خليل عيتاني
في زمن أصبح فيه قرّاء الكتب «عملة نادرة»، باتت صناعة الكتاب تقتضي مهارات عالية لجذب القراء واعطائهم وجبتهم الثقافية الدسمة. لذا، نرى أنَّ المؤرخ الدكتور عبد الرؤوف سنّو ينتفض للحفاظ على ثقافة قراءة الكتاب؛ فيخصّ لبنان وتراثه وتاريخه بمؤلف جديد هو «المدن الأقطاب في لبنان بيروت – طرابلس – زحلة – صيدا» (توزيع المؤسسة الحديثة للكتاب ومكتبة انطوان ومكتبة بيسان). أتى هذا الكتاب بعد العديد من المؤلفات والدراسات الأكاديمية التي وضعها المؤلّف حول تاريخ الرايخ الألماني وعلاقته بالدول الإسلامية، الى تاريخ السلطنة العثمانية والبلدان العربية، وحرب لبنان وتداعياتها بين الأعوام 1975 و2011، والعلاقات اللبنانية – السعودية، وتاريخ السعودية في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز وغيرها الكثير من الكتب والأبحاث.
اعتمد المؤرخ عبد الرؤوف سنّو في كتابه على منهجية جديدة تقوم على الجمع بين النصّ والصورة واللقطة، و»الشباك» الذي يحتوي على معلومات إضافية حول الموضوع المُناقش. والأمر البارز، أنّهَ يقدم معلومات مختصرة تفيد جيل الشباب الذي يفضّل تناول المعلومات عبر لقطات سريعة وجذّابة، وتفيد، كذلك، المتخصصين؛ بحيث يوثّق المعلومات في العديد من الأماكن.
أتى الكتاب في «مدخل» عن الانتشار الفينيقي في العالم القديم، وفي أربعة فصول، بالإضافة الى الاستنتاج العام الذي ناقش الفرضيات. واستعرض المؤلِّف حقبات المدن الأربع التاريخيّة وأحداثها وآثارها وشخصياتها وأدوارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية … وذلك عبر تقميش المعلومات من المصادر والمراجع والصحف، عدا الدراسات الميدانية التي أجراها والمقابلات والمواقع على الإنترنت.
أضاء الباحث في الفصل الأول على بيروت القطب؛ تاريخها من الفينيقيين الى الرومان، ثمّ الفتوحات الإسلامية وصولاً الى نهاية الحكم العثماني وما رافق ذلك من تدخلات أجنبية، حتى عهد الاستقلال، فالفترة المعاصرة التي شهدت أبرز التحوّلات السياسية والأمنية والاقتصادية التي عاشتها المدينة القطب. ويبقى الأهم أنه تناول الجوانب الثقافية لبيروت: خلطتها الثقافية: الصروح الأكاديمية (جامعات ومدارس وجمعيات …)، والفنون التشكيلية والمسرح والسينما والفولكلور، وبالطبع المطبخ اللبناني، وصولًا إلى بيروت «عاصمة للثقافة العربية».
وكان الفصل الثاني من نصيب مدينة طرابلس، بتراثها الفينيقي واليوناني والإسلامي، وبخاصّة العثماني. وأشار الباحث الى أنَّ المدينة شهدت العديد من التقلبات السياسية، لكنها لم تخرج عن دورها الوطني والعروبي والإسلامي، على الرغم مما تعرّضت له. ولا يُهمل المؤلّف قضايا المدينة الاقتصادية والإنمائية المتردية، التي كانت لها تأثيراتها الاجتماعية السلبية. وبعيدًا عن السياسة وتخصيص صفحات للحديث عن بيت كرامي السياسي، أعطى الدكتور سنّو حيزًا كبيرًا لأهمية طرابلس الثقافية؛ فتطرّق الى آثاراتها ومعالمها، واستعان بجداول صنّف فيها خاناتها، وعالج اقتصاد المدينة وحرفها وصناعاتها، ولم يهمل قطاع السياحة والنهضة الثقافية التي أنتجتها المدينة؛ من مسرح وسينما وفنون تشكيلية أسهمت في اثراء ثقافة لبنان وتراثه. وخصّص الكاتب صفحات عديدة للحديث عن الجمعيات الثقافية الناشطة في المدينة.
