لو أراد القارىء أن يتتبع نتفًا من حياة سرجون كرم في ما يكتب شعرًا، لأمكنه ذلك. هذا ما يقوى عليه من عرف الشاعر خارج القصيدة، ومن اتجه إليها بعين “المتلصص” الفاحص. إلا أنّ هذا “التلصّص” (أو “التحقيق” بالمعنى القضائي) لا يجدي، ما دام أنّ الشعر – من دون غيره في الأدب – ينافق فيما يقول حقيقة، ويلهو فيما يبني كونًا تخاله صلبًا وراء الكلمات. ذلك أنّ ما عاش، أو ما قرأ، لا يجدي نفعًا إن طلبنا معاينته، أو فحصه، إذ إنّ الانفعال هو الذي يستدعي ويستنفر ما يشاء، وهو الذي يبني ويصوغ ما ينتهي إلى أن يكون شيئًا آخر : عالمًا “خفيفًا” مع أنه مثقل بدم ممتد في شرايين الحروف.
قد تلقى ما يشير إلى أمّه، إلى “جذوره”، إلى ما يجري في “غربة”، أو إلى مكالماته الوهميّة مع من يصادفهم في مضيق معتم… قد تجده يقلِّب أوراق الكتاب عينه من دون أن ينظر إليه، ويمعن في مخاطبة يتبادل فيها الجلوس بين مرسِل ومستمع…
قد لا تجد الجمهور شريكًا في ما يجري من مواجهة مستديمة، بين “أخوَين” يتنازعان الوجه عينه، قبل الحياة نفسها.
تلقى الحاخام، أو ما بعد “الطوفان”، مثلما ترى الله يمسك بطرف الورقة مثل جليس فوق مائدة من دون خمر أو منادمة. مائدة ما يتطاير من أطراف الكلام. ما يبقى أجرد من دون صحن أو كسرة خبز.
أكثر من حوار، وأبعد من خصام، لمن صرخَ في وجه السماء، وجمعَ الجثث من فوق أرض المعارك، وأبقى شمعة منيرة في قلبه، قبل عينيه، لكي يقوى على إجراء محاسبة مرجئة.
وحده الكلام الشعري يقوى على ذلك. على استكمال ما فاته في كتاب دينيّ عتيق، أو في شجار كتوم، أو في تدافع نبضات القلب في الانتظار. يقوى على استمالة، أو مناكفة، أو مخاصمة، أو على دعوة هانئة للاستلقاء في استعارة مشعة.
وجد ريلكه “ينبوع” الشعر في “طفولة” الشاعر، مثل مملكة مخفيّة لا يتوانى عن العودة إليها لكي يعبّ بيديه الصغيرتين من نهرها السرّي سحرًا لا ينضب ماؤه. وحده الطفل يقوى على ذلك، أو الطفل الذي في الشاعر، مثل قوة الحياة المتوثّبة… وحدها القصيدة تقوى على ذلك، بسرعة استعاراتها، وخفة تحليقها، مثل حلم يعدو وراء غيمة.
هكذا ينزل على درج، أو يخاطب الله؛ يقرأ في تعابير وجه أو يستطلع ما في طنجرة السماء من مآدب قانية.
قد يحزن الشاعر حيث يفرح القارىء في قصيدة. قد يظن الشاعر أنه اختفى فيها، أنه “سرّب” ما أمكن توزيعه وإخفاءه، فيما القصيدة مبسوطة فوق حبل غسيل لا يتوانى العابر عن استعادة النظر فيها، مثل عمر مدعوك بين ثنايا حروف.
الشاعر مضى في القصيدة، فيما يعيد القارىء الخطى فيها، ما شاء.
يكتب كرم : “لو قدر لي أن أكون…”، وهو ما تقوى القصيدة عليه، إذ إن في إمكانها أن تكون كيفما تشاء.
يكتب، مع أن اللغة لا “تكفيه”، حسب قوله، ما دام أنّ:
“الطفل يسير إلى شيخوخة
والشجر الباسق يخيفه
من أن يتسلق المقبرة”.
الصلة أكيدة بين الطفل في الشاعر، وبين الخفة اللاهية في القصيدة. كلاهما يجرِّبان “صنع” الحياة بحركات محدودة، وألفاظ قليلة.كلاهما يعولان على ذاكرة : ذاكرة للغة في الكتابة، وذاكرة للطفل موكولة إلى مهنة الشاعر.
كلاهما يتذكران، ولكن بشغف، أو بانفعال قد يبعث الرماذ في جمر بارد، أو قد يقلب الحياة على قفاها، طلبًا لاستعادتها، لـ”تأليفها” من جديد. وحده الطفل “يتفلسف” من دون أن يدري، إذ يتساءل عن “غضب” الريح عند الخروج إلى شارع المدرسة؛ “يتفلسف” قبل الشاعر، قبل أن تجتمع الريح في استعارة. لهذا يستطيع طرح السؤال :
“أي جزء من العالم هذا،
الذي ينبت ساقًا للقصيدة ؟”.
