“الإنسانوية التصويرية اللبنانية: جورج داوود قرم (1896-1971)”، عنوان المعرض الذي تنظمه الجامعة الأميركية في بيروت، يتضمن مجموعة من اللوحات للرسام التشكيلي الرائد جورج داوود قرم، قدمها الدكتور سمير الصليبي إلى الجامعة الأميركية في بيروت. عرف جورج داوود قرم كرسام وكاتب وناشط ثقافي، فإلى جانب اللوحات والرسوم التي يعرض بعضها للمرة الأولى، مقالة لقرم بالفرنسية بعنوان “الفن والحضارة في الزمن المعاصر” (1966)، أعيد نشرها خصيصاً للمعرض بالعربية والانكليزية.
نزعة إنسانوية
يقول قيم صالات العرض في الجامعة الأميركية في بيروت أوكتافيان إيسانو: “ننظر إلى النقد الذي وجهه جورج داوود قرم، وأطلقه من نزعته الإنسانوية، كمكون لا مناص منه في عملية التحديث الفني في الشرق الأوسط ولبنان، وذلك سواء وافقنا معه أم لا”.
يضيف: “قاد جورج داوود قرم نضالا ثقافياً يرتكز على قيمه الإنسانوية والروحية. وبفضل جهده الدؤوب ومساهماته، بات لبنان اليوم يمتلك مؤسسات فنية مثل الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، والمعهد العالي الوطني للموسيقى (الكونسرفاتوار)، ومتحف مدينة بيروت، وجمعية أصدقاء الفنون، وغيرها من المشاريع السياسية والثقافية المخصصة لإبراز الهوية والثقافة اللبنانيتين”.
أما الدكتور جورج قرم فأوضح أنه من الملائم أن يقام معرض حول أعمال والده في الجامعة الأميركية في بيروت، خصوصا أن الجامعة تجهد لإبراز الفن اللبناني وإقامة متحف للفنون. يضيف: “هذه مشاريع نادى والدي بها باستمرار منذ عودته عام 1922 من باريس، حيث درس الرسم في المعهد الوطني للفنون الجميلة”.
يتابع: “الفنان الراحل تراسل كثيراً مع الجامعة الأميركية في بيروت في خمسينيات القرن الماضي، محاولا دفعها لإنشاء دائرة للفنون الجميلة. كل هذه الأمور تحققت اليوم وأنا فخور بأن تأثير والدي قد يكون ساهم في هذا الإنجاز… ما تقوم به الجامعة الأميركية في بيروت اليوم، لحفظ الميراث اللبناني الفني لصالح الشعب اللبناني، هو خطوة جريئة تملأ قلوبنا فخراً وتأثراً. والواقع أن ما يسمح لوطن صغير بالوجود وبأن يكون محترماً ليس جبروته العسكري أو منجزاته الاقتصادية بل ثقافته وإبداعه الفني. إن أدباء لبنان وشعراءه وفنانيه هم مفتاح بقائه وشهرته في كل أرجاء العالم”
بدوره يقول رئيس الجامعة الدكتور بيتر دورمان “إن طموحات الوزير الدكتور قرم توازي مهمة الجامعة. ونحن ملتزمون بحماية الفنون وميراث لبنان الثقافي وإيرازها، لأننا في الجامعة لا نكتفي بتعليم الفنون للطلاب، بل نؤمن بأن تعريفهم إلى الفنون ومنحهم الفرص لاختبارالفنون والعلوم الإنسانية ضروريان لبناء مجتمع متحضر ومنفتح ومتسامح”.
يفتح المعرض أبوابه بين الثانية عشرة ظهرا والسادسة مساء، الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت، في شارع الصيداني – مبنى منامة الطالبات في الحمراء. ويستمر لغاية 19 إبريل 2014
جورج قرم بقلم د. مهى سلطان
جورج قرم فناّن استثنائي ورسّام بورتريه من الطراز الرفيع، اهتم بالفنّ المعاصر فترك فيه بصماته الخاصة. اللافت في نتاجه هي لوحات الأوتوبورتريه بمختلف التقنيات. ترك دراسات مدهشة بالأقلام والباستيل سجل فيها حركات ووجوهاً ومواقف إنسانية. كان يفتش عن التجديد في اسلوبه الفني، هذا التجديد الذي ظهرت بوادره الأولى حين اخذ يصوّر مناظر لبيوت بيروت القديمة. لطالما كان يرددّه: “الفنون والآداب هي خلاصة الحضارات. وفنون الشعوب لا تكون الاّ على صورة مثلها وأخلاقها”.
