مقدِّمة
“فرحت بالقائلين لي إلى بيت الربّ ننطلق” (مزمور 122). لقد ردّد يسوع مرارًا هذا المزمور مع شعبه عندما كان يقوم بالحجّ إلى أورشليم. هذا هو الحجّ، فرح المؤمنين بالسير معًا بحثًا عن الله، إنّه فرح التوق للقاء الحبيب في إطار عبادة معيّنة. إنّه فرح الاحتفال ومشاركة الإيمان والصلاة مع من يؤمن بما أؤمن به. “إنّه اختبار كبير نعيشه في الباطن”[1]. فإنْ كان الحجّ رحلة يقصد فيها المؤمن مكانًا مقدَّسًا أو معلمًا دينيًّا مشهورًا حدث فيه ظهور إلهيّ، فالهدف أن يتطهَّر من خطاياه ليصبح مستعدًّا لملاقاة الله ويسلك بحسب رضاه. وعن الحجّ، يقول البابا فرنسيس في رسالته لمناسبة يوبيل الرحمة إنّ: “الحجّ هو علامة مميّزة للسنة المقدّسة، لأنّه رمز المسيرة التي يجتازها كلّ شخص في وجوده. من خلال عبور الباب المقدّس نترك رحمة الله تعانقنا ونتعهّد بأن نكون رحماء مع الآخرين كما أنّ الآب رحوم معنا”[2]. فاليوبيل “هو دائمًا زمن نعمة خاصّة، “يوم مبارك من الربّ”، وبذلك يرتدي طابع الفرح؛ وفرح كلِّ يوبيل هو فرح غفران الخطايا، فرح التوبة”[3]. هذه هي معاني الحجّ الرئيسيَّة التي سنفصِّلها في المقاطع التالية.
أوَّلاً – الحجّ في الكتاب المقدّس
كانت ترافق الحجّ في العهد القديم عادات مختلفة “كالمسح بالزيت”(تكوين 28: 18)، أو ممارسة تطهيرات معيّنة من غسل الثياب وإبدالها (تكوين 35: 2)، أو كانوا يقدّمون مالاً (تكوين 28: 20-22). كما كانت تقدمة الأضاحي مرتبطة في غالب الأحيان بالحجّ. نقرأ في سفر التكوين مثلاً: “وذبح يعقوب ذبيحةً في الجبل ودعا إخوته ليأكلوا طعامًا. فأكلوا طعامًا وباتوا في الجبل.” (تكوين 31: 54).
مع إصلاح يوشيَّا (2 ملوك 23: 1-2) أُلغيت الاحتفالاتُ في المعابد المحليَّة، وأصبح الاحتفال احتفالاً كبيرًا مركزيًّا في أورشليم، لمناسبة عيد الفصح. وكان هدف هذا الإصلاح جمع شمل الشعب أمام إلهه. وأصبح هيكل أورشليم المعبد الوحيد بلا مُنازع. ولمناسبة الأعياد السنويَّة الكبرى، يقصد الهيكلَ الحجّاج من كلِّ أنحاء فلسطين، وأيضاً من يهود الشتات.
كان يصل الحجَّاج جماعاتٍ إلى الهيكل، وهم يرنِّمون المزامير. وتُعَبِّر مزامير الحجّ (من المزمور 120 إلى 134) عن مشاعر السائح وإيمانه وتعلّقه ببيت الربِّ وبالمدينة المقدَّسة، وتشرح معنى تقواه من صلاة وسجود وطلب البركة أو الرحمة ورضى الله عليه. وأسمى ما يبتغيه المؤمن هو الوحدة من خلال الحجّ الجماعيّ والشركة الواحدة في الصلاة.
