بقلم: سلمان زين الدين
حينَ تنبُعُ الكلماتُ من النبضِ لا بدَّ أن تَصُبَّ في النبضِ. والنبضُ، في اللغةِ، حركةُ القلب. ومن معاني القلبِ العقلُ والفؤاد. والفؤادُ النبضُ هو الشهمُ الذكي. وحينَ تكونُ الكلماتُ من النبضِ إنما تكونُ من العقلِ الراجحِ والفؤادِ الشهمِ الذكي. ولئن كان القلبُ، في الاصطلاحِ، موضعَ المشاعر، فإنَّ العِلاقةَ اللغويةَ بينَ هذهِ الأخيرةِ والشعرِ لا تَخفى، فالكلمتانِ كلتاهُما مشتقَّةٌ من الجذرِ نفسِه. والمشاعرُ ، بعدُ، مكوِّنٌ من مكوِّناتِ الشعر.
في القرنِ الرابعِ الهجري، يُعرّفُ قدامة بن جعفر الشعرَ بأنَّهُ “قولٌ موزونٌ مقفّى يدلُّ على معنى”. وفي القرنِ الخامسَ عشرَ الهجري، يأخذُ راجح نعيم بهذا التعريف، ويتَّخذُ من الكلامِ الموزونِ المقفّى إطارًا يَصُبّ فيه: خواطرَهُ وآراءَهُ، إخوانيّاتِهِ، جوانبَ من معتقدِهِ، ومقاماتِ القلبِ وأحوالَهُ.
وبذلكَ، يُسنِدُ إلى الشعرِ وظيفتَينِ اثنتَينِ: ذاتيةً، باتخاذِهِ الشعرَ إطارًا للتعبيرِعن خواطرِهِ وأفكارِهِ ومشاعرِهِ، واجتماعيةً، باتخاذِهِ إطارًا للتعبيرِ عن إخوانياتِهِ وعِلاقاتِهِ بالأدباءِ والأصدقاءِ والزملاءِ، دونَ أن يعنيَ ذلكَ فصلاً مطلقًا بينَ الوظيفتَينِ، بل ربّما تجتمعانِ في نصٍّ واحدٍ، فذاتُ الشاعرِ موجودةٌ في اجتماعياتِهِ، والمجتمعُ موجودٌ في ذاتيّاتِهِ أيضًا.
في القرنِ الرابعِ الهجريِّ أيضًا، يتبلورُ نوعٌ من الشعرِ، عرفَهُ الأدبُ العربيُّ في عصورِه ِالأولى، هوَ شعرُ الإخوانيا ت. ومن أغراضِهِ التهنئةُ، التعزيةُ، الشكرُ، الاعتذارُ، الودُّ، الشوقُ، المداعبةُ، الإهداءُ، الشكوى، الاستعطافُ، والتقريضُ…
وبالعودةِ إلى الكتابِ، نرى أن راجح نعيم يتّخذُ من الكلامِ الموزونِ المقفّى وسيلةً
للتعبيرِ، والتقديمِ، والتكريمِ، والتعظيمِ، والتهنئةِ، والتعزيةِ، والشكوى، والاستعطافِ، والتقريض. فتُشكّلُ الإخوانياتُ قُرابةَ نصفِ الكتابِ، وترقى الوسيلةُ إلى مَقامِ الغاية، وهيَ الاحتفاءُ بمجموعةٍ من القِيَمِ الاجتماعيةِ والأخلاقيةِ الأصيلة. وإذا الكتابُ، في هذا الجانبِ على الأقلِّ، معرِضُ قِيَمٍ ومجمعُ فضائلَ يصوغُها المؤلِّفُ بلغةٍ متينةِ السبكِ، قويّةِ التركيبِ، فيُشكّلُ التركيبُ جسدًا لفظيَّاً لروحِ المعنى القِيَمي. وقد يَحشدُ مجموعةَ قِيَمٍ في بيتٍ واحدٍ كقولِهِ في أحدِ المشايخ:
أمينٌ صادقٌ حرٌّ شجاعٌ جبينٌ ناصعٌ بالعدلِ شمسُ (ص114)
فيجمعُ بينَ الأمانةِ، والصدقِ، والحريّةِ، والشجاعةِ، والنصاعةِ، والعدلِ، في تركيبٍ واحد.
