قراءة في “في فلسفة الوصال الإنساني” للدكتور بشارة صارجي

 

1-المفكّر في الفلسفة ومكانة العقل

يُعلي بشارة صارجي من منزلة فعل التفكّر، ويجعل من العقل ميزة الإنسان بامتياز وطريقه إلى التحرّر، وسبيله إلى بناء الحضارة. يقول في كتابه  “في فلسفة الوصال الإنساني”: ” ينبغي على العقل أن يؤدّي دورا أساسيا، لأنه سبيل التطوّر في ذلك السياق العربي وخاصة سبيل الأنسنة”(ص264) ويضيف قائلا:”بسبب البادرة الفردية الصادرة عن العقل يتمتّع الإنسان الفرد بقيمة خاصة لا يُستعاض عنها، ولا تُستبدل… إن العقل يحرّر الإنسان من آلية الغريزة” (ص 165). وهويعطي الفلسفة دورا خلاصيّا، فيقول:” هدف الفيلسوف إعادة ولادة الذات بالمعرفة والحريّة واستنباط حلّ صحيح لمعنى وجودها، وهذا ما طبع كلّ فلسفة عبر التاريخ بدمغة تخليصية، إذ إنّ الفلسفة هي بأهدافها وأوضاعها، طريق خلاص، إن لم يكن بالواقع فأقلّه بالنيّة” (ص28).

ويشدّد صارجي على الدعوة إلى تفكير ملتزم بقضايا الإنسان والمجتمع، فمع الفيلسوف الفرنسي بول ريكور يذكّر بأن “الفيلسوف ليس مفكّراً منعزلاً، بل هو مدعو ليؤدي دوراً في مجتمعه ” (ص 63). ويُعلن  بوضوح: “الالتزام الأول يقضي برفض الانعزال…سواء على الصعيد القومي أم على الصعيد الاجتماعي” (ص 333). ومن اللافت جداً التزامه جانب التفكير الناقد، وهو من الكفايات البارزة في مشروع تطوير المناهج اللبنانية. في “أبعد من الماركسية”، ينتقد لجوء الماركسية إلى الثورة العنيفة لمحاربة الظلم، وقهر الشر بالشر” (ص 49). وفي نقده لسارتر صاحب مقولة “الجحيم هو الآخر”، يقول مدافعاً عن قوة الحبّ: “يستطيع الإنسان أن يحب، مهما سخرت بعض العقول المعاصرة من الحب، ومهما شوّهت له من وجه، ويبقى الحب أشرف ما يستطيعه الإنسان. الحب هو مشروع إله، هو الله” (ص 328).

ويشمل نقده الحضارة الماديّة والتقدّم الآلي. يقول مع بول ريكور: “إن التقدم الآلي يذكّر الإنسان بأنه مستهلك، بينما تذكّره الثقافة بأنه كائن خلاّق” (ص63)، ويقول مع ألكسي كاريل: “ليس هدف الحضارة تقدّم العلوم والآلات، بل تقدّم الإنسان” (ص 296). وختاماً لهذا القسم الأول أُبرز خاصة مميّزة في اعتبارصارجي الفلسفة متمركزة حول الوصال كما ورد في العنوان، لا حول العقل وحده إذ يصفه بالمحدودية، كما سنبيّن لاحقاً. الفلسفة عنده ليست عقلاً وحسب، بل فيها مكانة جوهرية للقلب والحبّ والوجدان أي ما سمّاه الوصال :في تركيب المصطلح فلسفة (فيلوصوفيا) ثمّة حب الحكمة وحكمة الحب، أو ما يسمّيه الصوفيون الوجد وما تسميه اللغات السامية الشرقية “اللبّ” وهو القلب والجوهر، وهو أيضا خالص العقل، وهو تجاوز الاثنين والمألفة بينهما.

