المقصلة

(1)

عنبر الموت لا ينام إلا بعد الفجر. حين يتأكد كل مسجون أن أمامه يوماً جديداً.

كنا سبعة في العنبر، يعرف بعضنا بعضا حق المعرفة.

كلنا قتلنا ومشينا في إجراءات النقض، ومنا من رفض نقضه، ومنا من ينتظر.

وذات مساء جاؤوا لنا بضيف جديد. واسيناه وهدأنا من روعة كما صنعوا معنا في أول دخولنا العنبر.

دخلنا زنزانته وفرشنا له البطاطين وأعطيناه أكلاً وسجائر، وتعرفنا علي الأربعة الموكلين بحراسته. فلكل منا أربعة يحرسونه في الدخول والخروج، حتي إذا جاء وقت التنفيذ أدوا مهمتهم في أقل من نصف ساعة.

هؤلاء يقفون أمام كل زنزانة أغلب الوقت. وإذا جاء ضيف جديد يبتعد الشويشية والمخبريون ورجال مباحث السجن ويسمحون لنا أن نجلس جميعا وأمامنا ضابط . هذه الطقوس ألفناها منذ لبسنا البدلة الحمراء

إلتففنا حول الرجل وأشعل كل منا سيجارة وراح يسأله عما يعنّ على باله. ليس في الوقت متسع. ربما لا يتكرر هذا اللقاء. الأمور تتم بسرعة وصرامة. والناس بالعنبر يتبدلون ويتغيرون.

مجرد أنك تتحدث وحده ترف. والرجل الذي لم ينطق وما اهتم بالبطاطين أو السجائر، كان في يده مصحف صغير يقبض عليه بين وقت وآخر، وبعدما صلى وجلس معنا ربع ساعة دون أن يحرك ساكنا سأله أحدنا: إسمك إيه يا حاج؟. نطق على عجل: صبحي عبد الحميد أحمد فتيان.

سأله ثان: جاي في إيه؟

قال الرجل: والله ما عملت حاجة؟ والله العظيم مظلوم، وصار يبكي.

نظرت للرجل وسقط بقلبي صدقه، وراح رابع يربت على كتفه.

وقال خامس: كلنا قتلنا، وأمام القاضي نقول إننا مظلومون.

كان من الثلاثة الذين لم يقبض نقضهم. وحرك الرجل يده بالمصحف أمامه حتى يراه السبعة والضابط الذي يصور المشهد في رأسه وهو يقول: والمصحف الشريف مظلوم.

قال الثاني من الذين رفض نقضهم : (إيه اللي) حصل؟

لان الرجل قليلا ورفع رأسه ينظر إليهم ويدور بعينيه في جنبات الزنزانة كأنه حضر في التو. والزي الموحد جعله يفتش عن عيونهم بين الدخان والغمام.

ولما ركن قمع رأسه للحائط أخذ يقول: أنا خافير على جنينة تفاح. جنينة كبيرة،أكثر من عشرين فدانا. وجدت علي المشاية الغربية سيارة نص نقل كابينة واحدة وأنا أتمم على البوابات والمشيات والمبنى قبل أن أنام، ولما نظرت بداخلها وجدت إمرأتين قتيلتين، ذهبت للمركز وبلغت، كان ابن العمدة بسبب حريم، العزبة كلها تعرف.

وفي المركز خرجت معي قوة إلي هناك ، وطلبوا مني مساعدتهم في نقل الجثث إلى سيارة الشرطة، ويلا أركب. عملوا لي محضر قتل مع سبق الإصرار والترصد. ومن مكتب لمكتب حتى جئت لكم.

قال الثالث الذي لم يقبل نقضه وكان أصغر السجناء السبعة وفي السادسة والعشرين : ربنا موجود يا عمي صبحي، تنزل في النقض.

أمامك أسابيع ثلاثة ولك زيارة كل يوم تطلب فيها من تريد. قال الرجل: إمرأتي ميتة، وليس لي من الدنيا سوي ولد وبنتين وثلاثة قراريط. أطلب أشوف البنات . قال الشاب: لو عشت لغد رأيتهما معك من السلك. تطمئن عليهما، وتطمىنان عليك. ضم لإخوتك الأربعة. وحاول أن يجعله يضحك وهو يقول: يمكن الدور علي يا عمي صبحي.

وسأل الضابط الذي جلس على كرسي في منتصف الباب عن الساعة ؛ فقال وهو يتثائب؛ معكم خمس دقائق حتى يأتي لكم الشوشية، استعدوا.

نهض اصغرهم أولا.  كان الأقرب للضابط والباب. أشعل سيجارة جديدة وراح ينفث منها علي عجل وهو يقول: اليوم طلبت أمي للزيارة يا عم صبحي، وأحس أني لن أراها. الأمل في الله يا رجل. أقرأ القرآن ولا تمل حتى تموت مرة واحدة. ولا تنسانا من الدعاء. لقد صرت تعرف أسماءنا جميعا.

وفي تمام الثانية صباحا عاد كل واحد منهم إلى زنزانته. وأطفئت مصابيح الإضاءة في كل العنبر. ولم ينم السجناء الستة إلا بعد خروج الشاب إلى المقصلة.

