جوزف مفرّج… أنا لك من الحاسدين

             

“الرؤية الصحيحة تأتي من القلب.

“وجوهر الحقيقة لا يرى بالعين المجردة”

يا أعز الرفاق

ورد هذا الكلام في كتاب “الأمير الصغير” للأديب الفرنسي “انطوان دوسانت اكزوبيري” وهو يصحّ فيك وفي أدبك وفي مسلكك.

من هنا أبدأ. من المانيفست ثقافة الذي حدّدت به كتابك “خوابي الثقافة” الذي صدر عام 2005 وشئت أن يكون كتاب “الذاكرة”” وفيه تقول:

“قد تبدأ مسيرة بناء مستقبل الوطن بغرس وردة أو أرزة على طريق ضيعتي أو زرع بسمة على وجه مقهور”.

وحدّدت بكل تواضع في مكان آخر من المانيفست:”أن طموحاتنا تعاونية مثقفين تتعاون من أجل إعلام كثيف للإبداع”.

وأضفت بشجاعة وتهوّر: “من أجل معارك ثقافية أبعد من الضجيج وتصفية الحسابات” أي أنك شهرت سيفك!

وأتبعتها بتعقل: “من أجل مجتمع مثقفين يشكّل درعاً ضد ما يهدد هويتنا وقيمنا وتراثنا”.

كل هذا “الجوهر” الذي ضخّه قلبك نبع من “رؤية صحيحة” ولكنه عبَر مثل لص دون أن “تراه العين المجردة”!

وكانت الخيبة الأمرّ من العلقم وعصير الزنزلخت!

جوزف مفرّج

***

أنا لا ألومك في عليائك… والعياذ بالله… ولكنني بلوعة، أذكّرك بأنني لن أنسى…

وكيف لي أن أنسى يا رفيقي صوت والدتك يطنّ في رأسي ويوقظ في وجداني كل المشاعر والأحاسيس ويملأ أضلعي شجناً!

لن أنسى أنها كانت كلما هاتفتك في الأصباح المتقاربة وكنت تحتسي القهوة إلى جانبها تتناول سماعة الهاتف منك وتبادلني الكلام بصوت فيه جرس الفتوة الصافية النقاوة: يا حبيبي قديش جوزف بحبك… ليش ما بتزورنا في “عين الزيتونة” في إلك غرفة وما حدا بيضايقك. اسمك محفور على الشفاه وفي قلوب أفراد العيلة كل ما جينا على سيرة الأوادم. أنا عم صلّي كل ليلة حتى الله يوفقك ويحفظك… إنت وجوزف…

لن أنسى وكيف أنسى يا رفيقي تعابير وجهك النحاسي ونظرتك الثاقبة تخترق دروع الوقاية عندي حين لبيتُ طرقات الباب وفتحت لك المصراعين وأمّنت لك في احدى زوايا القلب متكأ!

وقبل أن تجلس مددت يدك وقدّمت لي كتابك “خوابي الثقافة” وكأنه “يتيمة الدهر” مرفقاً بهذه الكلمات: تجد فيه ما يشبه “المانيفست الثقافي”!

سألتك باستغراب: من دلّك عليّ… فأنا غائب عن الوطن منذ عام 1985 ومن حظك أنني أزوره لأيام؟

أجبتَ باعتداد: لا تسلني من!! هي العناية الإلهية، أنا أعرفك قبل أن تغادر الوطن إلى عالم الشتات، وما زلت أرافقك في المسلك الوعر وأتتبع خطواتك بانضباط نملة. ألست أنت من اتخذ النملة شعاراً للانضباط في أول كتاب صدر لك عام 1956 بعنوان “النمل الأسود”؟

يا رفيقاً عزيزاً آثر الرحيل باكراً وبغتة، كيف أنسى أنني كنت كلما هاتفتك أيام الأحاد والأعياد وجدتك دائماً وأبداً في الكنيسة تصلي وكأنك ملكيصادق خادم الهيكل… لم تتنكر لربّك وأن “السيف” الذي كنت تحمله لمقاتلة الأشرار الذين كانوا يحيطون بك مستغلين طيبتك ووداعتك، ومودتك، ووطنيتك الصافية قد نبا بعد أن صال وجال بشموخ وعزة وفخار… إلاّ انه لم ينكسر ولن ينكسر…

قد تسألني: لماذا؟ وأنا اجيبك باطمئنان. لا أنسى أنك تركت في دنيانا على الرغم من كل ما عانيت وكابدت، بصمات مثقف استثنائي النبرة، والنشاط، والمخزون، كما كان يحلو لك أن تردّد، وان إرثك هذا يتعهده من بعدك جند رسل من الأبناء الأشداء الشرفاء الذين يعرفون كيف يثمنون قيمة الوزنات، بينهم الطبيب الرحيم، والفارس المغوار، والمؤمنة المبشّرة بالخلاص والترجمانة المدركة لحوار القيم، تتعهدهم الأم “نانا” نصفك الغالي التي عرفتها إلى جانبك صلبة صابرة في مغالبة الشدائد وتليين المصاعب. الأنيقة ببساطتها، والجميلة بروحها، ورحابة صدرها ترخي عليهم كعادتها عباءة الإيمان المجذّر بالمحبة والرحمة والغفران، ليظلوا، على اسم شفيعك، ابي العائلة المقدسة، مثالاً يحتذى ونبراساً لكل عائلة لبنانية شامخة بفضائلها ومسلكها.

يا أعز الرفاق نم في عالم الحق قرير العين مرتاح البال.

وأنا لك من الحاسدين!

                                                       النقاش أول آب 2018

                                        

اترك رد

%d