بعيداًعن تهويمات ما يعرف بجبهة الممانعة عن انتصارات تحققت في سورية، وعن قرب الحسم العسكري في بعض الجيوب، لا بد من التمعن في ما يجري على الأرض السورية من صراعات محلية وإقليمية ودولية، تجعل الحديث عن النصر محفوفاً بعلامات استفهام كبيرة، بل أن المؤشرات تجزم بالمسافة البعيدة التي تفصل الحل السياسي للحرب عن الوقائع المتشابكة.
العنوان البارز اليوم يدور حول «تحرير» محافظة إدلب من المجموعات الإرهابية المعارضة. سبق للنظام وحلفائه إن رحّلوا المقاتلين من كل المناطق إلى إدلب، لتصبح اليوم الملجأ للمقاتلين. يعلن النظام جهارا نيته في تحرير إدلب مهما كان الثمن، ويعتبر أن هذا التحرير هو نهاية الحرب السورية وبسط سلطته على كامل الأراضي. تصميم النظام ينبع من حسم المعركة عسكرياً مهماً خلفت من خسائر بشرية وأدت إلى كوارث إنسانية، لأن ما يريده هو «التأديب» الكامل للشعب السوري لمنعه من التفكير لاحقا ًبالاعتراض.
لا يقف النظام وحده في المعركة، فهو يعتمد على حليفه الروسي في الحسم. روسيا لها مصلحة في إنهاء جيب إدلب. حجتها أن المعارضين فيها يستخدمون طائرات الدرون لقصف قاعدة حميميم على الساحل السوري. لكن روسيا تدرك أن التعقيدات التي تحيط بالحسم كبيرة جداً. تلجأ إلى مقولة التمييز بين معارضة معتدلة ومعارضة متطرفة هي جبهة النصرة، وهي حجة قديمة لجأت إليها في مناطق أخرى وكانت نتائجها إبادة كاملة للمعارضين. تدرك روسيا كما النظام أن التمييز بين معتدل ومتطرف شبه مستحيل، والتداخل بين القوى يمنع هذا التمييز. معضلة روسيا إدراكها أن اللجوء إلى أسلوب التدمير في إدلب على غرار ما قامت به في حلب والغوطة ودرعا، من استخدام أساليبها في الشيشان وإعتماد الأرض المحروقة، أن هذه الممارسة في إدلب ليست متيسرة على غرار سائر المناطق.
في إدلب، لتركيا دور يستحيل تجاهله، وهي لا تحبذ عملية عسكرية وفق ما يخطط لها النظام والروس. تهدد بالتدخل العسكري في حال حصلت العملية العسكرية. لا تستطيع روسيا والنظام تجاهل الموقف التركي، النابع من مصالح تركيا وليس من النتائج الإنسانية الكارثية. يسعى الروس إلى تسوية تمنع التدخل التركي، لكن تناقض المصالح يمنع الوصول إليها. في جانب آخر، تقف الولايات المتحدة في وجه إنجاز العملية العسكرية، وتهدد بقصف سورية إذا ما لجأ النظام إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، وهو تهديد شاركتها فيه فرنسا وبريطانيا، ما يجعل الأمور بالنسبة إلى الروس أكثر تعقيداً. يختلف الامر بالنسبة إلى الاميركيين عما حصل في الجنوب السوري حيث تخلت اميركا عن وعودها بمنع النظام من السيطرة على المنطقة، لأن اميركا كانت ترى في سيطرة النظام على الحدود مع إسرائيل ضمانة أمنية لإسرائيل. في الشمال السوري، حيث تتواجد قوات أميركية، لن تسهّل الولايات المتحدة الحسم العسكري، لأن الأمر مرتبط بالعلاقة مع روسيا والتسوية التي ستحصل بين الدولتين المعنيتين أساساً بالحل أو إنهاء الحرب السورية. الخلاصة من ذلك أن الحلول العسكرية لا تبدو في متناول اليد في ظل الصراع الإقليمي والدولي القائم.
إن الإتفاقية العسكرية الأخيرة مع إيران وتشريع وجودها العسكري في سورية، سيكون أحد العناصر في إعاقة إنهاء الحرب، خصوصاً أن اسرائيل تعلنها جهاراً وبالممارسة أنها لن تتوقف عن ضرب المواقع الإيرانية في سورية.
إذا كانت الحلول العسكرية في حالة من التخبط، فلا تعود الحلول السياسية في متناول اليد. ما يزال المبعوث الدولي دي ميستورا يحاول الوصول إلى تسوية سياسية، وإلى وضع مسودات دساتير لسورية المقبلة. عمل المبعوث الدولي ليس أكثر من تقطيع الوقت. فالنظام يرفض أي تسوية سياسية قبل أن تتم السيطرة العسكرية على الأرض. وعندما تحصل هذه السيطرة، لن يعود في حاجة إلى حل سياسي، لأن نظامه كما يراه سيظل الأمثل.
من ناحية ثانية، هناك مسألة شديدة التعقيد أفرزتها الحرب السورية تتصل بهوية البلد المستقبلية. سورية اليوم غير سورية قبل العام 2011، نسيجها الاجتماعي تفكك، النزعات الإثنية ارتفعت وتطالب بنظام لها فيه حصة، تصل إلى المطالبة باستقلال ذاتي. ومقولة سورية ذات الهوية العربية مطروحة للبحث، والوحدة السورية السابقة لم تعد موجودة، ولا تبدو الحلول الدولية والإقليمية متحمسة لإعادة هذه الوحدة. كلها عناصر تعيق إمكان الوصول إلى تسوية في المدى القريب.
يبقى عنصر مهم يتصل بإعادة إعمار سورية. بعد تصاعد الوعود ببدء الإعمار من أميركا وأرووبا، تلاشى الحديث عن الاستثمارات والإعمار من قبل هذه الدول، التي ربطت المساهمة بالإعمار بإنجاز التـــسوية السياسية، وهو أمر طبيعي لرؤوس الأموال التي تشترط السلم وانتهاء العمل المسلح ووجود تسوية تضمن الرساميل الموظفة في الإعمار.
وسط كل ذلك ستظل، سورية تعاني الدمار والبؤس وتشريد سكانها، تضاف إليها قبضة النظام وقمعه المتواصل لما تبقى من الشعب السوري.