كيف تباد الكتب في العصر الحديث؟

في التاريخ القديم والحديث، هناك نوعان من إبادة الكتب، واحدة ناجمة عن ظروف وكوارث طبيعية تتجاوز قدرة الإنسان على التدخل فيها، من قبيل ما حصل في الفيضانات التي اجتاحت فلورنسا في العام 1966 والتي أتلف فيها حوالي مليوني كتاب، قسم منها مخطوطات نادرة وثمينة، او في ما جرى في مكتبة أكاديمية العلوم في لينينغراد، حيث التهمت النيران حوالى ثلاثة ملايين ونصف كتاب في العام 1988. هذه الكوارث تصيب المرء بالأسى والأسف لكونها تطاول تراثاً ثقافياً متراكماً.

أما النوع الثاني من الإبادة، وهو الأسوأ والهمجي في الوقت ذاته، فهو ما عرفه التاريخ العالمي على امتداد عصوره، خصوصاً الحديثة منها، حيث كان القصد متعمداً من السلطات الحاكمة في تدمير المكتبات بشكل كبير، عبر الحرق والرمي في الماء، أو تطاول كتّاباً معينين لا ترضى هذه السلطات عن أفكارهم بل تعتبرها تشكل خطراً على توجهاتها السياسية. والتاريخ يحمل أعداداً ضخمة من الذين جرى التنكيل بهم من خلال إحراق كتبهم. كتاب ريبيكا نوث الصادر عن سلسلة «عالم المعرفة»، بعنوان «إبادة الكتب، تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين»، يسلط الضوء على هذه المسألة بشكل كبير. ترجم الكتاب عاطف سيد عثمان.

يتساءل الكاتب عن الفارق بين الذين تفجعهم كارثة تدمير الكتب والمكتبات، وبين الذين يلقون بالكتب طواعية بل وبابتهاج في قلب النيران؟ وكيف تنسجم مُثل التقدم الإنساني مع العنف والتدمير الواسع النطاق للثقافة اللذين ميزا القرن العشرين؟ إن العنف تجاه الكتب والثقافة عامة، والذي تقوم به أدوات السلطة، ليس مجرد نزعة شر محض، بل يأتي في سياق الصراعات السياسية التي اندلعت في القرن الماضي، خصوصاً في تلك التي بنت أنظمة شمولية، وتحولت منظوماتها العقائدية إلى إيديولوجيات راديكالية.

اختار الكاتب عدداً من الأنظمة السياسية التي سجلت تدميراً هائلاً للثقافة وكتبها لأسباب ايديولوجية وسياسية. أول هذه الحالات هي النظام النازي في ألمانيا في النصف الأول من القرن العشرين. وجدت القومية والإمبريالية والعسكرية العدوانية والشمولية لنفسها جميعها مواضع راسخة في مجتمع ألمانيا في ظل قيادة هتلر. إضافة إلى إبادة أكثر من 21 مليون رجل وامرأة وطفل، سعى النازيون إلى الاستيلاء على التراث الثقافي لأعدائهم أو محوه في أثناء موجات العنف. خلال سعيهم هذا، استخدم النازيون تدمير الإرث القومي والإثني سلاحاً من أسلحة الحرب، وأداة للإبادة الثقافية أو الحط من قدر الثقافات الأخرى، ووسيلة لبناء مستقبل مصطبغ بالصبغة الألمانية. كما شدد النازيون إجراءات الرقابة على المطبوعات ونهبها، وفي النهاية تدمير الكتب والمكتبات وفقاً لتصنيف الفوقية والدونية العرقية والإثنية بما جعل البشرية تخسر في الثقافة كما خسرت في زهق الأرواح.