نرى يسوع عند بلوغه الاثنتي عشرة سنة من عمره يصعد مع أبوَيه إلى أورشليم، احتراماً لأمر الشريعة (لوقا 2: 41-42). وكان يسوع يصعد إلى أورشليم في الأعياد الكبيرة طوال فترة رسالته. وعلى سبيل المثال، نقرأ في إنجيل القدِّيس يوحنَّا: “وكان فصح اليهود قريبًا، فصعد يسوع إلى أورشليم” (يوحنّا 2: 13؛ أيضًا: يوحنّا 5 : 1). وقد رفض يسوع الحجَّ الزائف غير المرتبط بالروح والحقّ، وطرد الباعة من الهيكل. نكتفي بهذا القدر من الكلام على الحجّ التقليديّ عند اليهود، وننتقل إلى الكلام على معنى الحجّ المسيحيّ ودوافعه.
ثانيًا – معنى الحجّ المسيحيّ ودوافعه
مع مجيء المسيح، تجاوزت العبادة الأماكن والهياكل كلّيًّا، إذ باتت “عبادة في الروح والحقّ”[4] (يوحنّا 4: 24). ولكنّ هذا لا يمنع أن تكتسب الأماكن التي عاش فيها يسوع وعلَّم وصُلِب وقام أهميَّة لدى المؤمنين، كما الأماكن التي عاش فيها القدّيسون وشهدوا بإيمانهم، والأماكن التي تُحفظ فيها ذخائر دينيَّة أو تضمّ أضرحة الشهداء والقدّيسين، وأماكن إقامة النسَّاك. “فالمكان المقدّس هو مكان مميّز للقاء الربّ ولمس رحمته بالإصبع”[5].
ويقول القدّيس يوحنّا بولس الثاني: “عندما ننتقل بروح صلاةٍ من مكان إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، في هذا الحيّز المتميّز بالتدخّل الإلهيّ، فهذا لا يساعدنا على أن نعيش حياتنا طريقًا فحسب، بل يزوّدنا أيضًا فكرةً عن إلهٍ مشى قبلنا وسبقَنا، وراح يسير على دروب الإنسان، إله لا ينظر إلينا من علُ، بل أصبح رفيق دربنا”[6].
ولكن يبقى الحجّ بالعمق استعدادًا داخليًّا وروحيًّا للتوبة، وهذا يتطلّب ثلاثة مواقف أساسيّة متكاملة لعيشه:
أ. إنَّ السَّفر إلى مكان بعيد، أي التغرّب، ليس إلاَّ رمزًا لتخلّي المؤمن عن حالة الاستقرار والاكتفاء التي يعيشها، وخوضه مغامرة جديدة برفقة الله، كما حدث مع إبراهيم (تكوين 12: 1). وقد أضفَى البابا فرنسيس مفهومًا جديدًا على هذه المغامرة هو عيش الرحمة: “الرحمة هي الدرب الذي يوحّد الله بالإنسان، لأنّها تفتح القلب على الرجاء بأنّنا محبوبون إلى الأبد بالرّغم من محدوديّة خطيئتنا”[7].
ب. النظر إلى الحياة الأرضيّة بصفتها منفى، أي مكانًا بعيدًا عن الربّ، فالأرض هذه ليست وطن المؤمن الحقيقيّ، وهذه الفكرة نجدها في العهد القديم (مثلاً: أحبار 19: 34-36 وأيّوب 19: 15 و31: 32، ومزمور 38: 13 ومز 118: 54). ونجد الفكرة نفسها في العهد الجديد أيضًا (2 قورنتس 5: 6-8؛ وبطرس ؛2:11 وعبرانيّين 11: 14-15). فالمسيحيّون هم شركاء القدّيسين وأعضاء في بيت الربّ بفضل الإيمان والرجاء (أفسس 3:19). لذا، يعيش المسيحيّ في وطنه وكأنّه غريب، إذ يعتبر كلَّ أرض غريبة وطنًا له، وكلّ وطن هو أرض غريبة[8].