وكان الفصل الثالث لعروس البقاع «زحلة». وقد وصف سنّو المدينة بأنها ملجأ للتعايش بين اللبنانيين، وتحدّث عن أبرز محطاتها التاريخية، وعن دورها في عهد الانتداب الفرنسي، وفي عملية الاستقلال العام 1943. كما تناول أحوالها في التاريخ المعاصر، وما رافقها من المجابهات بين العائلات التقليدية والأحزاب السياسية. ومن الناحية الاقتصادية، وصف المؤلّف زحلة بأهراء لبنان من الحبوب، وبأنها صلة الوصل بين الجبل والسهل وبالعالم العربي، والعاصمة التجارية والخدماتية للبقاع، وقد ازدهرت عمرانيًا، وتجاريًا، وسياحيًا. وأشار سنّو الى أنَّ زحلة كانت ولا تزال «الصالون الأدبي» الذي يقصده شعراء كبار وسياسيون وأدباء ومفكرون. وأضاء على مهرجانات زحلة الموسمية، وعلى الفنون التشكيلية، وعلى الفنّ المسرحي الذي عرفته نتيجة تأثرها المباشر بالفنّ المصري العريق منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر.
وكان الفصل الأخير حول مدينة صيدا، التي شهدت تحولات كبرى عبر تاريخها القديم والوسيط. وتحدث المؤلّف عن الصراعات التي عانتها منذ الحكم الإسلامي الى الصليبي فالمملوكي؛ حتى عهد السلطنة العثمانية. وقد تحولت أطرافها بعد نكبة فلسطين إلى ملجأً للفلسطينيين عقب فرارهم القسري من قراهم وبلداتهم بفعل إرهاب العصابات الصهيونية.
وعن المكانة الثقافية لصيدا، شرح المؤلّف تأسيس المدارس الأجنبية فيها، وتعرض قطاعها التربوي للكثير من الأضرار خلال حرب لبنان. وقد عملت «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية» و»مؤسسة رفيق الحريري» على إنعاش قطاع التعليم واستعادة دوره الحيوي، فيما اهتمت جمعيات أخرى بالقضايا الاجتماعية. وتحدث سنّو عن تراجع إصدار الصحف في المدينة، وكذلك المسرح والفنون مقارنة بالنصف الأول من القرن العشرين. وفي حديثه عن الاقتصاد الصيداوي، ذكر أنه يعتمد على القطاعات الخدماتية، والسياحة، والحِرف التراثية. وتطرّق إلى معالمها الأثرية، وبالتحديد قلاعها ومعابدها ومقابرها ذات الأصل الفينيقي والروماني.
والملفت في هذا الكتاب أنه عالج أربع مدن أقطاب في لبنان من النواحي السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والآثار، والأنثروبولوجيا والفنون… ويبدو واضحًا تسليطه الضوء على القسم الاجتماعي والثقافي بنسبة أكبر من السياسة والاقتصاد. وندرك أنَّ هذه المدن تعتبر عِماد الدولة اللبنانية على الصعيدين الاقتصادي والثقافي. وقد بيّن الباحث أنَّ التركيبة الثقافية للشعب اللبناني هي نتاج تأثيرات الحضارات والدول التي تعاقبت على لبنان منذ العصور القديمة حتى وقتنا الراهن. ولا تزال كلّ مدينة منها تحمل، حتى اليوم، سمات من تراث تلك الحضارات. ومن الأهمية الإشارة الى أنَّ جميع هذه المدن أنتجت حراكاً فكريًا وثقافيًا أسهم في صناعة الهوية الوطنية.
أخيرًا، سيكون هذا الكتاب مرجعاً أساسيًا لتاريخ المدن الأقطاب في لبنان، يُمكّن الطلاب اللبنانيين من الاستفادة منه، كونه قريبًا جدًّا من منهاج دراساتهم التاريخية في المدارس. وينبغي الإفادة منه على الصعيد العام في لبنان، ذلك أنه دراسة أكاديمية سلسة، غنية بالصور و»الشبابيك» والتعليقات، ما يسهّل استخدامه من قبل شرائح واسعة من اللبنانيين.
****
(*) جريدة “اللواء “18 سبتمبر 2018.