***

(2)

السجن عمومي شديد الحراسة، واحد من خمسة في عموم القطر. يرد إليه المساجين من عدة مقاطعات للتنفيذ.

وفي الأسبوع التالي صرنا خمسة بعدما فارقنا الذين لم يقبل نقضهم، وورد علينا خمسة أخرين، وصرت اقترب أكثر من صبحي.

الزيارة الأولي التي زرتها معه جعلتني ارتبط به أكثر. لقد حللت محل الشاب الذي قضى ولم ير أمه. ابنه ترك البنتين ورحل. والبنتان يزرعان الفجل والجرجير والبقدونس ويبعان في السوق. ولا أحد من إخوته يزوره. لقد قبل نقضي وانتظر خلع البدلة الحمراء، ولا شك عندي بقبول نقض صبحي. إنه يكبرني بعامين لكنه هزيل.

أنا في السادسة والخمسين وهو في الثامنة والخمسين ، ولا يمكن لعاقل أن يصدق أنه يقتل إمرأتين ولا حتي واحدة. والتنفيذ في السجن الذي يسع 12 ألف مسجون يزيدون وينقصون في عدة جهات. هناك طبلية في كل جهة.

فقط أرى الراية السوداء فاعلم أن هناك من ينتظرون الإشارة. تمرست في سماع وقع الأقدام. تلك التي تمضي وتغيب. أسمعها في آخر كلماتها ثم أعرف من بعد ماذا أجاب حين سألوه نفسك في إيه؟.

يدخل عليه الأربعة الموكلون به الزنزانة مرة واحدة. فإذا تم تكتيف الذراعين خلف الظهر سقطت أعصاب القدمين. يمضون به وهو يهذي ويجر قدميه خلفه. اللحاء الموجود في الركبتين ييبس ويجف. وأصابع القدمين تبقي على العصب ويتجمد فيها الدم. وإذا وضعوا في رأسه الماسك الأسود تحشرج فيه النفس. أما إذا دخل الغرفة ورأى الحبل الغليظ المجدول و الطبلية هاجت نفسه وصارت كأفعي ترغب لو لدغت كل من حولها. بالنهاية لا سبيل سوي الاستسلام. يجلس علي كرسي ويسمع الشيخ الذي يلقنه الشهادة ويحققون له رغبة سريعة أخيرة.

هذا أسبوعي الثالث بالعنبر .

فقط أرى الراية السوداء من شباك الزنزانة فاترقب الليل وأبقى طيلة الوقت أقول لأي الجهات تأتي الإشارة؟.

فإذا شعرت بصرير المفتاح والتكات الثلاث ، أطرقت السمع حتى أعرف. بعدها أنام نوم الميتين لأكثر من أربعة عشرة ساعة. أصحو فيها مرة واحدة لأبول.

مضت أسابيعي الثلاثة وقبل نقضي ومع ذلك مازلت أسيرا لتلك الأصوات. صبحي شغلني طيلة الليلة الفائتة . اليوم يتحدد مصيره. لم يفارق مصحفه ولم يترك فرضا ولم يتكلم عن غير البنتين. صنع معي ما يصنعه الشويشية مع من أتت باسمهم الإشارة. يشاغلونه طيلة الوقت من باب الزنزانة. إنه مرعوب ومزوي ببطاطينه ويحدثني وأسمعه، وكلما إطمئن وظننته قمع هواجسه، استبدت به المخاوف من جديد.

صبحي ينتظر الآن معرفة مصيره. الأربعة المكلفون به سيبلغونه. وأنا في الزنزانة التي تجاوره أدفع عن نفسي المخاوف. هاجمتني موجة شك أهلكتني. موجة عاتية شملت الضابط والمحضر والقاضي والمحكمة. صرت أشك في رئيسي في العمل ورئيس الحي وناظر المدرسة. ولولا أن وجود الله لم يتطرق إليه شكي لأنفجر رأسي اليابس وتشظي.

ولما أبلغ الشويش صبحي برفض نقضه انهمرت دموعي دون أن يصدر مني أي صوت.

ليلتان كرهت فيهما نفسي. صبحي مطمئن وأنا الخائف. كلما حاولت إغماض عينيّ تمردت ودمعت. وأشعر في جسدي كأن النوم فارقه دون رجعة. ما عدت أنظر من النافذة. وما عدت أسمع أنفاس صبحي إلا في صلاته.

وفجأة سمعت صرير المفتاح. وسمعت صوت المأمور يقول والشاويش يشعل المصباح: لما وصلت الإشارة، وسمعت اسمك جئت إليك. لن يمسكك أحد. أنت ستمشي إلى جواري. نهض صبحي خفيفا ينظر في عيني المأمور وما قال إلا كلمة واحدة: خلاص؟.

وخرج يمشي ثابتا كأنه خارج للزيارة. ولما دخل الغرفة ورأي الحبل الغليظ والطبلية صلي من جديد. ولما فتحت الطبلية وتدلت أقدامه، هن المأمور الجامد وفاضت عيناه بالدموع.

اترك رد