رمت بتفسها على سريرها المريح، وراحت تحلّق بأفكارها، سابحة في بحرٍ من المعمّيات التي كانت تحيّرها!…
تعرّفت به منذ فترة ليست بالبعيدة، فلفت انتباهها بعلمه وبثقافته وبدماثة خلقه!… ويوماً بعد يوم، كانت تكتشف فيه جديداً يتلوه جديد؛ حتّى ترنّحت صورته تحت وطأة المتناقضات التي كانت تتشكّل منها شخصّيته الفذّة!..
غريبٌ عجيبٌ هذا الكمّ الهائل من المتباينات التي كانت تزخر بها شخصيّة “مجيد”، وهذا هو اسمه!.. حباه الله قوّة جسديّة لم تكن تتناسب مع ذلك الجسد المتوسط- طولا ووزناً- ممّا كان يغري المشاكسين بالتحرّش به، ليفاجأوا بما لم يكن في الحسبان!… غرست فيه الأيّام قوّة إرادة جبّارة، ومنطقاً تحليليّاً قلّ نظيره، وصموداً في وجه الأرياح والأعاصير، ما جعله يقبل تحدّي الكبار الكبار، فيحطّم من يحطّم، ويقضي على من يقضي- معنويّاً طبعاً- ويعفو عمّن يتلمّس فيه الضعف، إذ، بنظره، ألعفو عند المقدرة!…
كانت تشعر بأنّه يعشقها بجنون، ولكن؛ مع وقف التنفيذ!… نعم، إنّه يهيم بها، فشعور المرأة لا يخيب!..
كان مميّزاً، مبدعاً في مجالات عمله، ممّا أعطاه شيئاً من الشهرة- ومع هذا- فقد خلت دخيلته من أيّة مشاعر موبوءة تجاه من يعملون في ميدان عمله!… وعلى العكس، كان يسعى جاهدا لأن يأخذ بيد كلِّ من يحتاجه منهم، واضعاً إيّاه على السّكّة الصحيحة، حتّى يصل به إلى مبتغاه من النجاح!… وبالاختصار!… كان رحوماً، قاسياً… معيناً للضعفاء، محطّماً سواعد الجبابرة المعتدين، محترماً الأقوياء العادلين ممن حافظوا على كراماتهم دون أن يتطاولوا على كرامات الغير!.. نعم… لقد عرفت الكثير عنه، ومنه؛ خلال لقاءاتها المتكرّرة به!… حاولت أن تحلّل تلك الشخصيّة الفذّة، ولكن عبثاً!… لم تستطع رغم حدّة ذكائها- أن تتغلغل في أعماق تلك القامة الغريبة العجيبة!…
وقبل أن يداعب الكرى عينيها السّاحرتين، اتّخذت قرارها!.. غدا ستلتقيه في جلسة مطوّلة هادئة، وسوف يكشف لها عن كلّ ما غمض لديها عنه، رغم ما يتّسم به من ميل إلى التكتّم… وعصر اليوم التالي، كانت تجمعهما جلسة هادئة على ضفاف البردوني السّاحر!.. كانت قد اتخذت قرارها!… نعم!.. سوف تأخذ المبادرة، وتتعامل مع هذه الحالة بجرأة وشجاعة كانت تفتقر إليهما سابقاً!…
فاجأته بسؤالها:
- هل أنت عاشق؟!..
لم يجب، فقط؛ غاص في عينيها السّاحرتين، وراح يغرق ويغرق في تلك المحيطات الشاسعة التي لا يقرّ لها قرار… فيما ابتسامة غامضة كانت تلوح على وجهه!
- لم تجبني.
- نعم…
- هل حبيبتك جميلة؟….
وعاد يغرق في عينيها….
