رواية من تاريخ الموارنة وليست كتاب تاريخ
برعاية الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، وضمن السنوية الخامسة عشرة لحديقة البطاركة، تنظم رابطة قنوبين للرسالة والتراث بالتعاون مع نادي الاتحاد الديماني حفل تقديم كتاب “العاصية” لأنطوان فرنسيس (رواية تاريخية حول مجازر المماليك في جبّة بشري وحريق إهدن 1283)، السادسة مساء الجمعة 27 يوليو 2018 في مسرح الوادي المقدس في موقع حديقة البطاركة الديمان حيث تحتضن الجغرافيا تاريخ الشهادة في سبيل الإيمان والحرية،.
يتضمن البرنامج: افتتاح الفنان جورج حرب، مداخلات: سمير غصن أستاذ فلسفة وناشط في بيئة الوادي المقدس، أنور حرب ناشر “النهار” الأسترالية، الشاعر عيسى مخلوف، أنطوان الخوري طوق أمين الشؤون الثقافية في رابطة قنوبين للرسالة والتراث، صاحب الرعاية البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، كلمة شكر للمؤلف أنطوان فرنسيس.
في ما يلي مقدمة رواية “العاصية” بقلم أنطوان فرنسيس:
ترتكز الرواية التّاريخيّة إلى أحداث حقيقية، عصيتْ ندوبُها على مرور الزّمن فبقيت مترسّخة في الوجدان الشعبيّ نظراً إلى أهميتها، أو لشدّة تأثيرها في الجماعة التي عاشت مأساتها ولم تنسَ مرارة جراحها، فتناقلت أخبارها جيلاً بعد جيل.
يبني كاتب الرواية التاريخية أساس قصته على الأحداث الحقيقية، مستنداً إلى المراجع والرسائل والمعاهدات والوثائق التي تثبت صحّتها، لكنّه يروي القصة كما يراها خياله، ويرسم تفاصيل ما جرى كما تتفاعل معها أحاسيسُه، وينسج شخصيات روايته بحبر عروقه، ويقود خطى أبطالها على نبض قلبه.
وغالباً ما يبتكر الراوي شخصيات افتراضية إلى جانب الشخصيات الحقيقية، يضيفها إلى نصّه لتساعد على بلورة الأحداث من دون الإساءة إلى جوهر الحقيقة أو تحريفها. ويستوحي الراوي تلك الشخصيات من المناخ الاجتماعي التّاريخي للجماعة التي عاشت الحدث الأليم، ويعتمد عند اختيارها على دراسات سوسيولوجسة وإنتروبولوجية تتناول الجماعة التي عاشت الحدث والزمن الذي وقع فيه. وهذا ما فعلته عندما كتبتُ “العاصية”.
الغاية الأساس من نشر هذه الرواية هي تسليط الضوء على مجزرة جماعية مروّعة في تاريخ الموارنة حصلت في القرن الثالث عشر ولم تحظَ في كتب المؤرخين، رغم أهميتها الكبيرة، إلّا على نصٍّ يتيم مكوّن من صفحة واحدة اكتشفَه البطريرك اسطفان الدويهي في القرن السابع عشر. أردتُ أن أستعيد أحداث تلك الفاجعة الوطنيّة بأسلوب يهزّ القارئ ويوصلُ إليه الحقيقة واضحة صارخة موجعة كما يوم وقعت قبل 736 سنة.
تروي “العاصية” حدثاً مترسّخاً في الوجدان الماروني الجماعي يتناقله اللسان الشعبي منذ أجيال هو هجوم المماليك على جبة بشري عام 1282، ومحاصرتهم بلدة إهدن، ودكّ قلعتها، وإحراق جميع بيوتها، بعد مقاومة بطوليّة استمرّت أربعين يوماً استُشهد خلالها معظم الإهدنيين.
وبعد أن دمّروا إهدن تابع الغزاة التركمان، وهم جنود النخبة في الجيش المملوكي، هجومَهم الوحشي على أرض “الجبة” فأحرقوا بقوفا، وضربوا بالسيف أعناق أبناء حصرون وكفرصارون وحدث الجبة، وارتكبوا فيها مجازر مروّعة… فتصدى لهم الأهالي بقيادة البطريرك الماروني دانيال الحدشيتي وقاتلوهم… حتّى الاستشهاد.
بين ربيع وخريف 1282 عاش الموارنة مرحلة اضطهاد وعذابات دامية، طالما تكرّرت في تاريخهم، جسّدوا خلالها روح البطولة والعنفوان المتدفّقة من نبع الحرية الذي تميّزت به أرض “الجبة” وتفجّر من واديها المقدس.
الحدث التّاريخي في هذه الرواية هو حقيقة موثَّقة، نقلها البطريرك العلامة اسطفان الدويهي في كتاب “تاريخ الطائفة المارونية”، وذكرها المؤرِّخان العربيان محي الدين بن عبد الظاهر، ومحمد ابن الحريري، اللذين نقلا أحداث تلك الحقبة المملوكية وعاصرا سلاطينها.
بطل الرواية البطريرك دانيال الحدشيتي هو شخصية حقيقية، ومثله رجال الدين الذين عاصروه، والملوك الصليبيون الذين تصادم أو تحالف معهم. كذلك المعاهدة العسكريّة – السّياسيّة التي عقدها المماليك مع الصليبيين عام 1281 هي معاهدة تاريخيّة موثّقة، مثل الأحداث الخطيرة والمعارك التي جرت في تلك الحقبة وقادت بالنّهاية إلى سقوط مملكة القدس ورحيل الصليبيين من الشرق. كما أن جميع أسماء القرى والأديرة والتلال والقلاع والمواقع والأنهر والينابيع والأودية والمغاور حقيقية، وهي لا تزال قائمة في المناطق التي عاشت المجزرة لتشهد على وحشية الجيش الغازي وفظاعة الحدث الذي ترك جراحاً بليغة في جبة بشري.
أما باقي شخصيات الرواية فهي شخصيات افتراضية لكنّي استندت عند انتقاء أسمائها إلى وثائق صليبيّة ومملوكيّة أهمها نصّ المعاهدة بين الملك الصليبي بوهيموند السابع والسلطان المملوكي سيف الدين قلاوون، والّتي وردت فيها أسماء بعض الأمراء والإقطاعيين والمناطق الّتي حكموها في النصف الثاني من القرن الثالث عشر. وكانت تلك المعاهدة السبب المباشر للأحداث الدّامية التي تجسّدها الرّواية. كذلك استندت إلى المراسلات بين البطاركة الموارنة والكرسي الرسولي في روما، وعلى الكتابات المدوّنة على الأناجيل المحفوظة في المكتبة المديشية في فلورنسا، والتي ذكرتُ تفاصيلها وبيّنتُ مراجعها في كتابي “الشرخ من مار مارون إلى الفراغ” الصادر عام 2016. كذلك بنيتُ بعض تفاصيل الرواية على مكتشفات مغارة عاصي الحدث في أواخر القرن العشرين، وبينها وثيقة ورد فيها اسم “الريس بولص”، وهي كنزٌ أثريّ فريد لا يزال محفوظاً في المتحف الوطني اللبناني في بيروت وقد أوحت لي أعمار المومياءات المُكتشَفة وثيابها والحلي الكثير من التفاصيل التي تنقل القارئ إلى المناخ الحقيقيّ لمنطقة الجبة في القرن الثالث عشر.
“العاصية” رواية من تاريخ الموارنة، وليست كتاب تاريخ.