يمر لبنان في مرحلة ندر أن عرفها في تاريخه حتى زمن الحرب الأهلية. أزمات تضربه من جميع الجهات، وطبقة سياسية – طائفية لاهية في صراعاتها، مع العهد الجديد المسمى «بالقوي»، فيما تثبت الأيام عجزه «القوي». في نظرة على الوضع العام، يمكن التدليل على تخبّط البلد من خلال مفاصل وعناوين تشكل غيضاً من فيض.
في الميدان الاقتصادي، الكل من الطبقة السياسية، سواء منها من كان في الحكم أو خارجه، يعترف بأن البلد على شفير الانهيار الاقتصادي. من رأس الدولة الذي بشر الناس بأن لبنان على شفير الإفلاس، الى رئيس الحكومة المكلف، الى سائر الأوساط الاقتصادية، كلها تدق ناقوس الخطر على الاقتصاد. لا يقع الخوف من انهيار الليرة اللبنانية، فهذه محمية من عدم تلاعب المصارف بالعملة على غرار ثمانينات القرن الماضي، بل لأن أكثر من 75 في المئة من مديونية المصارف للدولة اللبنانية هي بالعملة اللبنانية، ما يعني إصرار المصارف على عدم تخفيض العملة لأن ذلك سيتسبّب بخسارة فادحة لهم.
أما تجليات الأزمة الاقتصادية فتبدو واضحة في انهيار المؤسسات وإقفالها، من تجارية وسياحية وحتى صناعية، وصرف العاملين فيها، بما يجعل البطالة في ارتفاع متزايد. وأخيراً، بدأت الشركات العقارية بالإفلاس، ما يهدد القروض السكنية ويحرم مشتري الشقق من حقهم، زاد الأمر سوءاً توقّف القروض السكنية من مؤسسة الإسكان. يضاف الى ذلك، آلاف الخريجين من الجامعات الذين لا يجدون عملاً، حتى أبواب الهجرة لم تعد متوافرة كما في السابق.
في ميادين أخرى، حدّث ولا حرج، عن أزمة الكهرباء التي أعطيت وعود للبنانيين منذ العام 2010 بعودتها أربعاً وعشرين ساعة، فلا تأتي اليوم سوى ساعات محدودة. تتأرجح الأزمة بين الصفقات على البواخر والامتناع عن تشغيل المعامل من جهة، وبين مافيات المولدات التي تتشارك مع قوى سياسية، فتفرض أسعاراً خيالية على المواطن، الذي عليه دفع فاتورتين. أخطر ما في قضية المولدات، أن الدولة لن تستطيع تأمين الكهرباء للمواطن لعجزها عن توقيف المولدات وأصحابها الذين باتو أقوى من الدولة. في ميدان الدواء والصحة، حدّث ولا حرج عن الفساد ونهب الأدوية المرتفعة السعر وبيعها في السوق السوداء، وكله يجري بواسطة مافيات تتمتع بغطاء سلطوي. أما النفايات فعادت جبالا تكلّل الشواطئ اللبنانية والوديان والتلال، ولا ترغب الدولة في إيجاد حل لها، لأنها «دجاجة تبيض ذهباً» لهذه الطبقة السياسية، على رغم أن أكثر البلدان تخلفاً في أفريقيا استطاعت حل هذه المشكلة والإفادة من تدوير النفايات في توليد الطاقة. ومياه الشرب دخلت عليها المافيات، فحولت المياه الى المسابح، وحرمت المواطن من حقه فيها، فبات عليه شراء الماء ودفع فاتورة عالية أسبوعياً.
يشهد اللبناني يومياً، حديثاً صحيحاً عن صفقات الكهرباء والنفط والاتصالات، وهي صفقات تدر الملايين من الدولارات على الطبقة السياسية. يقترن ذلك بالتهريب غير المحدود للبضائع وحرمان الخزينة من الموارد الجمركية، وهو تهريب محمي من الميليشيات وأركان السلطة. ولتغطية هذه الموبقات، يجري استحضار خطاب عنصري ضد النازحين السوريين، وتحميلهم أعباء الأزمة الاقتصادية والانهيار المقبل. إضافة الى إغراق البلاد بخطاب طائفي ومذهبي لا وظيفة له سوى شحن الجمهور اللبناني لإلهائه عن مشاكله. أما المهزلة في الموضوع كله، فهي أن العهد القوي وخطاب المتنطّحين الى السلطة، يشددان على أن الحكومة المقبلة ستضع في أولوياتها محاربة الفساد. فكيف يمكن طبقة فاسدة ومفسدة أن تعالج الفساد؟ الأمر يستدعي السخرية.
وسط هذه الفوضى التي يعيشها البلد، أُجريت الانتخابات النيابية التي أنتجت الطبقة السائدة أصلاً، بل وحتى الأسوأ منها. كُلِّف رئيس الوزراء الذي لم يستطع حتى الآن، على رغم مرور أكثر من شهر ونصف الشهر على تكليفه، الإقلاع في التشكيل. فالطبقة السياسية – الطائفية تتصرف كل كتلة فيها على أساس أن البلد مقاطعات ومحاصصات، كل طرف يرغب في الحصة الأكبر من الوزراء. يرتفع صراخها في كشف مؤامراتها على بعضها البعض من جهة، وتضع العراقيل والفيتوات في وجه القوة المقابلة. أما العهد القوي، فلم يتخل عن طموحه في تحويل النظام الى ما يشبه النظام الرئاسي، وإعطاء نفسه سلطة لا أساس لها في الدستور، ما يعقّد التشكيل الحكومي. والرئيس المكلف، يبدو همّه محصوراً في كيفية بقائه رئيساً حتى ولو كلفه التنازل عن صلاحياته في التشكيل والحكم. ينتشر كلام كثير عن أن موقفه هذا عائد الى ارتباطه بصفقات الكهرباء والنفط والاتصالات وغيرها.
أين يقف الشعب اللبناني من كل ما يجري؟ منذ سنوات، انكفأ الجمهور عن الاعتراض في الشارع دفاعاً عن مصالحه. لقد نجحت الطبقة السياسية في «تخدير» هذا الجمهور، فلم يعد يتحرك إلا وفق الغرائز الطائفية التي تتقنها هذه الطبقة. وهو ما يجعل إمكان تغيير الوضع أو تعديله في عالم المجهول.