قراءة في ديوان “فاصلة لكل الأزمنة” للشاعر محمود نون

    

جميلةٌ هذه الساعة التي نتخاصر فيها على قراءة نتاج شاعر كبير، من صفاته الشفافية والصدق والرقة والعذوبة، والرؤية التي يتسع مداها الرحب لنقرأ مجريات احداث هذا الكون، ومسار القائمين على قيادته، ولنكشف ونعري بلغة راقية مكّنته من تقديم هذه الرؤية بفرادةٍ وخصوصية يسميها الصديق العزيز د. علي زيتون، البصمة.

فبصمة محمود نون في هذا الديوان هي الأدبيةُ عينها التي قدمت الرؤية بتقنية عالية.

وجميلٌ هذا اللقاء التكريمي الذي نسبر فيه أعماق الشاعر، نسوح في حدائق فكره، نشرّع النوافذ على رؤاه للرمل، للذئاب، للعلل التي تضرب جسد هذا لوطن، للفساد القائم المستشري فيه بدءاً من عمامة (عمة) متطفل على الدين، الى حامل شارة الأمن، والى المفترض ان يكون مؤتمناً على رسالة العلم والطلاب، فإذا به يقلب المعادلة، ويأخذ من اصحاب الكفاءة المنح التي يستحقونها ويمنحها لغيرهم. (من الأول ما يعطيه للسابع)

لذا رأيت أن أدخل الى عالمه من باب العنوان الذي يخفي بين حروفه حكاية محبِّرة، العنوان “فاصلة لكل الأزمنة”. فعند رؤيتي الفاصلة، غامت عيناي ورحت استعيد ذلك المشهد البهي، حيث طلب الينا السيد واثغ  قوي قا، المترجم من الصينية الى العربية وبالعكس، أن تفضلوا بالوقوف، سنقدم لكم باسم اتحاد كتاب عموم الصين هدية ثمينة. فوقفنا على ارض الصين الحبيبة التي زرناها ممثلين اتحاد الكتاب اللبنانيين، وتقدم السيد واثغ وشرع يعلق على صدر كل واحد منا شعاراً يحمل فاصلة. ولما سألناه عن رمزية هذه الفاصلة قال: انها شعار اتحاد كتاب عموم الصين، وهي فاصلة المعرفة، بمعنى اوضح، نحن نكتب جملة في نص عالمي مفتوح على اللقاء والحوار والتفاهم، ونضع فاصلةً، وانتم تكتبون جملة ثانية تليها فاصلة، وغيرنا يكتب ثالثة ففاصلة. وفي الختام، لا نضع نقطةً،لأن النقطة إنقطاع. متى حدث هذا الإنقطاع، شرعت الأبواب على الحروب، من هناك علمنا ان فاصلتهم غير فاصلة العرب التي تفصل على جمع. ففصول السنة أربعة، ومع ذلك فإن السنة هي الحاصل والنتاج… رسالة العنوان هي: إن التواصل بين بني البشر مطلوب منذ بدء الخليقة الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

تتشكل عمارة هذا الديوان من سبعة ابواب يقع كل واحد منها على رؤيةٍ، على تجربةٍ على ازماتٍ راهنة، وعللٍ عالميةٍ سابقة. وعلى وفاءٍ منقطع النظير للأصدقاء (ويخص هنا الشاعر الحبيب الأستاذ جوزف حرب) وللأهل، للبلدية للأحباب. وكل باب يستحق دراسة مستقلة. من هنا، رأيت أن أتكلم على بابين متجاورين متجانسين يشكلان رؤية واحدةً، هما: “خاصرني اليمام وقال” و “وشم على جناح اليمام”، وبما أن اليمام رمز مشترك في العنوانين رأيت أن أُعرّج عليه قليلاً. فاليمام من حيث الوجود الواقعي هو طائر يرفض التدجين ولا يرغب ـ عندنا ـ في تناول الحب من اي كف.