أحلام الطفولة قد تيبس في حائط مخفي، أو في مزهرية فوق طاولة مخلعة، إلا أنها لا تموت في عيني الشاعر، في عيني سرجون كرم، إذ يستعيد بألم مسرى الحياة في مسار القصيدة. ففي أكثر من قصيدة ترى العالم يصطرع، بين ما كان عليه في عيني الطفل، وبين ما آل إليه في ذاكرة الشاعر. إلا أن الانفعال وحده – انفعال البهجة، والسخرية، والحزن الصاحي، والغربة المنحنية على صور متطايرة – هو الذي يجعل القصيدة ممكنة، بعد أن جمعت ما شاءت، وصاغت ما شاءت، من أنفاس الشاعر فوق برودة الوجود.
لهذا تندس، في قصيدة كرم، الحكمة الخافية، والهزء بها، في آن، بعد أن غلب نيتشه جبران في ممرات القصيدة. هذا ما تنتهي إليه محاكمات واتهامات ومراجعات، ولا سيما في باحة الكتب الدينية القديمة، إذ تتردد أصداؤها في هبوب الكلام. ففي غير قصيدة ترى الطالب في الشاعر، والمؤمن القديم في الشاعر، يمسكان بكتبهما الدينية والسياسية والمدرسية القديمة، ولكن بالمقلوب:
“لماذا كلما قرأت نصًّا إلهيًّا بالمقلوب – من الحرف الأخير إلى الأول – يخرج لي الشيطان ؟”
فالقصيدة، إذ تستعيد النظر، تشقى، وتُدير ألفاظها بالنقمة، أو بالحسرة، أو بالتبرم مما جرى. كيف لا، والشاعر، حسب كرم، عملَ في القصيدة، و”أرخ” على الورق، الحزن والتعاسة، وأمراض الكون النفسية!
ذلك أن القصيدة تصدر عن شاغل في الحاضر، يقلب المعاني والصور، إن لم يدمر تمامًا بعضها. تصدر عن تجليات “المغادرة”، التي نتحقق منها في أكثر من قصيدة : بين “الجذور” و”الغربة”، وإذ “تفرغ الأرض من خطواتكم”… لهذا تحفل أكثر من قصيدة بحوارات لا ندرك هويات أصحابها، إلا أنها تتمرد عليها، وتنتقم منها، وتهزأ بها، مما يتيحه الوجع في البعد، والمحاكمات في الغربة. ألا يكتب : “إن غادرت جذورك إياك أن تعود” ؟
ألا يخفف الشاعر وجع البعد بمتعة الخلود إلى النفس، إذ يكتب:
“حين يغادرك الآخرون
لا تبتعد،
فعلى يمينك زيتونة،
لا ترتعد
فعلى يسارك كنيسة طفولتك
لا تتحرك
فالكل سيسجد يومًا لحورية في داخلك تضيء”
وعي شقي، هو بعض ما تتيحه القصيدة بالنثر، كما يكتبها سرجون كرم. فما يحرك القصيدة هو مما تستدعيه الذاكرة، ومما تلهو به المخيلة وتصوغه، ومما تراه عين الشاعر فوق شاشات كبيرة أو صغيرة، بما فيها شاشة الهاتف النقال.
عبثٌ طفولي، عبث وجودي بل سوريالي أحيانًا، عبث فلسفي، ما تتيحه القصيدة بالنثر، بخفتها، بطرافتها، وبجسامتها:
“أيها الشعراء…
أخاف عليكم من الجنون…
حين تفتح السماء ساقيها فوقكم
وتخال أنها تبيض في طنجرة”.
هي أنا المتكلم، التي تتيح القصيدة بالنثر ظهورها القوي. وهي أنا لا تخطب من على منبر، ولا تفتخر بما هي عليه، وإنما هي أنا متقلبة، مثل جوق فوق خشبة القول : بين أصوات الخفة، وأصوات الحكمة إذ تخرج من اللهو، وأصوات الطفل إذ يظن أنه يصنع الموجودات، ويستبق الحياة، وإذ يكفيه أن يتلفظ:
“كن”، لتكون… أصوات تستجمع شظايا، أو تنبني على: “ربما”، ما يجعل القصيدة انتقالاً، أو أملاً مرجئًا.أنا بأكثر من صوت، إذأ، ما يجعل القصيدة اجتماعًا لباطن في لحظة وجود. إذذاك تكون القصيدة لحظة حضور في الغياب.
****
(*) مقدمة ديوان الشاعر سرجون فايز كرم الجديد “سندس وسكين”، الصادر باللغتين العربية والألمانية. أنجز الترجمه إلى الألمانية د. سيباستيان هاينه. الغلاف بريشة الرسامة التشكيلية باسمة بطولي.