لم يكن سهلاً أن يرث جورج داوود قرم أمجاد ابيه الفنان داود قرم (1852- 1930)، مؤسس بدايات التخضة الكلاسيكية في لبمنان. درس الفن في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس (1919- 1921)، ثم عاد إلى لبنان وراح يطالب سلطات الانتتداب بتأسيس متحف وطني للآثار والفنون وعين عضواً في اللجنة التنفيذية المكلفة بذلك، وساهم بإنشاء المعهد الموسيقي للآثار والفنون، ثم اضطلع بدور المدافع عن ثقافة وطنية كانت قيد التكوين، تهيئةً لمرحلة الاستقلال. دافع في مقالاته عن لبنان ككيان حضاري مستقل، وفاز في أول مسابقة لتصميم رسم ميدالية الاستحقاق الوطني. شارك منذ العشرينات من القرن الفائت في صالونات فنية أقيمت في باريس ولندن ولبنان والإسكندرية والقاهرة. حاز الكثير من الأوسمة وله أعمال في بعض المتاحف الأوروبية.
لعل ميزة جورج القرم أنه فنان مثقف متعدد المواهب، فهو باحث وكاتب بالفرنسية، وموسيقي برع في العزف على البيانو. صادق المفكرين الشعراء والموسيقيين. لكن شخصية الفنان الشغوف بالرسم، طغت على ما عداها، كما تؤكد لوحة «الفنان داخل مرسمه»، حيث تتبدى شخصية المصوّر الذي يحمل طبق ألوانه وحزمة الفراشي، مرتدياً مريلة بيضاء يهمّ برسم لوحة مشدودة أمامه، والى جانبه رفوف المكتبة، ومن خلفه يبدو البيانو صامتاً بانتظار ان يفرغ الفنان من اللوحة لينصرف إلى العزف. وكثيرة هي لوحات الصور الذاتية التي صور فيها الفنان وجهه في مختلف مراحل عمره، من مقتبل الشباب إلى مرحلة النضج. وهي وجوه متعددة من معاناة الفنان وأحلامه وصراعه مع مجتمعه.
وكثيراً ما عكست عنفوانه وثقته وحزنه ونظراته المشبعة بالتحدي كما يتراءى ذلك في لوحة بورتريه رائعة تركها عمداً غير ناجزة، يبدو فيها الرجل المتأنق بنظارتين وبدلة رسمية، عميق النظرة ذا رؤية استشرافية جورج قرم هو من ابرز فناني الرعيل الثاني، الموصوف بأنه رعيل الهجرة والارتحال (يوسف الحويّك، جبران خليل جبران، فيليب موراني) انتقل إلى مصر عام 1930 فأقام في الإسكندرية بعد زواجه من ماري بخيت ابنة يوسف بخيت تاجر القطن في بورصة الإسكندرية. ساهم هناك في إنشاء رابطة للفنانين أطلق عليها اسم «المشغل»، للدفاع عن حقوق الفنانين والكتّاب وتنظيم المحاضرات والحفلات الموسـيقية، وعندما انتقل إلى القاهرة سنة 1948 أنشأ رابطة مماثلة بالاسم نفسه، وبرزت موهبته الفنية كرسام وأديب ومحاضر في الفنون (له محاضرة متميزة بعنوان: «نفسك لوحة مختارة» ألقاها في القاهرة عام 1952.
جورج القرم هو رسام النخبة الاجتماعية والطبقة الأرستقراطية بامتياز. استطاع أن يعبر عن الحضور الباذخ لهذه الطبقة في صورٍ كاملة من الرأس إلى القدمين، في أحجام كبيرة، ليعكس المناخات المرهفة لعالم الحجرة من الداخل الحميم بعناصره وتفاصيله على نسق لوحات دافيد وآنغر (مدرسة الكلاسيكية – المحدثة). فمحاكاة الطبيعة الإنسانية بمظاهرها تحضر في جمال جلوس المرأة على الأريكة الوثيرة ومن حولها الوسائد المخملية، أو في التموضع الطبيعي للمفكر اللبناني ميشال شيحا في غرفة مكتبه إزاء حائط متقشف بلون واحد، لا تضاهيها سوى لوحة «ويسلر» الشهيرة لصورة أمه بمواجهة الحائط التي أصبحت أيقونة العصر في أميركا. إلى ذلك ثمة لوحات نصفية من نوع البورتريه لوجوه عائلة القرم من الأب والأم إلى الأشقاء والأصدقاء، حيث تتبدى مهارة الفنان في قطف الملامح كاملة على خلفية عبارة عن ضربات قليلة من الطلاء على القماش كي تبدو عمداً غير ناجزة، ما أعطاها قوة في التعبير الخاطف والحضور الآسر للشخصية.