2- المفكّر في الدين وجوهرية الإيمان

بداية، يهمّني أن ألفت الى أنّ تفكير بشارة صارجي يتركّز في الإيمان أكثر منه في الدين، يقول: “الدين أصبح أولاً سبب انفصال في المجتمع اللبناني بين مختلف الأفراد، وثانيا سبب ازدواج روحي عميق وخطير”  (ص37). وهو يصرّح باحترامه حوار الأديان، فيقول: “عليّ احترام إيمان غيري في حوار الأديان، فالإنسان قيمة على هذه الأرض، وعندما يجتمع مع الآخر يصبح قيمة أكبر” (ص265). ويجعل صارجي من الإيمان منطلق مفهومه للوصال الإنساني، من حيث هو تجاوز للعقل، وجواب على عطش الإنسان المحدود إلى المطلق اللامحدود. يقول: “لدينا في وجودنا الإنساني، إلى جانب العقل، ما نسمّيه الإيمان…العقل يمكن أن يكون جزئياً، بينما الإيمان يُدخلنا في حياتنا كلها. ” (ص264). فالإيمان طاقة تجاوز وتحرّر. يقول: “حرام أن لا يتحرّر الإنسان من حدوده. إنّ حدوده ليست في هذا العالم. حدوده الله. ما أشرفها من حدود! …كل إنسان هو سفير الكون إلى الله، وكل مسيحي مسؤول عن الكون كله أمام الله” (ص 277).

من هذا المنطلق، بتنا ندرك ما قاد صارجي إلى مفهوم الوصال. يقول: “الوجدان فعل مشاركة للمطلق عينه…عمل حبٍ، به يدعو الفعل الخالص الكائنات المحدودة العاجزة عن التماهي معه، إلى المشاركة” (ص8). وهذا التشارك – الوصال بين المطلق والمحدود يروي عطش الإنسان إلى الله، فيقول: “في أعماق الإنسان طلب ملحّ إلى أبعد مما يحصل عليه… إن هناك حاجات ملحّة في الإنسان أقوى من حاجات العيش، حاجات القلب لن يُشبعها إلاّ الله” (ص315). ويكتمل الإيمان بالله لدى الإنسان بالإيمان بأخيه الإنسان، وحبّه وخدمته والعمل على تنميته. يقول صارجي: ” ثبت عندي أنّ الأنانية تقتاد البشرية في أكثر أعمالها… فتاريخ الإنسانية مكتوب بالظلم والدم” (ص324). والمؤمن الحقيقي رسول محبة وعدالة: “لا يجوز فيما بعد أن تكتفي التربية المسيحية بتعليم الأطفال بعضاً من شرائع الله والكنيسة، بل عليها أن توجّه النشء الطالع، وتُفهمه أوضاع العصر، من ظلم وبؤس واستغلال وشقاء، داخل البلدان بين مختلف الطبقات والقطاعات، ومن عدم مساواة بين شعوب الأرض ” (ص 272). وأختم هذا القسم بقول صارجي، بلهجة نبوية: “المسيحي لا يكتفي ببناء وطنه فحسب، بل ينطلق إلى بناء عالم أحسن، يسود فيه السلام: المسيحي مسؤول عن كلّ الناس. والهناء عطاء وتغلّب على الأنانية” (275).

3-المفكّرفي السياسة والمواطنة والتربية

غلب على مقاربة صارجي للسياسة الفكر الوجداني العملي الملتزم، ومردّ ذلك، في اعتقادي، الى الصدمة التي أحدثتها في نفسه أحداث أو ثورة 1958 التي دفعته الى كتابة” تأملات لبنانية- الأسس لتطوّر لبناني”. يقول:” يوم سمعت الإنسان، عندنا في لبنان، يسأل أخاه الإنسان: هل اقتنيت السلاح لخوض حرب أهلية بين لبناني ولبناني…؟ وهت الحقيقة، وفشل المنطق، وخبا الحبّ”. (ص351) وقد أسفرت هذه المحنة عن موقف نبويّ متقدّم أطلقه يومها:” سقيا ليوم نرى فيه كلاّ من اللبنانيين يختطّ في وجدانه هذا القول: قبل أن أكون مسلما أو مسيحيا أنا لبناني”(ص352 ). ويعلّق صارجي لاحقا على موقفه هذا بقوله:” قلت شيئا في 1959، أغضبت فيه المسلمين والمسيحيين: ” قبل أن أكون مسيحيا أو مسلما، أنا لبناني، أنا كائن طبيعي وُلد في هذا البلد. هذا اللبناني يعتنق المسيحية أو يعتنق الإسلام” ( ص265). ويبني موقفا أكثر تقدّما، حين يربط المواطنة بالعلمانية، فيقول: ” توصي العلمانية الإيجابية بديمقراطية حيث يتساوى جميع المواطنين في الحقوق والواجبات” (ص347). وأعلن باعتزاز أن هذا الموقف المتقدّم ما زال الحلّ المنشود للتربية على المواطنة وعلى الوحدة في التنوّع،  نتطلّع إليه ونقترح تبنّيه في المشروع المطروح لتطوير المناهج اللبنانية. ويذهب صارجي إلى أعمق إذ يقول: “إن لبنان قبل أن يكون رقعة جغرافية ..هو وحدة كيانيّة إنسانيّة وليدة روح واحد، ووعي واحد، وجهد واحد. ولن يستقرّ فيه ازدهار إلا بفضل هذه الوحدة الكيانية التي لن تقوم على أساس التعايش، بل على أساس العيش المندمج، العيش المتفتح، العيش المشاطر” (ص 354).

