خَــزْنَــــةُ الوقت

  
كان لديّ وقتٌ كثير
فائضٌ فضفاض،

كأوقيانوسٍ
راقدٍ مهدهَدٍ
في حضن الأرض
لا ينضب،
وكنت مطمئنة لعظَمته،
لا أرى حركته
ولا تُريبُني لُزُوجةُ التبخُّر.
***
كان الوقت يخيِّل كالريح
في دوائر مفتوحة
أو يختبئ كالعطر في براعم الوعود.
اعتقدتُ أنه قابعٌ في خَزْنَةٍ
صنعتُها بقش الثقة وخيوط الخفقان
ولَمْ أحمِها بقفل
ظناً أن الوقت لن يهرب إلا معي…
وكنت أقول
لديّ شاسع الوقت،
فلأهدرْ منه،
ولم يكن للهدر أثرٌ بائن
وقد هدرتُ
لأجدَ أمكنة تائهة،
لأُحيي كتباً نائمة،
لأقرأ وجوهاً مغلقة،
لأزرع حناناً في قلوب خاوية،
لأغامِرَ في فكِّ الطلاسم،
لأفكِّرَ في المعلوم والمجهول،
لأسألَ الله كلَّ الـ”لِماذات”
وأتأملَ الأجوبة الحبلى بالأسئلة.
كان لديّ الوقت
لأكبرَ
لأصِلَ
لأتردَّدَ
لأحلمَ.
كان لديّ الوقت
لأبدأ
لأكتبَ
لأُحِبَّ
لأحبلَ.
***
كان لديّ بهاءُ الصباحات وحنينُ المساءات،
ثواني الدهر ومَللُ النهارات،
فصولُ الطقس ومواسمُ الشمس،
كان لديّ الحياة
كل الحياة
لأعرف الحياة،
لأفكَّ ألغازها
أضيعَ في جدواها
وأنهلَ من إكسيرها.
وكنتُ أرى الوقت مِن وراء الحياة
أو مِن أمامها،
كأنني لستُ فيها
كأنني لم أولَد بعد،
ولديّ وافِرُ الوقت لأولد.
***
كان الوقت يتساقط غزيراً
كمطرٍ استوائي أمام بابي،
وكنتُ أتأمَّله يسيل إلى وادي الضجر،
يتكاثر في شلال الزمن
ويتناقص في ساقية عمري.
***
ماذا فعل الوقت
عندما صدَّقتُ أنه وفير؟
كيف تَبخَّر الأوقيانوس
في جنح الظلام
أكثر مما تحت لظى الشمس؟
رأيتُ هنا وهناك
ماذا فعل الوقت
عندما تضامن مع العناصر:
كان يتسرَّب من بين مسامي
ويذهب ليمدَّ الأشياء بالديمومة…
***
لم أعد أذكر متى.
ذاتَ أيِّ صباح؟
عند أيِّ تَحوُّل؟
بدأ ألمٌ غريب يلمُّ بي ما أن أفتح عينيّ،
كأنه لهبٌ يتراقص من نار
أو صدى لصفّارة قطار
كأنه جرس إنذار
يرنُّ بعد أن أصحو
وصحوي هو الذي يوقظه.
لم أعد أذكر متى.
ذاتَ أيِّ أبيض تسلل إلى شَعري؟
أو عند أيِّ خطٍ تَرسَّم في بشرتي؟
ذاتَ أيِّ خيبةٍ عكَّرت جدولَ أحلامي؟
أو عند أيِّ شمسٍ أنضجَتْ فاكهةَ الطفولة؟
أدركتُ
أن مطر الوقت
لم تجمعْهُ سلالُ حياتي،
وأن ولادتي كانت بدايةَ سباق
لم أتلاءم مع سرعته.
كان الوقت هو الأرنب
والسلحفاة أنا،
وخلافاً للحكاية،
فهو ربح السباق!
لم أعد أذكر متى،
لكنني أذكرُ أدركتُ
أنه ألمٌ في الإدراك،
ألمٌ من الإدراك،
ألمٌ فوق الإدراك
أنْ كان لديّ الوقت لأضلل الموت
وكنتُ منشغلة بقتل الوقت وجذب الموت.
لطالما كان الوقت هنا
وكان الكثيرُ منه،
لي،
أفلحتُ في تبديده…
وسيكون الكثير من الوقت بعد،
ولكن ليس لي،
فقد أفلح في تبديدي…

(أيار 2018)

****

اترك رد