أما المناظر المصرية، فتعود في إنتاج جورج القرم إلى حقبة الثلاثينات، عندما صوّر موضوعات القوارب الراسية على ضفاف النيل وشواطئ الإسكندرية وأحياءها الراقية وحدائقها وبيوتها الفخمة، فضلاً عن مَشاهد القنوات والترع انتقالاً إلى حي الغاردن سيتي في القاهرة. كانت الإسكندرية عاصمة كوزموبوليتية تجمع بين ثقافتي الشرق والغرب، وقد استطاعت النخبة البورجوازية اللبنانية ان تقيم علاقات ثقافية وتجارية واسعة في تلك الحقبة التي عرفت ازدهاراً بلا مثيل. لعل إقامة جورج في القاهرة، حملته على متابعة مسار أبيه داود الذي تبوأ منصب الرسام الخاص لعائلة الخديوي عباس حلمي الثاني، كما وضعته على احتكاك مع الجاليات الأجنبية والمعارض الفنية التي سادتها النزعة الواقعية. بعد عودته إلى لبنان في منتصف الخمسينات، عكف القرم على رسم المناظر الطبيعية في نزهاته ما بين الريف والجبل والمدن والقرى. فأضفى على مناظره شاعرية لونية خاصة، تجلت في طبقات كثيفة من الألوان الزاهية، هي ألوان الغروب والأنوار السماوية الساطعة والحقول الربيعية، كأن نجد الفنان يصور نفسه وهو يقوم برسم لوحة من الطبيعة على طريقة فناني الباربيزون، هي من الأعمال المتميزة.
يعود الرسام إلى ذاته يسائلها وسط الأجواء المشحونة التي حملت إلى الفن كل صيحات الحداثة الآتية من الغرب. لم يكن في الإمكان وفق التنشئة الفنية التي تلقاها القرم أن ينخرط في موجة تفكيك الأشكال وتجزئتها في مدارس التكعيبية والتجريد، التي واكبها في باريس من دون أن يتعاطف معها، لا سيما أن مرحلة العشرينات، كانت تستدعي الائتلاف والتجمع حول صيغة لبنان الطامح إلى التحرر والاستقلال من الاستعمار الفرنسي. ولم يكن في الإمكان أيضاً لفنان ورث عن والده شغف التصوير الكلاسيكي وحب اكتشاف الإنسان، حتى وصل الى مرتبة رسام الملوك العرب والوجهاء (لوحة الملك عبدالعزيز بن سعود)، ان يسعى الى تحطيم الشكل والى التحريف والتشويه كي يكون في نظر المجتمع البيروتي في الستينات حديثاً وعصرياً.
تلك كانت أزمة جورج القرم الذي راح يفتش عن التجديد في أسلوبه الفني من دون أن يخون هواه للواقع. وفي العقد الأخير من حياته وبعيداً من الأنظار، شرع يصور مناظر مدينية لبيوت بيروت المزدانة بالحدائق، برؤية محدثة، يتبادل فيها النور الساطع للسماء الزرقاء مع الحدود المنكسرة للظلال على جدران الأبنية المغطاة بالقرميد الأحمر، بأسلوب تبسيطي – حجمي يقترب من تكعيبية سيزان. ووجد في أحضان الطبيعة اللبنانية، الصفاء والتجرد والجرأة على اختصار الأشكال إزاء الغلو اللوني للفرشاة التي ترنو الى الآفاق النورانية.
“إن الفنون والآداب هي خلاصة الحضارات، وفنون الشعوب لا تكون إلا على صورة مُثلها وأخلاقها”، هذا قول مأثور لجورج القرم الذي عاش حياته يدافع عن القيم الإنسانية في وجه التغريب مستشهداً بقول للشاعر الفرنسي فرلين: «إن نفسك لوحة مختارة”.
ظل جورج القرم واقعياً أكاديمياً في الستينات حين أخذ الفن التجريدي يطغى على معارض بيروت، لذا اعتبر رساماً أصيلاً بعيداً من مفاهيم الحداثة الطارئة.
كلام الصور
1- 2- 3- من أعمال جورج داوود قرم