ج. المسيرة نحو أورشليم السماويّة الوطن الحقيقيّ. يرى آباء الكنيسة في خروج شعب العهد القديم من مصر ومسيرته الطويلة إلى أرض الميعاد صورةً عن مسيرة حجّ المؤمن الشخصيّة ومسيرة الكنيسة جمعاء إلى بيت الآب السماويّ. وفي هذا الاتِّجاه، يتكلَّم القدّيس أوغسطينُس في كتابه الاعترافات، عدّة مرّات، على سَفَر المسيحيّ والكنيسة جمعاء إلى الآب.
ثالثًا – ممارسات الحجَّاج بين الأمس واليوم
كان السَّفر في فلسطين قديمًا قاسيًا جدًّا، إذ كان الحجّاج بغالبيَّتهم يسافرون سيرًا، فالأغنياء فقط كانوا يملكون الدوابّ. ثمّ كانت الطرق عرضة لمخاطر شتّى مثل قُطّاع الطرق والحيوانات المفترسة، فضلاً عن العطش والجوع. ولكنَّ بعض الحجَّاج لم يكتفوا بمواجهة هذه المخاطر ، بل آثروا الصوم في أثناء حجّهم لفترة تمتدّ بين خمسة عشر وعشرين يومًا، وبعضهم من كان يشحذ، وبعضهم الآخر لم يحمل معه سوى القليل من الخبز والخضار ومبلغ زهيد من المال. أمَّا عند بلوغ الهيكل فكانوا يقدِّمون القرابين ويمضون الليل في الصَّلاة.
بالطبع، تخلَّت الكنيسة عن كلِّ الرتب أو أشباه الرتب التي كانت متَّبعة قديمًا في الحجّ، إذ تشديدها هو على مسيرة المؤمن الروحيَّة. ولكن يُلاحظ أنَّ الكثير من المسيحيِّين الذين يَؤُمّون أضرحة قدِّيسين أو كنائس مشهورة، يحرصون على لمس حجارة المكان، وتقبيل الذخائر المعروضة، بل وبعضهم يمسحون عيونهم بالتراب أو يضعون على أجسادهم الزيت المقدَّس، ويشربون من ماء المكان. وبعضهم الآخر يدوّنون أسماءهم على الحجارة، كما هنالك مَن يقصد المكان لتعميد أولاده. مع كلِّ ذلك، يجب ألاّ ننسى أساس الحجّ وقد عبَّر عنه البابا فرنسيس بقوله: “الحجّ هو أن ندلّ على درب الرّحمة ونعيشها”[9].
خلاصة: أربعة أفعال تُلخّص الحجّ المسيحيّ
أ. إِنطَلِقْ: إنَّها دعوة إلى القيام بمسيرة على مثال مسيرة إبراهيم. إِنطلِقْ: يتطلَّب هذا الأمر من المؤمن أن يترك بيته، أي استقراره واكتفاءه ليخوض مغامرة برفقة الربّ. لقد أصبح إبراهيم أبا المؤمنين لأنّه تجاوب مع دعوة الربّ الذي قال له: “إنطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك” (تكوين 21). لقد آمن إبراهيم بكلمةٍ سمعها واتَّكلَ على وعد الله له ومشى. وهكذا هي الحال عند كلِّ مؤمن: إنطلاقته علامة تخلٍّ عن الاستقرار وخروج من الذات. فهذا هو الحجّ المطلوب. وقد ورد في تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ “الحجّ يذكر بمسيرتنا على الأرض نحو السماء. وهو تقليدًا زمن لتجدّد الصلاة بقوّة. والمعابد هي، بالنسبة إلى الحجّاج الساعين إلى ينابيعهم الحيّة، أماكن استثنائيّة ليعيشوا كنسيًّا أنماط الصَّلاة المسيحيّة”[10].