- بل أكثر من جميلة… هي ساحرة فاتنة!…
- كيف تشعر عندما تكون معها؟…
- أشعر بحالة خوف، قلّ أن أعاني مثلها في ظروف أخرى!…
- لا أفهم!…
- عندما تكون أمامي أشعر بقشعريرة الخوف تجتاحني!… إذا ما نظرت في عينيها، خفت من سهام نظراتي أن تخدش صفاء ذلك المحيط الهادئ!… عندما أقترب بوجهي منها، أخاف من أن يحرق لهاثي الملتهب تلك الصفحة الشّفّافة التي تغلّف خدّيها.. أخشى أن أقترب بفمي من شفتيها حتّى لا أنتقص من عذوبة الرّحيق المشتهى!… أخشى أن ألمس يدها، خوفاً من أن تجرّح يدي- التي استقت قساوتها من خشونة العمر- تلك الخامة النّقيّة النّاعمة، التي إذا مسّتها أوراق الورد، أقلقت رقّتها!… أخشى أن أضمّها إلى صدري خوفاً من أن يضغط ساعدي المشتاق على ذلك الهيكل اللدن فيؤلمه!… أخشى أن…
وصاحت به مقاطعة:
- كفى… كفى أرجوك!…
وعاد إلى نفسه، فتمالك أعصابه؛ راسماً من جديد ابتسامة غامضة على صفحة وجهه، فيما عادت هي إلى أسئلتها:
- ما هو سرّك؟!…
- ماذا تعنين؟!…
- هذا الإحساس المرهف، وهذه المشاعر الرقيقة، كيف يمكن أن تتعايش في هذا القالب المتحرّك الذي جمع القساوة التي وصلت إلى حدِّ البطش أحياناً، إلى الجرأة والشجاعة والعناد وقوّة الإرادة؟!… وفي مقابل ذلك، تظهر لديك واضحة، الرّأفة بالمساكين، والعطف للمحتاجين، والحماية للضعفاء، وأيضاً!… كيف يمكن أن تجتمع كلّ هذه المتناقضات في شخص واحد؟!…
- هذا ليس سؤالاً؟… إنّه مجموعة أسئلة في آن واحد!…
- حسناً… نادراً ما عرف فؤادك الخوف، فمن أين لك هذه الجرأة النادرة؟!…
- من الخوف نفسه..
وعادت نظرات الدّهشة ترتسم في عينيها!…
- كيف هذا؟!…
- إثر تجربة مرّة، غزا قلبي خلالها خوف رهيب، منعني من الدّفاع عن نفسي- وكنت حينذاك في الخامسة عشرة من عمري- وكان أثرها أن ذقت الأرق لبضع ليالٍ، كانت أفكاري خلالها تصطخب، والألم النفسيّ يعصر كياني… وكانت التساؤلات تتزاحم في دماغي… لماذا لم أدافع عن نفسي؟!… لماذا شلّني الرّعب وأفقدني القدرة على المقاومة؟!… الخ… وإذا بي أنتفض في فراشي، معاهداً نفسي- بعد ذلك الألم المرّ- على:
… أن لا أجعل للخوف سبيلاً إلى كياني مرّة أخرى!…
… أن لا أستسلم أمام أيّ ظرف مهما كان قاهراً!…
… أن أكون قاسياً مع القساة… رقيقاً حنوناً مع الضعفاء… فالحياة بلا كرامة هي موت متحرّك!..
- إذا!… من الخوف استولدت هذه الجرأة النّادرة والشجاعة الهادرة! هذا إضافة إلى الرّقّة والإحساس المرهف!… ولكن!… ما الذي جعل منك صبوراً، عنيداً، مثابراً، ناجحاً في ميادين نشاطاتك وأعمالك؟!…
- ألألم يا عزيزتي!… نفسياً كان أم جسديّاً!…
- فسّر… أرجوك!…
- قال أحدهم: “ألألم يصقل النفوس البشريّة”… وأنا أقول لك: ألألم هو القوّة الجبّارة التي تخلق الرّجال الرّجال… فالشاعر والأديب والمقاتل في الجبهة، إضافة إلى المبدع في أيّ مجال من المجالات… عاش الألم!… ألألم يجعل من الذي عاناه حسّاساً، يشعر مع المتألمين، ويغضب من الظالمين!.. ألألم يجعل المتألم في سباق دائم مع الزّمن، كي يسبق ذلك الساعي دون توقف، مستفيداً من كلّ ثانية من ثوانيه، كي يجد نفسه أخيراً، مُكتتباً بين العظماء نتيجة ما بذله من سعي وكدٍّ وجدٍّ!…
وعاد ينظر إليها بشوق ثائر!…
- عزيزتي، لا تتعجّبي من التباينات، فحياتنا كلّها متناقضات!… كوني حذرة من الهادئ دائماً، ومن الثائر دائماً… لأنَّ الأوّل يخفي ثورة جامحة مكبوتة… والثاني يخفي عِقداً، نادراً ما تحلّها الأيّام!…
وتلاقت النظرات من جديد، ومن ثمَّ يمناه بيسراها، وعادا من جديد أيضاً، يسيران في اتجاه المدينة، مخترقين حجاب الزَّمن، علَّ الآتي يحمل لهما السّعيد من المفاجآت!…