على هامش كأس العالم

أبو حسين صانعُ الفرح

     

كنّا أطفالًا سمرًا، وكانت شمسُ تموز تجثم على أكتافنا الطرية، ولم يكن لدينا الوقت لنكترث، فكنا نلهو بكرة قدم قديمة ومستهلكة فوق مساحة من التراب الأبيض كنا نسمّيها.. ملعبًا. كان وجود حَكَمٍ بيننا ترفًا غير متاح، ولكن الملالات الإسرائيلية كانت تتكفل بإيقاف المباراة كلما مرت إلى جانب “الإستاد”، أو كان جنود المشاة يتقصّدون المرور في منتصف الملعب، ربما لتنغيص فرحتنا الممزوجة بالخوف، أو لاختصار الطريق إلى “الجبّانة”، إذا أحسنّا الظن.. ومن مذياع متواضع كان صوت أحمد قعبور  يؤنسنا ويقوينا مدغدغًا من نافذة الجيران قلوبًا صغيرة أعياها هدير الطائرات وأصوات الانفجارات وتناثر حجارة البيوت والذكريات الحميمة.

في الحقيقة لم تكن نتيجة المباراة في تلك الظهيرة تعنينا كثيرًا، لأنّ مباراة أكثر أهمية وحماسة كانت منتظَرَة فوق أرضية ملعب “سانتياغو برنابيو” في مدريد مساء الأحد في 11تموز من العام 1982.

بالتأكيد لم نكن نمتلك ثمن بطاقة حضور المباراة في العاصمة الإسبانية، أو  لنكن أكثر تواضعًا، لن نستطيع تشغيل التلفاز  لأنّ  الجنوب كان بلا كهرباء، وما زال ونحن صغارٌ يافعون، والوضع الأمني مرعبٌ، فلم يكن قد مرَّ  على احتلال الجنوب وصولًا إلى صيدا أكثر من شهر، وكان والدي معترضًا بطبيعة الحال على خروجنا ليلًا إلى الساحة حيث وجد الشبابُ البديل.

ارتمت الشمسُ في حضن بحر صور، ولم يكن اللهُ قد أمر بفتح باب الفرج بعد.

كان الوقت يمضي ثقيلًا، وكادت الغصةُ تقتلنا، والدموع تتهيأ لرحلة الانحدار  من العيون الذابلة، فالمباراة النهائية بين الألمان  والطليان اقتربت، وبدأ الجمهور بالتوافد إلى أرض الملعب، ونحن حائرون مقهورون، لأننا ما زلنا خارج الحدث الكبير، وربما خارج الزمن أيضًا، والحلول غير متاحة بل كانت شبه معدومة.

لم يكن والدي في مزاج جيد للمجادلة، ولشرح أهمية المباراة وعالميتها، وتأثيرها، فالزمن زمن اجتياح، وحرب ودمار ودماء واعتقالات، وهو الشاب الأربعيني الذي قدّم ولده البكرَ شهيدًا منذ خمس من السنين، كان والدي كبقية الرجال في الجنوب، الذين لم يكونوا معنيين سوى في كيفية تأمين الطعام والماء، ومحاولة دفع الأذى عن أسرهم، ومتابعة تقدّم الصهاينة إلى بيروت. لكنّ همنا نحن، كان في مكان آخر.

وكما في كل محطات حياتنا؛ لم يبخل الله تعالى علينا بقليل من الفرح وسط بحر الحزن والقهر الذي يطوّقنا من كل صوب.

ما كدنا ننتهي من “دوش” سريع، مجازًا، لأنّ الحمام ب”الكَيْلة” لا يُعدُّ “دوشًا”، حتى أتى الخبر السعيد على لسان جارنا”ميشيل، أو حسين” زافًا البشرى العظيمة . كانت كلماته كمعزوفة لتشايكوفسكي أو باخ  أو موزار، تتهادى حروفها وتشعل في صدري فرحًا أسطوريًا كحكايات ألف ليلة وليلة، وإذا ما طُلبَ مني يومًا تعريفٌ للفرح أو السعادة لن أتردد في اختيار  حروف تلك الجملة الشهية”سنشاهد المباراة النهائية الليلة..عندنا” انتشلتني  كلماته من صحراء التيه، ورمت بي في “البيرنابيو”. وشعرتُ لوهلة أنني سأشارك الرئيس الإيطالي العجوز والملك كارلوس المنصة الرئيسية، ب”الشحاطة أم أصبع” وبشورتٍ كحلي، وتي شيرت بيضاء رديئة الصنع مرسوم عليها شعار المونديال، اشترتها لي والدتي من سوق الأربعاء. ولكن كيف السبيل؟ أجاب، إنّ والده -رحمه الله- وهو الذي يمتلك جرارًا زراعيًا،؛سيعمل على وضع التلفاز الصغير الأبيض والأسود على بطاريته . ومنذ تلك الليلة وقعتُ في حبّ ذلك الجرار الأحمر.

وصلنا إلى بيت أبي حسين، الذي  كان قد جهّز بعض الكراسي الخشبية المتواضعة”لتوجيبنا” من أجل المشاركة في الحدث الكبير. وكان ضوع ياسمينة قريبة، يدفع بنا إلى أسوار الجنّة، منذ تلك الليلة الصيفية لم أتنشق رائحة أجمل منها إلى اليوم، الا رائحة أمي..

لما شاهدتُ التسعين ألفًا في البيرنابيو، “ودينو زوف” يحملُ شارة الكابتن، كقائدٍ للفريق الإيطالي؛ تيقنتُ أنني خرجتُ من الزمان والمكان، وبدأتُ التحليق فوق العاصمة الملكية..

في الحقيقة، لم أكن معنيًا بفوز أيٍّ من المنتخبين، لأنّ فريقي المفضّل قد خرج على أيدي الطليان في ملحمة تراجيدية قبل أسبوعين.

إنطلقت المباراة النهائية، سجّل باولو روسي الهدف الأول، ثمّ أتبعه ماركو تارديلي بالهدف الثاني، وفجّر الفرحة الأكثر شهرة بتاريخ كأس العالم. ثم أنهى السياندرو ألتوبيليي اللقاء بهدفٍ قاتل، قبل أن يضع الألماني صاحب اللحية اليسارية پول برايتنر هدف الشرف للألمان من ضربة جزاء.لم تكفِ لتعويض الخسارة.

انتصفت ليلة تموز العظيمة، حمل “دينو زوف” ورفاقه الكأس الأغلى في العالم، وراقبنا  والألمان فرحتهم الجنونية.

 انتهى البثّ، وودَّعَنَا المصري “الكابتن لطيف” ،نزعَ أبو حسين “كلبي البطارية”، وصلتُ من “مدريد” إلى منزلنا القريب بخطوات قليلة، متخطيًا شجرتي تينٍ  وزيتونةٍ مغبرَّة، وجدارًا صغيرًا من حجارة صفراء يكاد أن ينقضّ، مُحمَّلًا بفرحة ما زالت آثارها عالقة في صدري إلى صيفنا هذا.

رحم الله الحاج أبا حسين، ومبارك للطليان كأسهم الثالثة، التي انتظروها عقودًا طويلة، كما ينتظر الجنوبيون الكهرباء منذ العام 1982. ولما تصل إلينا بعد…

 

اترك رد