في قديم الصَّمت قبل اللغة، تخطّى مركب الأيام الزَّمنَ بلا أعماق، وبقي على حالِه الى حينٍ بعيدٍ من دون اهتزاز، ولم يسدّ نافذةً في آفاق العالَم، لأنه بلا مضمون. وفي ملعب الصَّمت الرَّحب، سادت عتمة الأنا، وتجلّى عجزها في الإطلالة على الحياة، وسقط الدنوُّ من الحقائق حتى ” إعرَفْ نفسَك “، ساعتذاك تمتَّع الصّمت بدخول التاريخ على دم النُّطق وأشلائه.
قبل اللغة، لطالما عانى الإنسان سوءَ طالعٍ وجحيماً من فشل حماستِه وعدم قدرته على البَوح بمعاندته الآلهة، هؤلاء الذين خوَّفوه بتذكيره بأنّه ليس سوى كائن مائت. لكنّ مفاعيل هذه الّلعنة لم تنتقل الى ذريّته بفعل السِّحر والشّعوذة، بل بفضل النُّطق الآتي من ومضات الوعي. هذا النّطق الذي شكّل منعطفاً جاورَ الحدّ الأقصى من تاريخية قيمة الإنسان في دنياه، وذلك عندما لم يعد الّلسان يعرقلُه انصداع خَفيّ، فسلخ قشرة اللاّإكتفاء الذي يفصله عن إرادة القوة بالنّطق.
اللغة هي وظيفة حيوية للتخلّص من إرباك العقل في التّسليم بأنّ الحقيقة موجودة ومُجدِية، وليس بدهيّاً أن يكون هذا الأمر مُحِقّاً إن لم يُصَرَّح به لِيُعرَف. من هنا، كانت حال الإنسان قبل ذلك مأساوية تَعِسَة، إذ كان محكوماً عليه بالنَّظر والسَمع من دون قَولبة ما يتلقّى في بناءٍ لَفظيّ إستكفائي يمتِّعه بامتياز حقّانيّ حصريّ دون سائر الكائنات. إنّ دنيا الإنسان بلا لغة ما هي سوى مضجعةِ قبورٍ خَدِرَةٍ جافةٍ، وترابٍ غيرِ مَغبوطِ الصّفاء، نظامُها خُمولٌ وجَهلٌ وتثاؤب ومزاجٌ على غير هدأة. فإذا كان الخروج عن أُصول هذا المجتمع ” القَبإنساني ” وتقاليده عَصِيّاً، فكيف يمكنُ إذاً أن يُهَيَّأَ لثورة تصعد بجنس البشر سُلَّم التطوّر والترقّي ؟
إذا كانت الحياة على اتّساع وتَشَعُّب، وهي أَعيشُ من أن تجمد في صَمت، كان على الإنسان أن يؤلّه اللغة، لأنّها تتصّف بالبورجوازية بين كلّ ما يملكه. لقد شُغِفَ بها فانتصر على شلل لسانه، هذا الشّلل الذي لو بقي صامداً، لألحق ضرراً فادحاً في سيرورة التقدّم، لا بل في الوجود بالذات. لذلك، ليس غريباً إنْ كان للإنسان ذلك التَحَيُّز للنّطق، فشللُ اللسان ليس غبطةً، ولا ارتياحٌ للمعرفة في رحاب الصَّمت، فاللاّملفوظ هو صِنوُ اللاّموجود. لقد أجابت اللغة عن كلّ الأسئلة بنَقلها الحقائق من القوة الى الفِعل، فالحقائق مُبهَماتٌ لم تكن لتؤخَذ بالحسبان قبل ارتدائها شكلاً، وهذه فرضيةٌ عبَّر عنها “جاكوب” بقوله: لا وجود لأيّ شيء، ولا لأيّ فِعل، خارج مَنحهِما شكلاً…
لمّا لم يُصنَع الإنسان من حَجَر بل كُوِّنَ كائناً مفكِّراً منذ الأزل، كانت أفكاره المتلاحقة تُنقَش صُوَراً في تلافيف دماغه، راسيةً عند شاطئ الإنتقال من جمودٍ الى حركة، مشتاقةً الى معانقة فرح الولادة. من هنا، لم تكن يوماً يائسةً في سجنها، يلفّها رماد الذّبول، بل كانت مطمئنّة وموعودة بنهاية سعيدة. وكانت البُشرى لغةً قامت للحظتِها بِسَكبِ هذه الخمور المعتَّقة في زِقاق من الألفاظ، فاكتسبت بذلك النكهة التي تستحقّ. من هنا، فاللغة المتّصلة بكلّ الأجيال هي الأَلصقُ بالعظمة والمشغوفة بالنفس والحاثَّة على النهضة والتطوّر. وإنْ نَكَر بعض الزمان حقَّها، فحقُّها أنْ لا رعشةٌ للقلم إلاّ معها، ولا وجودٌ للأفكار إلاّ بها، ولا خلودٌ للعقل بدونها.
