“حُقُولٌ وَغِلال”… كِتابٌ تُضرَبُ لَهُ قُبَّةٌ حَمراء!  

 (لِمُناسَبَةِ صُدُورِ كِتاب “حُقُولٌ وَغِلال” لِلشَّاعِرِ مُورِيس وَدِيع النَجَّار)

   

لـِ “حُقُولٌ وَغِلال” الشَّاعِرِ والأَدِيبِ مُورِيس النَجَّار مُشَوِّقاتٌ فكرِيَّةٌ رَشِيقَةٌ، رَخِيمَةُ الحَواشِي، مُشبَعَةٌ بِالأَحاسِيسِ وُضُوحًا وائتِلافَ أَلفاظٍ، وحُسْنَ إِيقاعٍ، وإِتقانَ صَنْعَةٍ، يَتَبَدَّى مِن خِلالِها بَدْرًا يَتَهادَى فَوقَ أَطوادِ أَوراقِهِ بِنَفَحاتٍ مُلُوكِيَّةٍ، ونَفَثاتٍ لاحِبَةٍ لا مَعْدَى لَها تَفْوِيفًا ولُؤْلُؤًا نَضِيدًا مَنظُومًا. فَثُغُورُ زَهْرهِ عَذارَى مائِساتٌ تَحامَتِ النُّكُوصَ إِلَّا إِلى سَلِسِ مَعانِيْها، ونَسَمِ الآصالِ في الكِمام(1)!

يُستَوْقِفُكَ النَجَّارُ في طائِيَّتِهِ الجَدِيدَةِ هذه بِرَواسِمَ مَتينَةِ الحَبْكِ صَفَتْ وخَلُصَتْ مِن اللَّحْنِ مُتَجانِسَةٍ في بابِها، مِسكِيَّةِ الأَرَجِ إِذا استَنْشَيْتَها فَغَتْ وفَغَمَتْ واستَرْوَحْتَ مِنها رائِحَةَ الجَنَّة!

قُطُوفٌ وَخَرائِد:

هي قُطُوفُهُ وقد رَكِبَ النَّجائِبَ الـمَخْضُوبَةَ بالحِنَّاءِ… قُضُبُ نُوَّارٍ نَدْيانَةٌ تَتَرَقرَقُ على تِيْجانِ مَنائِرَ تَمَنَّعَتْ، أَخَذَ الأَلِبَّاءُ بِها وتَلْمَذُوا لَهُ، وتَخَرَّجُوا عَلَيهِ لِعُذُوبَةِ مَنْهَلٍ جَلِيِّ المَلامِحِ، نَصَبَ في المَفاوِزِ أَعلامًا.

فَمَعَ الشَّيخِ ناصِيف اليازِجِيِّ، دانَتْ لَهُ إِمامَةُ اللُّغَةِ والنَّحْوِ والبَيانِ، بِأَسالِيبَ إِبرِيزِيَّةٍ مَعْقُودَةِ اللِّواءِ لِلخَمرَةِ الصِّرْفِ الصُّراحِ النَّضِيج.

أَمَّا أَنَّهُ بَلَغَ مع الشِّدياقِ في الحافِظَةِ الـمُحكَمَةِ السَّبْكِ، السَّدِيدَةِ الـمَنْهَجِ، عَطاءً ونَقْدًا مُحَبَّرًا، فَمَوْقِفُهُ أَدْعى إِلى الإِعْجاب.

وَعَن رَفاعَةَ الطَّهطاوِيِّ، ومُحَمَّد عَبْدُه، وبُطرُسَ البُستانِيِّ، ويُوسُفَ الأَسِيرِ… الخ، وغَيرِهمْ مِن رادَةِ النَّهضَةِ فَنُحِلُّهُ مَنزِلَةَ الرُّكنِ في مَكانٍ رَفِيعٍ مِنَ التَّقدِيرِ، جُرأَةَ مَذْهَبٍ، وصَراحَةَ تَعبِيرٍ وانفِتاحًا.

يُوطِئُ النَجَّارُ لِفَرائِدِهِ في زَمَنِ التَمَحُّلاتِ كَالصَّائِغِ الماهِرِ، بِما هو أَحَفَلُ بِالمَنطِقِ والأَشراطِ مِن أَيِّ حَشْوٍ وتَطوِيلٍ، فهو يَنْحُو إِلى الإِيجازِ حَيثُ تَكثُرُ جَواهِرُهُ ومَصادِيقُهُ(2) على غِرارِ البَرَعَةِ في مَدارِسِ الـمُتَقَدِّمِين.

إِنَّهُ يَحْكُمُ لَغْوَ البَلابِل!

يَرُمُّ حَظِيظَ عَمَلِهِ بِدُربَةٍ فائِقَةٍ مِنَ البَلاغَةِ، فَلا ضُؤُولَةَ أَو مَضْعُوفَ مَهَزَّةٍ تُحَوِّمُ فَوقَ رَوابِيْهِ ومُرُوجِه. إِذ لَم يُدرَكْ عَلَيهِ يَومًا سِوَى غَزارَةِ إِنتاجٍ سَرْحِ القامَةِ مُتَلاحِمِ الأَجزاءِ، تَيَمُّنًا بِأَبِي تَمَّام وقد مَدَّ  لِلأَرْيَحِيَّةِ باعًا.