الشاعر محمود نون

أما من حيث الرمز، فيمام الشاعر يخاصره “خاصرني اليمام وقال” استعار الشاعر صفتين ليستا من صفات اليمام هما “المخاصرة” و”القول”. وهذا يعني ان اليمام يحيل الى رمزٍ للوجدان الإنساني، هو يشير الى ضمير هذا الوجود، إنه يرى، ربما، اكثر ما يراه الإنسان العادي، لذا، عندما يستشعر رماحا قادمة وسيوفاً مسلطة موجهة الينا، يسرع الى الشاعر يخبره يوحي اليه… والشاعر القاص أتصوره في هذين البابين قاصاً او روائياً، يكلف عوامل تمثل له الأدوار، وأراه ينزل الى الحدث ويصير راوياً، وبذلك يكتمل المشهد الإنساني. اليمام العراف وظيفته الإبلاغ والتحذير والشاعر شريك في ايجاد الحل والخلاص.

والرمل مداه الكون وهو يرمز الى الصحراء التي اشتققنا منها مصطلح التصحر الذي يصيب العقول لتتجلد وتقفل على الكتاب،وهذا التصحر يأتينا من كل الجهات.

يفتح الشاعر الباب الأول ب: قال لي، فالياء عائدة الى الشاعر الرائي. بل القارئ والذي، بحسب رؤية اليمام، يكون سريع التقاط الرسائل التي يبثها اليمام العراف. ثم نراه ـ الشاعرـ  بل يرى ذاته فرداً مسؤولاً في جماعة، يستخدم صيغة الجمع فيقول:

والسؤال يجيء من الأرض رمحاً الينا. عن غيوبٍ تقيم السيوف علينا .نون الجماعة تتكرر خمس مرات: من وجدنا/ نقتضي عشقنا، نقتفيه، ونحاكي الضياء الفسيح. وهذا الأمر يتكرر في النص الثاني:

وقال لي: ياء المتكلم الفرد /وسمعنا / قلت /اذن ، فلنقفل على الرمل، نفتح ،ـ ولننسى ول نهم.

وفي النص الثالث كذلك:قال لي، ونحن نقتفي دروب البدو، ليس في الرمال من ورود… إن الفرد المعبرعنه بالياء وتاء الضمير سرعان ما يندمج مع الجماعة المستهدفة في راهنها ومستقبلها انه يحمل همومها يخاف عليها لأن اليمام أخبره عن سوداويته للمشهد المنتظر غير انه ومع ذلك غير متشائم وغير سوداوي فهو يبشرنا بخلاص مما نحن فيه، وما هو قادم الينا او الخير واصلون اليه هذا الخلاص بحسب ما يراه يشكل الثنائية الضدية الموجودة في هذا العالم والمتمثلة بقطبين يشير الى العوامل الإستغلالية فيهما برموز تحمل دلالات اشكالها. فرموز القطب الأول : ذئاب وغراب وسيوف ورمال وبدو اما الثاني فرموزه يمام وعصافير وطيور وبجع وحرص الشاعر على الفريق الثاني واضح لأنه يمثل الشعب المضطهد والمظلوم في هذا الكون.

ولو قرأنا رموز القطب الأول لوجدنا:

  1. على مستوى الرمل: هو مصدر الأزمات الفكرية الكبرى، وهو عقيم على المستوى الإنساني، يشعرك بتفوقه، ولا يصدِّر لنا سوى الدم، واشباه رجال يحملون السيوف باسم الله. مداه رصاصٌ في افقه غمُّ وهمٌّ، آلام وجراح، ليس في هذا الرمل غمامٌ ولا ثمر،  انه جُدبٌ، في كفه امارات حروبٍ قادمة من داحس وفيه حفر كبيرة فاغرة لابتلاعنا. ليس فيه عشبة ولا عطر ولا اثر، وليس فيه سوى ذئاب غادرة تحمل سيوفاً تقطع بها رقاب من يخلعون الجليد عن الكتاب الكبير

هذي الرمال تملأ الجوار بالغبار حيث تنعدم الرؤية، ويتعذّر على العيون الإبصار، وفيه ممالك بدوٍ ينسلّون في حلكة الليل لصوصاً يصيدون عابري السبيل وفيه صقيعٌ، وجليدٌ يصيب العقول والأذهان وفيه نعي لمستقبل مفتوح على حرابة لا تنتهي بسوى الإقفال عليه.