وإذا كانَتِ “الإخوانياتُ” تُجسّدُ الوظيفةَ الاجتماعيةَ للشعرِ، وتَشغلُ قُرابةَ نصفِ الكتابِ، فإنَّ النصفَ الآخرَ يُجسِّدُ الوظيفةَ الذاتيةَ، ويَقِفُهُ صاحبُهُ على تأمُّلاتِهِ، ومعتقدِهِ، وتقلّباتِ قلبِه. على أنّ الشعريّةَ التي تنتظمُ النصفَينِ هيَ شعريَّةُ المعنى، وهيَ ليسَت على الدرجةِ نفسِها، بل تتفاوتُ بينَ ما هوَ صادر ٌعن العقلِ، وما هوَ صادرٌ عن القلبِ، وكلّما اقتربَ راجح نعيم من قلبِهِ كانَ إلى الشعريَّةِ اقربَ. فكيفَ يعملُ العقل؟ وكيفُ يعملُ القلبُ في “كلمات من النبض”؟
***
يَحضُرُ العقلُ في المجموعةِ بطريقتَينِ اثنتَينِ: مباشرةٍ وغيرِ مباشرة. يتمظهرُ الحضورُ المباشَرُ في: الدعوةِ إلى التأمُّلِ والنظرِ العقلي، والدعوةِ إلى الاعتصامِ بالعقل، والدعوةِ إلى تعظيمِ العقل.
في الدعوةِ الأولى يقولُ نعيم:
أنظر تجد من حولِكَ الأشياءَ في تكوينِها تستقطبُ الأنظارَ
كلٌّ لها ناموسُها تحيا بهِ في دقَّةٍ تستوقفُ الأفكارَ (ص32)
وفي الدعوةِ الثانيةِ يقولُ:
واعتصم بالعقلِ نورًا هاديًا وانطلق حرًّا بذي الدنيا كطير (ص41)
وفي الدعوةِ الثالثةِ يقولُ:
العقلُ يُفتي بالتراضي بينَهُم والعقلُ صوتُ اللهِ في الإنسانِ (ص54)
ويتمظهرُ الحضورُ غيرُ المباشَرِ للعقلِ في آليّاتِ اشتغالِهِ من خلالِ: التقسيمِ المنطقيِّ، الاستقراءِ والاستنتاجِ، والتأمّل.
في الآليَّةِ الأولى، يعتمدُ نعيم التقسيمَ المنطقيَّ في بعضِ الثنائيّاتِ الحِكَمِيَّةِ، فيُشكِّلُ البيتُ الأوَّلُ المقدّمةَ، ويُشكِّلُ البيتُ الثاني النتيجةَ، كقولِهِ:
لا تقبلنَّ شيئًا شككتَ بهِ ما لم تكن بالشيءِ مقتنعا
ما كلُّ ما نبغي تعلّمَهُ يُجدي، وحسبُ المرءِ ما نفعا (ص19)
في الآليَّةِ الثانية، يحضُرُ العقلُ من خلالِ عمليَّةِ الاستقراءِ والاستنتاج، فيُجرّدُ نعيم من بعضِ الوقائعِ أفكارًا جامعةً مانعةً، كقولِهِ مستنتجًا، بعدَ استقراءِ وقائعَ مؤتمرٍ عربيٍّ للثقافةِ في لبنان:
الفكرُ ينهضُ بالأوطانِ من عَدَمٍ والجهلُ يهدمُها والخُلفُ والبَطَرُ
ما إن تمادَت بظلمٍ دولةٌ زمنًا إلاّ وكان لها من بعدُ منحدَرُ (ص32)
في الآليَّةِ الثالثةِ والأخيرةِ، يحضُرُ العقلُ من خلالِ عمليَّةِ تأمّلٍ في بعضِ المقطوعاتِ، يُزجي فيها النصائحَ، ويَخلُصُ إلى خلاصاتٍ معيَّنةٍ، كقولِهِ:
الخيرُ في فعلِ الفتى خيرٌ لَهُ والشرُّ يُورِثُ علقمًا وشرورا (ص22)