لم يكن للغة، في الأصل، أيّ نموذج، حتى حمل إلينا قَلَقُنا، بعد مُرِّ انتظار، وعداً وحَظوة. فكما أنّ مادية الضّوء ليست فوسفوريّة تلمع في ليل الكون، إلى أن كانت خلطة النّور التي شكلّت المنارة التي تهدي، كذلك اللغة، شأنها شأن الإضاءات التي تُفرج عن الضوء، لتستحيل الرؤية ممكِنة. فكما أنّ المادة نفسَها لا توجد لأعيننا بمعزل عن الإضاءة، كذلك الأفكار في علاقتها الحتمية مع اللغة، فالأفكار إذ تتجلّى تلد المعجزات. وهكذا، أسدت اللغة إلينا خيراً كثيراً، فلم تَعُد القافية تتململ من عقم الحِبر، ولم يعد المرمر يشكو عجز الإزميل، ولم يعد اللّون يبكي رماد الرّيشة.
اللغة هي عرس العقل، وهي الصورة الأَدعى الى طمأنينة الفكر وعَزائه، لأنها دفعت الى ولادةٍ للحقائق المعرفية التي لبثت ردحاً طويلاً في السُّدى، يوم كان العقل محكوماً بالغربة والظّلمة، عقيماً لا يقاوم ذاتَه. أمّا الضجّة السحريّة، فكانت طفرةَ اللغة لهدم جدار الحيرة، ما جعل العقل ينفض عنه جوع الغموض، فأنتجَ تمرُّدُه أجساداً للمعارف. وهكذا، ارتاح شَوق العقل باللغة، وشاءَ فأوجدَ كثيراً، وتفضَّضَت إبداعاته التي أترفت الدنيا وسَعَت الى نقلِها من هامشٍ الى مَتن.
اللغة تقول الصّدقَ من دون الحاجة الى وَسمٍ بالحجّة، والمنطق يسلّم بذلك، لأنّ مكوّناتها مرآة مجازية للحقائق أو وثيقة مؤتمَنة عليها. ولسنا هنا في معرض الجزم بعصمةِ اللغة، وبأنْ ليس فيها حقيقة وخطأ، وركيكٌ وبليغ، فهي وعاء يتّسع لأصناف عديدة. لكنّ نظام اللغة يعادل نظام الطبيعة في قدراتها، فكما تجزّ الطبيعة الزوائد التي تنمو عشوائياً في النَّبات، كذلك تختزل اللغة الطفيليّات النامية حول تُخوم الحقائق لتُبقيَ على صفائها. ومهما كانت اللغة منهوكة بأثقال من العجمة، تشظّى سلّمها بانحراف الألفاظ وشوّهات المعاني، فهي قادرةٌ على تنقية نفسها بنفسها ليعود مسارُها ” طاهراً “.
اللغة فُرجةٌ منبعثة من عَدم، هي مقلةُ الإلهام توطَّنت الرّموز فغدت عالَماً كليّاً يشتمل على الإمكانيّات الإفتراضية التي باتت تُعتَبَر ضرورة لازمة، ولها جمائل. فهي أناشيد الحياة وآية الطّالعين على المعرفة بجوار التُّحَف الدائمة الجدّة، وهي موطنُ خيرةِ السّاخين بابتكاراتهم التي بنَوها على حدّ اليَراع، وروائعهم الموصولة الشّعاع والتي لا تزال شاهدةً على نبوغهم وفضلهم. ومهما يكن، فعندما تدخل اللغة في الحساب، لا يعود الإنسان في وحشةٍ من أمره، فترتاح أُذُن، وتطمئنّ نفس، ويستقيم جَمال، لأنّ باللغة يكون الإحساس صحيحاً، والذَّوق مُرهَفاً، وقيمة الحقائق راجحة.
وبعد، فالسلام على اللغة واجب. وإذا كانت اللغة قضيةً للعقل، فالعقل قد ربح لأنه كان يناضل لأجل قضية رابحة.