وفي الرمال ركام بشع نشتم فيه رائحة الموت قتلاً بالحسام، وفيه رماد يتناسل من رحم الظلام موتاً، ومع الأسف، هذا الرمل القاتل يحميه الأعداء، وقاتلو النفس الحرام. وفي ممالك الرمل منابر اعلامية وثقافية وسياسية ودينية لا يتولاها سوى الأغربة السود التي تنعب او الذين ينعبون في وجوهنا. اذا ما تصدينا لعدونا، الذي تعتبره صديقاً وحامياً وشفيعاً. أصحابُ هذه المنابر عقولهم متحجرة وهم غير قادرين على قراءة حروف الكتاب الكبير، لأن عقولهم ضريرة ومريضة… وليس للرمل الذي تفر منه المعجزة بعد هذه الكومة من القرون سوى كهوف اضحت سجوناً للعيون البريئة.

انه الرمل اذاً، ذلك المدى الممتد الى اي مكان تشتهر فيه السيوف وما جرى على خليج سرت سوى عينة من ضحاياه. والضحايا هناك عصافير الصبح التي نامت على حلم برغيف خبز – على ما يحمله الرمز من دلالة – ولما صحت، صحا الحالمون برزق اطفالهم وجدوا على الرمل هناك وبعد لحظات قُتلوا، وسبق قتلهم بسملةٌ وحمد.

الرمز يدلف بك مباشرة الى الضحايا البشرية الذين يعادلون ببراءتهم وطهرهم العصافير ولم يشفع لهم فقرهم ولا طيبتهم.

وبعد مشهدية الرمل السوداء وما فيها من رموز نقع على رموز اخرى متممة لوظيفة الرمل. الذئاب وما تعنيه من غدر ولؤم، والمعرف عن الذئاب انها لا تنتظم قطاراً، لأن كل ذئب يخشى غدر الذئب الذي خلفه وبعد الذئاب يأتي الغراب.ثم القطيع الذي يبيعه المدبر للمليك كله ولا ينقص هذه اللوحة الا البدو والسيوف.

هذا المشهد المأسوي يثير حفيظة الشاعر المتألم الذي يتمنى لو يحصل طوفان من الخليج الى الخليج ليغمر الرمل والقطيع والذئاب والحراب والسيوف بالمياه، لترتاح وترتاح هذه الأمة في هذه الأرض التي تدور صامتة خفيفة  الضمير، يقول الشاعر:

فآه… آه!

لو السماءْ

تبعثُ بالطوفان من جديدْ

ليغمر القطيع بالمياهْ

ويبصر الإله في كل اتجاه! ص 48

هذه الأرض اضحت خفيفة الضمير تتولاها امم تتولى المنابر ومجلس للأمن

ونحن بتنا معهما امام عولمة متوحشة عمياء لا تبصر. هذا ما انبأنا به اليمام العراف والشاعر الرائي. إن مصيرنا مع الرمل مجهول لأنه سيعبر بنا من ازمة الى ازمات: حضارية ودينية ومصيرية وإنسانية ووجودية… فمن يخلصنا؟

الشاعر هو الذي يتولى الإجابة. ويرسم لنا خارطة طريق نصل منها الى بر الأمان.

يفتح الشاعر ابواباً على الرجاء. ماذا في فضاء الرؤية والخلاص؟

يرى الشاعر انه علينا: ان نعمل الحرف وان نفتح على المدى البعيد وان نقرأ حروف كتابنا الكبير قراءة واعية. وعلينا ان نقفل الباب على الرمل وان نفتح النوافذ على المطر. واذا كنا راغبين بكسر سيوف المجرمين فما علينا سوى دفع الحبر والدم. فالكتابة الموجهة الرائية مضافة على الدم الذي يصير خشبة خلاصٍ، جديران بنقلنا الى بر الأمان. فضلاً عن التراب، هذا الذي يضم احبة لنا، يضمنا، ونعدو الى بابه نظلل العري. وعلينا عند العواصف ان نكون جفنا يؤاخي الجفن وساعداً يعضد ساعداً والإقتراب من السماء مطلب… يقول الشاعر:

