والذهول التي ترسمها.

في مقابل هذه النصوص وكل ما تحمله تنفرد كلمات وأدعية أهل البيت عليه السلام خصوصا في الحب الإلهي بطريقة ترسم حكاية عشق أوحدي دون أن تلامس أي مفردة تذهب بقداسة المعنى، فأي نص يستطيع أن يلخص: ” ماذا فقد من وجدك وما ذا وجد من فقدك؟ ” أو “فهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك ” أو “…وقلوبهم متعلقة بمحبتك وأفئدتهم منخلعة من مهابتك …يا منى قلوب المشتاقين…” او “يا إلهي لو بكيت إليك حتى تسقط أشفار عيني وانتحبت حتى ينقطع صوتي وقمت لك حتى تنتشر قدماي وركعت لك حتى ينخلع صلبي وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي وأكلت تراب الأرض طول عمري وشربت ماء الرماد آخر دهري وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي..”.

إن هذه النصوص تؤكد بما لا يلامسه الشك هذه الحقيقة النورانية التي أجلتها الإشارة العلوية عندما يشير أحد أئمة أهل البيت عليهم السلام إلى نفسه ويقول: “شرقوا وغربوا لا تجدون العلم إلا ها هنا”، طبعا العلم بالله هو محل القصد هنا.

اترك رد