***
أمّا القلبُ فيحضُرُ، بدورِهِ، مباشرةً، على المستوى اللفظيِّ، من خلالِ استخدامِ مفردةَ “قلب” ومرادفاتِها في أبياتٍ معيَّنةٍ، وفي سياقاتٍ مختلفةٍ؛ منها: تأثُّرُهُ بالجمالِ، إصرارُه ُعلى الهوى، واستشعارُهُ الغدرَ. فمرورُ جميلةٍ يُشعِلُهُ:
أشعلَ القلبَ لهيبًا وتثنّى باسمَ الثغرِ رشيقَ الخطوات (ص183)
وهوَ يُصِرُّ على الهوى:
تعبتُ يا قلبُ، ولم تتعبِ معاندًا لي، في الهوى راغبا (ص190)
وهوَ موضِعُ المشاعرِ:
بعثٌ سرى في خافقي لم أستطع إدراكَهَ، ضَجَّت لَهُ الأحناءُ (ص191)
وهوَ دليلُ صاحبِهِ وقرنُ استشعارِهِ:
الشكُّ أوشكَ أن يصيرَ حقيقةً قلبي يُحدِّثُني بغدرٍ مستبين (ص194)
ويحضُرُ القلبُ، بشكلٍ غيرِ مباشرٍ، من خلالِ العاطفةِ يُغدِقُها نعيم على الأصدقاءِ، ومن خلالِ “الغزليّات”. وحضورُهُ هنا هوُ من موقعِ المنفعلِ غالبًا خلافًا لحضورِ العقلِ من موقعِ الفاعل. ولعلَّ انفعالَ القلبِ شرطٌ لا بدَّ منهُ لارتكابِ الغزل.
هنا أفتحُ قوسَينِ اثنَينِ لأشيرَ إلى أنّ غزلَ نعيم قد يجمعُ بينَ الصفاتِ البدويَّةِ والحَضَريَّةِ في بيتٍ واحدٍ، فيُجاوِرُ بينَ عبيرِ المسكِ وأنداءِ العشايا، في قولِهِ:
لها ثغرٌ كأنداءِ العشايا إذا فاحَت عبيرُ المسكِ يَسري (ص188)
ويجمعُ بينَ سمهريَّةِ القَوامِ ولينِ الدمعِ في قولِهِ:
قوامٌ سمهريٌّ فيهِ لينٌ كلينِ الدمعِ من عينَينِ يَجري (ص188)
***
في “كلمات من النبض”، مائةٌ وخمسةٌ وأربعونَ نصًّا، ثلاثةٌ منها نثريَّةٌ، والأخرى كلامٌ موزونٌ مقفّى، يتراوحُ طولُ الواحدِ منها بينَ بيتٍ واحدٍ في الحدِّ الأدنى، وتسعةَ عشرَ بيتًا في الحدِّ الأقصى، كتبَهَا صاحبُها على مدى خمسينَ عامًا، فيكونُ عددُ النصوصِ في العامِ الواحدِ قُرابةَ الثلاثة. وبكلمةٍ أخرى، لم يتّخذِ المؤلّفُ من كتابةِ الشعرِ حرفةً له، والشعرُ ليسَ بحرفةٍ على أيِّ حال، بل هيَ المناسباتُ، الاجتماعيةُ والذاتيةُ، تَفرِضُ نفسَها، فيكونُ الكلامُ الموزونُ المقفّى.
في “كلمات من النبض”، تتسارعُ حركةُ النبضِ أحيانًا، فيَخرُجُ مؤشّرُ الكلماتِ عن انتظامِهِ مصطدمًا بالنحوِ أو بالعَروضِ، غيرَ أنَّهُ سرعانَ ما تعودَ الحركةُ إلى طبيعتِها، فينتظمُ المؤشّرُ من جديدٍ، ليُشيرَ إلى قلبٍ سليمٍ يَنبضُ بحبِّ الحقِّ والخيرِ والجمال، وعقلٍ راجحٍ يَنعَمُ بكشفِ الحقائقِ ومعرفتِها. وحينَ تنبُعُ الكلماتُ من النبضِ لا بدّ أن تَصُبَّ في النبض.
********
(*) أُلقيَت في ندوة حول “كلمات من القلب” قصر الأونيسكو في بيروت،بدعوة من “رابطة العمل الاجتماعي” و”الرابطة الأدبية” في لبنان.
كلام الصور
1- غلاف كتاب “نبضات من القلب”.
2- الشاعر راجح نعيم.