كتاب: مدُنُ عبد الرؤوف سنو الأربع

د. نادر سراج(*)

(جريدة النهار الخميس 20 سبتمبر 2018)

العلومُ أقفالٌ والأسئلةُ مفاتيحُها”، مقولةٌ منهجيةٌ بحثية استنتجَها الخليلُ بن أحمد الفراهيدي، ووضعها قيدَ تداولنا، فتبنّيناها وعملنا بهديها في مسارنا البحثي العلمي. وهي شكّلت المنصّة الأكاديمية وصنوها التأليفية لأجيالٍ من الباحثين العرب واللبنانيين، بمن فيهم الزميل والصديق الدكتور عبد الرؤوف سنّو. آمنَ مؤرّخُنا بجدواها، فاعتمدها منطلقًا لكتابه الجديد الذي عالجَ فيه العمرانَ اللبناني باعتباره ثقافةً وأنسنةً وتاريخًا واجتماعًا. تقرأه بتمعّنٍ، فتكتشف أن العمرانَ المديني الذي يأخذُ الكاتبُ بناصيتنا لارتياد معالمه والتملّي من جماليات مدنه الأربع ووظائفها المتداخلة والمتكاملة، عبر 375 صفحة هو في المحصِّلة رمزٌ لإنسانية الإنسان… اللبناني.

 

وبناءً عليه فالمؤلِّفُ يلفتُ انتباهَنا إلى أن هذا الإنسانَ الذي يعمرُ الأرضَ متعيّنٌ أيضًا ضمن أطرٍ جيوسياسية؛ أي داخلَ الموطن والمكان وداخلَ الثقافة والحضارة، وفي الزمان. هذه المسلّماتُ المؤتلفةُ العناصر شكّلت الأرضيةَ البحثية والمنارةَ الفكرية التي وظّفها المؤرّخ سنو ليروي لنا بلغة سلسة جوانب حيّة ومعاشة من تاريخ الناس، قاطني المدن، الأفراد منهم والجماعات.

التقطَ هذه الفرصة ليتباسطَ مع قارئه الكلامَ عن موضوع شيّق ومستجدّ هو المدن الأقطاب الأربع في لبنان: بيروت، طرابلس، زحلة وصيدا. أشبعها دراسة وتوثيقًا ووصفًا، وأمدّنا بمعلومات جمّة عن مشاهدها الثقافية الاجتماعية وفضاءاتها الفكرية، ولم يغيّب مأكولاتها وحلوياتها الشعبية من الحسبان، وكلّلَ مسعاه التأليفي بصورٍ منتقاة تُظهر تطور ملامحها عبر السنين.

وللحقيقة سينادي كثيرون بأن ثمة غيرها يستأهلُ الكتابةَ، ويرصّعُ بدوره خارطةَ الوطن، ويتباهى أهلوه بتاريخه وحاضره وإنجازاته. ومن معرفتنا الوثيقة به فهو سيتقبّل هذه الملاحظة وسواها بطيبة خاطر الباحث الساعي لاستكمال معالم مشروعه التأريخي الشمولي لمدن بلاده وبلداتها ودساكرها. لكن لسان حاله يقول إنه آثرَ الاستهلالَ بِسيرِ هذه الأقطاب التي انطلقت من حنايا بيروت القلبَ باعتبارها المبتدأ والخبرَ في كيان الدولة الاستقلالية، لكن السيرة لم ولن تغيّب الأطرافَ، بوصفها السّندَ الحامي للكيان ومُفتتحَ الحكاية التي نتمنّاها تكتملُ فصولًا في مؤلّفاتٍ مقبلة.

مدنُ الساحل والداخل، الأربع، المتقاربة والمتعانقة ولو عن بعدٍ مكاني لا علائقي وطيد، المشمولةُ بالدراسة، لم تُخلِف الميعاد الذي ضُرِبَ لها لتُظَهِّرَ – بقلمه – صورتَها عن ذاتها وعن رموزها، مثلما عن تبدّل أحوالها، وتقلّبات الأزمنة العثمانية وتلك الانتدابية الفرنسية وصولًا إلى الوطنية الاستقلالية على مجريات حيواتِ أبنائها وقاطنيها. ائتلفت أخبارها ونشاطاتها في متن الكتاب، بما في ذلك الجانب الثقافي الذي لا يحظى عادة بالاهتمام المطلوب والمأمول.

جديد الكتاب، وخاصة في ما اتصل ببيروت العاصمة، هو في تخصيصها بفقرات مسهبة وموثقة تناولت معالم نهضتها الثقافية وصنويها الفنية والصحافية. المكوّن الثقافي حلّ بتميّز في صدارة المشهدية التي خصّ الكاتب بها كل مدينة على حدة. تألّقُ بيروت الثقافي منذ مطلع القرن الماضي كان موضعَ اهتمامٍ مشكور. فذكّرنا بكوكبة من الأسماء اللوامع، من الجنسين، التي برزت في ظل نهضة مسرحية وفورة سينمائية وتوهّج إعلامي، دمغ بيروت ببصمته، وأتاحَ لها أن تكونَ الحاضنة الرئيسة لتفتّح مواهب العديد من فنانات وفناني العرب وصحافييهم ومثقفيهم الذين لطالما جمعت شملهم وبلورت أفكارهم مقاهي ومطاعم بلسّ والحمرا والروشة.