في مقابل النازية، كانت الأنظمة الشيوعية تأخذ المسار نفسه في التصدي لكل فكر يتناقض أو يتعارض مع منظومتها الإيديولوجية. لعل المثال الأوضح والأفدح هو ما عرفته الصين خلال فترة الثورة الثقافية في ستينات القرن الماضي. المدهش أن الصين نفسها عانت من تدمير الكتب والمكتبات على يد اليابانيين في الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي، حيث سادت في اليابان نزعة قومية متطرفة، عنصرية وتوسعية، فتسبب تخريبها ونهبها وإحراقها وقصفها الوحشي للصين عن تدمير حوالى عشرة ملايين كتاب. بعد قيام النظام الشيوعي عام 1949، انتهج الشيوعيون أساليب إبادة الكتب التي تحولت إلى حملة متواصلة، حيث كان القادة الجدد يريدون كتباً يتولى مفكروها وكتابها إنتاج أفكار مؤيدة للحزب الشيوعي ولعقيدته الشمولية. يسجل المؤرخون إن التدمير الذي مارسه الشيوعيون، والذي طاول الكتب والمخطوطات والوثائق، قد فاق الضرر الذي أحدثه اليابانيون في حملتهم الصينية. لعل الفترة الأسوأ في تاريخ الصين كانت فترة الثورة الثقافية، حيث أبيد قسم كبير من التاريخ الثقافي العميق للصين والذي يمتد قروناً الى الوراء. أطلق ماو تسي تونغ الثورة الثقافية عام 1966، سعى فيها إلى تحويل التعليم والآداب والفنون وجميع الأشكال الأخرى للبنية الفوقية الثقافية الى ما يتوافق مع أفكاره الشيوعية. مارست الثورة عمليات تطهير هائلة طالت الجامعات والمدارس والمعاهد التقنية. خلال الثورة، جرت حملات واسعة لمصادرة الكتب التي لا تتوافق مع مبادئ الثورة، فأتلفت الملايين منها، وهي كتب تتناول جميع مصادر الثقافة.

لم ينج العالم العربي من مشاهد تدمير الكتب والمكتبات. المثال الحديث الأبرز كان خلال غزو العراق للكويت في العام 1990. خلال الاحتلال العراقي الذي امتد لستة أشهر، عمل العراقيون على تدمير الآثار الثقافية للكويت ومؤسساتها. وقد كانت المؤسسات الثقافية والتعليمية، بما فيها المكتبات ومراكز المعلومات، الأكثر تضررا من جراء الغزو العراقي. واستخدمت المدارس مراكز قيادة ومستودعات ذخيرة، ودُمّر نحو 43 بالمئة من مخزون الكتب. ضاع أكثر من مليون كتاب. كما ان تفكيك المكتبات العامة ونهبها أفقدها نحو 140 ألف مجلد . أما الدمار الأسوأ فكان في المكتبات الأكاديمية، حيث جاء عدد من المديرين الاكاديميين العراقيين وأشرفوا على عملية نقل الكتب. كما أتلف حوالى نصف مليون كتاب من مكتبة جامعة الكويت.

تلك بعض النماذج التي أشار إليها مؤلف الكتاب، ولها في معظم البلدان الاستبدادية ما يشابهها. في القرن الحادي والعشرين، ومع مرور عقدين تقريباً، لم يشهد العالم نماذج قريبة مشابهة لما عرفه القرن العشرون. لعل الثورة التكنولوجية ووسائل تخزين المعلومات والكتب والوثائق، قد نزعت من السلطات السياسية احتكار السيطرة على الكتب وإبادتها. لكن وسيلة الاستيلاء راحت تنحو وجهة مصادرة هذا الكتاب أو ذاك كوسيلة ضغط على المؤلفين. إذا كانت المجتمعات المتقدمة والتي تحترم بعض قيم الديموقراطية، لا تشهد مثل هذا التضييق على الثقافة والكتب، إلا أن معظم الدول الاستبدادية لا تزال ترى في الكلمة المكتوبة خطراً عليها. لذا تستمر مصادرة الكتب أو منع نشرها سياسة منتظمة كوسيلة في قمع حرية الفكر والتعبير.

اترك رد