ب. سِرْ: على الحاجّ أن يقطع مسافة، أن يسلك دربًا تتخلّلها محطَّات متنوّعة ولا تخلو من المخاطر والمحن. وفي مسيرته، عليه أن يستغنيَ عن كلِّ ما هو غير ضروريّ، ويتّكل على بركة الله. وهذا يشبه مسيرة يسوع نفسه من الجليل نحو أورشليم؛ فقد اجتازها متّكلاً على أبيه، متخطّيًا كلَّ العقبات والمحن. إنّ “دخول بيت الله يفترض اجتياز عتبةٍ هي رمز العبور من العالم المثخّن بالخطيئة إلى عالم الحياة الأبديّة التي دُعي إليها الناس أجمعون”[11].
ج. أَقِمْ: يقول البابا بولس الثاني في رسالته الحجّ إلى الأماكن المرتبطة بتاريخ الخلاص “لا تدّعي المعابد أنّ الربّ موجود في مكان معيَّن لكن (…) ترمز إلى أنّ الله قد أقام وسط شعبه في يسوع، وأنّ مريم أمّه هي في زيارة دائمة إلى العالم”[12]. ويبقى الإصغاء إلى كلمة يسوع والمشاركة في الأسرار وتذكّرها مدخل “الإقامة” في الله والحياة معه.
د. عُدْ: الحجّ هو زمن العودة إلى الأصول، إلى الينابيع وزمن إرساء الأسس. ولكنَّ هذه العودة لا تعني أبدًا التغرّب عن الزمن الراهن، بل، على خلاف ذلك، تُعاش في صميم الحياة اليوميّة. فمسير “الحجّ” المسيحيَّة، تُعيد المؤمن إلى قلب عالمه وكنيسته.
لذا، ليس الحجّ، في النهاية، إلاّ تبنّي رسالة يسوع والسير على خطاه من أجل تحقيق ملكوت الله. ومسيرة الحجّ هذه يعيشها المؤمن والمؤمنون باتّكال على المسيح القائم من بين الأموات، مَن يُعطي كنيستَه السلام والقوَّة: “لا تخافوا”؛ “أنا معكم”، “السلام معكم”… فهكذا يحمل المؤمن والمؤمنون الرحمة، “سرّ خلاصنا”[13].
****
* مجلة المشرق الرقميّة- العدد الثامن.
[1] رسالة البابا يوحنّا بولس الثاني في شأن الحجّ إلى الأماكن المرتبطة بتاريخ الخلاص، المقطع الأوّل.
[2] البابا فرنسيس في رسالته الرسوليّة الخاصّة بيوبيل الرّحمة الإلهيّة. رقم 14.
[3] رسالة البابا يوحنّا بولس الثاني “إطلالة الألف الثالث”، 1994، رقم 32.
[4] رسالة البابا يوحنّا بولس الثاني في شأن الحجّ إلى الأماكن المرتبطة بتاريخ الخلاص، 1999، المقطع 3.
[5] L’Osservatore Romano du 22 janvier 2016, discours du pape François aux opérateurs de pèlerinage et recteurs de sanctuaires
[6] رسالة البابا يوحنّا بولس الثاني في شأن الحجّ إلى الأماكن المرتبطة بتاريخ الخلاص، 1999، المقطع 10.
[7] البابا فرنسيس في رسالته الرسوليّة الخاصّة بيوبيل الرّحمة الإلهيّة. رقم 2.
[8] Dictionnaire de spiritualité ascétique et mystique: doctrine et histoire, tome XII, première partie, Beauchesne, Paris, 1984. P. 890.
[9] البابا فرنسيس في رسالته الرسوليّة الخاصّة بيوبيل الرّحمة الإلهيّة، 2015، رقم 6.
[10] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيَّة، الترجمة العربيّة، المكتبة البولسيّة، جونيه، 1999.
[11] م.ن.، رقم 1186.
[12] رسالة البابا يوحنّا بولس الثاني في شأن الحجّ إلى الأماكن المرتبطة بتاريخ الخلاص، 1999، المقطع 3.
[13] البابا فرنسيس في رسالته الرسوليّة الخاصّة بيوبيل الرّحمة الإلهيّة، 2015، رقم 2.