هو البَحرُ مِن أَيِّ النَّواحِي أَتَيْتَهُ          فَلُجَّتُهُ المَعرُوفُ والجُودُ ساحِلُهْ

تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حَتَّى لَو انَّهُ             ثَناها لِقَبْضٍ لَم تُطِعْهُ أَنامِلُهْ

نَثْرٌ مُغايِر:

يَجُرُّ النَجَّارُ ذَيْلَ الغِنَى بِما أُقطِعَ لَهُ مِن آلاءٍ ونِحَلٍ، وأُيْسِرَ مِن رِفْدٍ خَضِيلٍ في نَثْرٍ فَنِّيٍّ تُناخُ بِبابِهِ الظَّعائِنُ، لَهُ نَوْطَةٌ في القَلبِ، تَواتَرَتْ نُهُورًا دَوافِقَ تَوَفَّرَ عَلَيها غَمْرًا نَجِيْدًا لَم يَسْقُط مَرَّةً عَن سَرِيرِ دِمَقْسِهِ ولا عَاب.

جَبَلٌ عالِي الـمَنافِ بِحُورٍ وَولدانٍ “قامَ السُّراةُ بِهِ وحَفَّ العَسكَرُ”، على ما أَشارَ إِلَيهِ البُحتُرِيُّ في وَصْفِ مَوْكِبِ المُتَوَكِّلِ يَوْمَ الفطْر. حَتَّى لَتَظُنَّنَّ أَنَّكَ تَقرَأُ في نَثْرِهِ مَلاحِمَ شِعرِيَّةً اعتَزَمَها، على اختِلافِ مَسانِدِها وانْتَواها، نَثْرًا مُتَفَرِّدًا تَرِقُّ لَهُ الأَمْزِجَةُ والأَذواقُ، فَمَحْمَدَةُ مُذَهَّباتِهِ ورائِقُ مُخَيَّلَتِهِ، جُوْنَةُ عَطَّارٍ تَلَغَّمَتْ(3) بِالطِّيبِ وادَّهَنَتْ بِالدِّهْنِ، لا تَجنَحُ إِلى الإِغراب!

لَوْحٌ جَوِيّ:

وسَقْيًا لِمَشهَدِيَّةٍ إِن هِيَ إِلَّا غِرِّيدَةُ مِدادٍ مِن حُشاشَةِ صَدِيقِنا وقد تَسَمَّرَ ثَبْتًا حِيالَ “لوْحِهِ الأَخرَسِ”، بَعدَ غِيابٍ أَجَنَّهُ الَّليلُ، فِيما هَشَّ اللَّوحُ لاستِقبالِهِ مَحْطُومَ الجَناحِ، ولِسانُ حالِهِ يُلْمِعُ إِلى صَدُوقِ قَوْلٍ لِلحُطَيْئَة:

إِذا غِبْتَ عَنَّا، غابَ عَنَّا رَبِيعُنا        ونُسقَى الغَمامَ الغُرَّ حِينَ تَؤُوبُ

اللَّوحُ الأَخْرَس:

“… لَكَم رَأَيتُكَ، “يا لَوْحُ”، في صَباحاتِي، تَبتَسِم لإِطلالَتي، وكُنتُ أُحِسُّ بِدِفءِ أضلاعِكَ تحتَ أَصابِعِي، وإِخالُكَ تَشجَى إِمَّا لَمَستَ وَهَنًا ينتابُني. وكُنتُ أَرَى في صفحتِكَ المَلساءِ إِضمامَةً مِن صَفَحاتِ حَياتِي، طَوَت كِفاحِي، وعَرَقِي، وسَهَرِي مع مِصباحٍ مُضنًى!” (ص 22).

فَيا لَوْحًا لَطالَما سارَرْتَ صَدِيقِي دُخْلَةً يَأْتَمُّ فِيها بِقِسْطاسِ وآنَسَةِ الوالِدِ الشَّفِيقِ، فَفَزِعْتَ إِلى كَنَفِهِ يَبُثُّكَ شَكاةً كَنَّها جِراحًا تَتَنَزَّى، تَحتَرِثُ صَدْرَهُ، وتَرْتَزُّ في جَسَدهِ فَاقتَطَمَتْ طُنُبَهُ وَرَمَتْهُ بِقاصِمَةِ أَيَّامٍ خَوالٍ لا أَسِيَّ لِضِرامِها…

ناشَدتُكَ اللهَ يا لَوْحُ:

إِلَّا عَدَلْتَ في جُذاكَ عَنِ السَّعِير!

كِتابٌ دُرِّيُّ اليَواقِيتِ يَلتَحِفُ بِرِداءٍ مَقدُورٍ مُوْقَرٍ(4) بِالخُلَعِ النَّفِيسَةِ تَستَزِيرُكَ شَواهِقُهُ وعُرَفُهُ، وتَسْتَجِيشُكَ نَواجِيدُهُ على أَطباقٍ تُحاجِيْكَ، مِمَّا تَتَلَمَّظُ لِجاماتِهِ الشِّفاه.