ما اقربَ السما

وما تشاؤه النوافذ المطلة على الضياء

ما اقرب السماء

وما ابعد السماء

ويبقى الأمل مشعاً في نص يقول فيه:

يحزنني أن اقرأ الأمس

ان اقرأ الأنين والهمس

لكن

وبالأصابع الخمس

يفرحني

ان ارسم الشمس

بين الحزن والفرح، بين الأمس واليوم، (لكن) التي تقفل على الماضي وتفتح كوة على الأمل مشرعة على السماء، لتخلص العصافير والطيور المهاجرة والبجع التي تمثل رموز النقاء و الصفاء من امس طافح بالحزن والألم وندفع بها الى معانفة النور والضياء والشمس.

وبعدُ، لا يمكننا الفصل بين الرموز المحتاجة الى من يخاصرها، ويشد ازرها، الى من يجمع اناه الى نون الجماعة اي الى الشاعر الإنسان محمود اسعد نون الذي قدم لنا ضميره الأبيض وصورته الناصعة على بساط وفي اعماق هذه القصيدة التي اختارها لتزين الصفحة الثانية من الغلاف انه يقول:

وكلما تهاجر الطيور

اهمي

لو توقفنا عند هذه الكلمات التي تشكل لوحتين مثيرتين للحزن والألم لوجدنا في اللوحة الأولى مشهد المهاجرين من جحيم النار والموت، فيموتون في البحار والطرقات، ويلقى الواصلون منهم الذل على ارصفةِ دولٍ عندما صارت عقيمةً شاءت ان تضرمَ الحرائق طمعاً في هجرة الطيور اليها.

وفي الثانية يقف الشاعر الإنسان الذي يمثل الضمير والوجدان حزيناً يهمي دموعاً عزيزة على مآل حزين وصلنا اليه. ونتابع التأمل. يقول الشاعر:

ويصير الكون بعض جسدي

ويعبر الضلوع شيء يشبه الأحزان والوجع

وكلما اهمي

امد للمدى قلبي

وافتح الجفون والكمونَ والسمع

واقرا الذي يكون في المدى

لأفهم ما يقوله الزمان والبجع

عندما يصير الكون بعضَ جسدٍ نعلم مدى قدرة صاحب هذا الجسد على دق الجرس للضمائر الغافلة عما يجري في هذا الكون ونعلم معنى ان يفترش ضمير واحد جفونه

– نلاحظ انه لم يقل جفني – ونعلم مدى فعل الدموع – التي تغسل وتفتح لشهقة على قلب كبير يمتد فراشاً لهذه الطيور المهاجرة

الشاعر في هذين البابين فردٌ، بل ضميرُ فردٍ يفتح على حزن الجماعة، وعند اشتدادِ ألمه لمصيرٍ مرسومٍ لطيورٍ مهاجرةٍ يهمي – لعله يرتاحُ، بل لعلّه يفتحُ الذهن على قراءةِ ما يفعل في هذا الزمن، وما يقول الزمان والبجع الأبيض.

اخلص من هذه القراءة الى تسليط الضوء على قدرةِ الشاعرِ الذي يصبح الكون بعض جسده على التنبؤ والتنبيه والتعبيرعن مصير وصلنا اليه، ومستقبل يفتح على الف حرابة، والى تجشمه حملَ اعباءِ الطيور والعصافير المعرضة للموت وللهجرة واخلص لأقول ان الشاعر انسان عالمي كلما دخلت الى خصوصيته وذاته عبرت الى عالم الكون الأرحب وانه استطاع تقديم ادبيته بلغة راقية تدخل الى عمق الكيان البشري تهزه فتنعشه

هنيئاً لمن قرأ الديوان وهنيئاً لهذه الأمة بشاعرٍ على هذا المستوى من التكثيف، ومن التعبير الرمزي المفتوح على قراءات جميلة.

اترك رد

%d