حسنًا فعل صديقنا المؤرّخ سنو في تنشيط الذاكرة الوطنية بجرعةٍ معرفية واجبة الوجود في حاضرنا المأزوم. فذكّرنا بمهارة موصوفةٍ بجماليات الأمس المنصرم وإنجازات أهله الذين ناضلوا وواجهوا وأسسوا واستثمروا واستقطبوا، وجهدوا لبناء صورة مشرّفة لذواتهم ولبلدهم الممثل هنا بمدنهم الأقطاب الأربع. أفلحوا في مسعاهم ووفق إمكانياتهم المتاحة، كما يخبّرنا الباحث سنو. لكنه يدعنا نكتشف من خلال استنتاجاته أننا أخلفنا الميعاد وتناسينا الإيفاء بوعد المتابعة الجادة لاستكمال المسار الحضاري والحضري لمجتمعاتنا. الصورُ الزاهية لأحوالنا التي رسمها بالكلمة والصورة والوثيقة، دغدغت أحلامَنا إلى حينٍ، لكننا سرعان ما نستدرك أن ألوانها بهتت أو تكاد، كما طاولَ الخرابُ بعض معالمها وهياكلها، فدُمّرت خلال سنوات الحرب والفتنة ومعاركها المتنقلة.

خارطةُ الطريق العمرانية التي جهد المؤرّخ سنّو لرسمها بكلمات مشرقة وظّفت في توصيفات نوستالجية، كانت بمثابة تذكير لنا بفضل الأسلاف الذين عبّدوها في حنايا الوطن، ونثروها إنجازاتٍ ملموسة في ربوع مدنه الأقطاب الأربع. أدّوا قسطَهم للعلى كما استنتج المؤلّف واستنتجنا معه، وتركوا للخلف؛ أي لصالح رخائنا الاجتماعي، ما “فعَلت أيمانُهم” دون منَّةٍ. لكن الرياح لم تأتِ كما تشتهي السّفنُ والأنفسُ؛ فتعثّر المسار، وتأخّرت البلاد، وطاول الخراب معالمَ هذه المدن، بفعل تبعات الاقتتال والانقسام الداخلي ونزعات التقاسم والتعاند، وسواها من معوّقات نهضة الأمم.

نقفلُ دفّتي كتاب الصديق سنّو، ونتعظَ بما قرأناه، وتفكّرنا في مضامينه وتبصّرنا في مقولاته. نكتشفُ بمرارةٍ أن اللبناني منّا لا يزال لتاريخه “جاهلُ” أو متجاهلٌ لجغرافيته السياسية في كلياتها وديناميتها، والمغيّبة في جزئياتها عن وعي الجمهور كل الجمهور لأسبابٍ شتى. وهو نفسُه لا يزال يلتمسُ برَّ الأمان، وخشبةَ الخلاص، لا بل يطمح إلى مجرد الحصول على “فيزا” هجرة أوعمل.

قرأنا فتذكّرنا واستمتعنا؛ فمدننا الأربع ذكّرتنا بزهو الماضي. لكننا تأسفنا على واقعنا ومشاريع نهوضنا المعلّقة والمتعثرة؛ وأعني حلم دولة القانون والعدالة والمساواة. ذكّرنا الكتاب بـالصيغة المثلى للتعايش المأمول، أي “حكاية” الوطن اللبناني الواحد والموحّد، الديموقراطي والإنسانوي والعربي الهوى والهوية، بمدن ساحله وداخله على حدٍّ سواء. وما لم يقله الكاتب عبّرت عنه أفكاره: فلا انتقاصَ لدور طرفٍ من الأطراف ولا للقلب الذي يشكّل واسطة عقدها. ولا قلبَ حاضنًا وفاعلًا من دون الأطراف المتداخلة والمتكاملة معه، ولا انتعاشَ وتضخيمَ أدوارٍ لمكوّنٍ من مكوّنات المجتمع، ولا لأطرافٍ ومدنٍ وبلداتٍ وقرى على حساب بعضها البعض، أو على حساب القلب النابض، والقابض على “جمر” الحقيقة الكيانية اللبنانية.

****

(*) باحث في الألسنية.

 ¶ عبد الرؤوف سنّو: المدن الأقطاب في لبنان: بيروت – طرابلس – زحلة –   صيدا، مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية، 2018. توزيع: المؤسسة الحديثة للكتاب – مكتبة أنطوان – مكتبة بيسان.

 

اترك رد