تِلكَ هِيَ مَدارِجُ الخَزِّ والسُّنْدُسِ عِندَ مُورِيس النَجَّار، كُلَّما قَفَوْتَهُ إِذا أَقصَدَكَ إِلَيهِ الأَمْرُ واستَتَمَّ الإِنشادُ، تَدخُلُ عالَمًا تَسْقُطُ فِيهِ بَينَ الجِفانِ والكُؤُوسِ على أَبْراج.

خُلَّانِيَّات:

وَقَدَحْتَ فَأَورَيْتَ نارَ قِرَىً حَفَّ بِها الجِياعُ فَزَلَفْتَ مُبتَدِرًا إِلَيهِم بِأَعسالِكَ، وما استَبهَمَتْ شِعابُكَ فَأَمْسَكَتْ عَن كُلِّ رَغَبٍ وشَهِيّ:

“… هذا الـمُتَأَنِّقُ في مَظهَرِهِ، الـمُتَخَيِّرُ أَلفاظَهُ كَأَنْ في حَضرَةِ مَلِكٍ، المُتَأَدِّبُ في تَعاطِيهِ، الهاشُّ الباشُّ، تَطِيبُ مَعَهُ الجَلسَةُ، فهو المُحَدِّثُ الواثِقُ، والـمُصغِي اللَّبِقُ، يُوَشِّي حُضُورَهُ بِالكَلامِ اللَّذِّ، والفِكرِ الثَرِّ،  واللَّطافَةِ الغامِرَة…” (ص 50).

وَشَهدْتُ المَحاشِدَ عِندَما أَزْمَعْتُ الشُّخُوصَ إِلى مَنِّكُم وَسَلْوِكُم، ومُعَتَّقاتِ دَيرِكُم البابِلِيَّةِ والصَّرِيفِيَّةِ، والدَّارِيَّةِ، والجُرْجانِيَّةِ، والبَيْسانِيَّةِ، والزَّحلِيَّةِ، والحَبابُ طَفْحٌ وَرَحِيق:

“… كَلِمَتُهُ عَيْناءُ، ورَوضُهُ أَعْيَنُ، وبَيانُهُ أَبلَجُ، وقَوافِيهِ سَواجِعُ، وتَراكِيبُهُ وِضاءٌ، فَلَأَنتَ مَعَهُ في الرَّهَفِ والشَّفَفِ وبَلالَةَ الغُدَيَّات…” (ص 95).

وَإِنِّي لَمُنافِذُكُم إِلى قاضِي قُضاةِ الفِكرِ وأَنتُم بَينَ الخَيْزَلَى(5)  والهَيْدَبَى(6) تَتَخَلَّلُونَ مَواكِبَ الكُبَراءِ، أُولِي الأَبصارِ ذَوِي الحِجَى والنُّهَى، وراجِحِي الحَصاةِ، في حُرُوفِكُم:

“… أَمَّا قصائِدُه فَمُنَمنَماتٌ مَحبُوكَةٌ بِخُيُوطِ الحِسِّ المُرهَفِ، والرُّؤْيا العَمِيقَةِ، وحُسنِ اختِيارِ اللَفظَةِ الأَنسَبِ، فإِذا هي نُتَفُ خَواطِرَ نَدِيَّةٍ كَرَذاذٍ في فَجرٍ ضاحِكٍ، أَو غَمامٌ أَبيَضُ تَلعَبُ به الرِّياحُ اللَيِّنَةُ في جَلَدٍ أَزرَق… (ص 59).

فَيا صَدِيقِي الغالِي مُورِيس!

… وبَعْدَ أَنِ انجابَتْ عَنِّي في سِفْرِكُم وَعْكَةُ سَفَرٍ أَرْهَقَتْنِي وَعْثاؤُهُ صَعْدًا وصَبَبًا(8)، اسمَحُوا لِي فَأَنقَعَ ظَمإِي وأَتَمَزَّزَ وأَتَحَسَّى زُلالَ سَلسالِكُم ورَواقِيدِكُم، وأَتَشَهَّدَ عالِيًا بِمِلءِ الصَّوْت:

إِنَّ “لِرَصِيعَتِكُم” لَمَوْقِعًا في نَفْسِنا تُضرَبُ لَهُ قُبَّةٌ حَمراء؟!

                        بَيرُوت في  25/9/2018   

***

1- (ج كِمّ) الغِلافُ الَّذي يُحِيطُ بِالزَّهْر

2- أَوائِلُهُ ودَلائِلُهُ

3- (ج مَلاغِم) طِيْبٌ يُطَيَّبُ بِهِ الفَمُ والأَنفُ وما حَولَهُما

4- مُحَمَّل

5-6- المِشيَةُ المُتَثاقِلَةُ – السَّرِيعَةُ

7- مَواضِعُ إِنتاجِ الخَمْرِ

8- حَمَّلْتَهُ فَوقَ طاقَتِهِ صُعُودًا ونُزُولاً

 

اترك رد