أما ركيزة هذه المواطنة العلمانية الإيجابية، في إطار العيش الواحد المندمج، فهي الديمقراطية المرتكزة إلى “قوة الوجدان والوعي والإنسان، وإلى انقياده لإرادة حرّة في كلّ الأعمال. فأيّ ديمقراطية هي تلك التي يكثر فيها العبيد !” (ص360). وبتفكيره الناقد الحرّ، يشجب  الاستزلام، فيقول: “الزلمة يُمسي سلعة رخيصة في يد الزعيم. هو سلعة الزعيم في أفكاره، إذ لا يفكّر إلا في رأس سيّده، يستصوب ما يستصوبه ذاك، ويخطّئ ما يخطّئه” (ص 360). ويضيف أيضاً: “أين نحن من يوم، يقتنع فيه الجميع أن أساس الديمقراطية ليست الحرية العمياء، وليست الحرية البلهاء، إنما هي في حرية الإسهام الفعلي، في بناء المجتمع وازدهاره”(ص 365). ما أبلغ هذا النقد في أيامنا الحاضرة وما أكثر ملاءمته لها! ولا يتردّد صارجي في نقد اللبناني لوضعه أمام ذاته، قائلا: “الإنسان اللبنانيلعوب سريع النسيان، وغايته من لعبه مأرب تجاري أو مركز سياسي، وقد ينسى عالم القيم والكيان” (ص 368). ولكنه لا ينتقد اللبناني إلاّ ليضعه أمام مسؤولياته، فيقول: “يجوز المتاجرة في مختلف الأمور واستيراد كل مؤهّلات الرفاهية والهناء. انما اختيار النموذج اللبناني لن يتأتى من استيراد، ولن يتمّ على أيدي أجنبي. لن يكتنه الوضع اللبناني تمام الاكتناه إلا اللبناني وحده: يبقى ثابتاً أن القوة المسيّرة العالم لن تكون إلا الفكر، ولن يقوم مجتمع سليم إلا على أكتاف الفكر. ويحتاج لبنان الآن إلى رجال فكر مخلصين: نسألهم تخطيطا للقيم الإنسانية المثلى وللنموذج اللبناني الصحيح” (ص368). ويدعو صارجي إلى مسيرة وحدة وطنية جديدة تقوم على ركيزتين:: “ثقافة تأخذ بيد الإنسان… وتبرزه وجداناً واعيا، وتربية… تبرزه حكيماً فطناً: لا ديمقراطية بدون النهل من منهليالثقافة والتربية” (ص366).

ختاما ، يدعو بشارة صارجي في فكره الفلسفي والديني والوطني إلى الإيمان بلبنان وطناً ثابتاً خالداً، “لا وطناً عابراً”، ويقول لمن انقادوا إلى الشك في حقيقة لبنان، وثبات كيانه، ففضلوا الهرب من الخطر على خوض معترك البنيان والوجود: “الوطن كالوجود وديعة، ولا بدّ يوماً من أن تُردّ الودائع”. واللبنانيون، في رأيه، مدعوون إلى أن يُعنوا بتربية ذاتهم تربية شريفة، لأن “الإنسان وجود في التاريخ ليحقّق جوهراً أزلياً… الإنسان سرّ التاريخ، ومدعوّ لوراثة الأزل” (ص364).

***

(*) ندوة في الحركة الثقافية- أنطلياس في 18-3-2018.

اترك رد