(عسل بلديّ) لشربل شربل:

سَرْديّات مُشوِّقة تُمتع وتوحي…

                                                    

أستاذ، شربل حليم شربل! هو يعرف ما يريد. يُتقِن ما يريد. يركّز في ما يريد. فيبرع في ما يرد.

لقد اختار لفظة توضيحيّة، تعريفيّة، جعلها تحت عنوان مجموعته  الجديدة:(عسل بلديّ: سَرديّات)، ولم يختر لفظة: قصص، أو مجموعة قصصيّة، أو أقاصيص، أو أقصوصات، إلخ. والفارق واضح.

فلفظة: قَصَّ قصصًا عليه الخبر، تعني حدّثه به. وقصّ قصًّا وقَصصًا أثَرَهُ: تتبّعه شيئًا فشيئا. قصّ الحديث: رواه. إلخ. وهذا يقود إلى فنّ القصّة. والقصّة فنّ أدبيّ بقواعد

وشروط وخصائص. وهو يتضمّن السّرد.

أمّا لفظة: سَرَدَ، في هذا المجال، فتعني: نَسَجَ، أو تتابع، وتعني: أجاد. سرد الدّرع نسجها، وفي النّسْج ترابط وتتابع. وسرد الحديث أجاد في سياِقه، أو صياغته. ما يُفيد جودة النّسج، وترابطه بتسلسل وترابط محكمَين، فيأتي المنسوج ذا وحدة تامّة متكاملة جميلة. كما يُفيد جودة الصّياغة وصََقلَها، فيكون حديثُه منسوجًا نسجًا فنّيًّا في صياغة جِماليّة.

اَلسّؤال: لِمَ اختار شربل شربل، إذًا، لفظة “سَرْديّات”، وليس “أقاصيص”؟! وهل نجح في الوصول إلى ما يرغب فيه؟ وكيف؟

للإجابة عن هذا السّؤال، وهو واضح ومباشر، علينا تَقَصّي خصائص هذه المجموعة من “السّرْديّات”، وحين تتحصّل في غالبها، نكون قد كشفنا الإجابة.  

غلاف الكتاب

  1. بداية، نجد طابع الذّات مهيمِنًا في غالب المجموعة. فـ”عسل بلديّ”(15) حكاية تجربة خاصّة عاشها الكاتب شخصيًّا. وكذلك “فشّة خلق”(37)، و”فصل من سيرة معلّم”(153). وفي كلٍّ منها نفحة خاصّة صادقة صادرة فيض قلب تلامس النّفوس والقلوب بما فيها من عذوبة وحميميّة وطرافة. وطرافة شربل محبَّبة، وقد يُصيب نفسَه عمدًا إلّم يجد مناسبة ليسجّل في مرمى الآخرين. خذ، مثلا على ذلك، تصويبَه على نفسه في غير مكان من: “عسل بلديّ”(24،23). هذا من غير أن ننسى إشارات تدلّ إلى ما أصابه شخصيًّا، وأصاب الوطن المنكوب بالعديد من زعمائه(26).    
  2. يتفرّع عن هذا، ويُشير إليه، استخدام ياء المتكلّم المشيرة، هي أيضًا، إلى الطّابع الذّاتي. من ذلك “سرديّة” “يا باشا”(5) الواقعيّة الحقيقيّة الإنسانيّة الطّابع، وهي ظاهرة العمّال المصرييّن على محطّات الوقود في أنحاء الوطن كلِّها، وما فيها من قضايا اجتماعيّة تطال الكثيرين منهم، وتحضّنا على التّعاطف معهم. ومن ذلك “سرديّة” “غازي”(107) وقد تكون صفحة من سيرة ذاتيّة، و”أوهام… أحلام”(93) هي الأخرى، في السّياق عينه، وسواها الكثير. ما يعني غلبة هذا الطّابع الحميميّ الّذي يكاد أن يحوّل المجموعة إلى فصول من سيرة ذاتيّة فيها الذّكريات والوقائع والصّدق.
  3. تنطلق، هذه المجموعة، من ذلك، إلى الواقعيّة. ينقل كاتبُنا واقع كلّ “سرديّة”، في أشخاصها وأحداثها وأمكنتها. ما يعطيها الحركة ونبض الحياة. ألأشخاص يضجّون، يتواصلون، مع بعضهم يتفاهمون. فيهم ما في أمور جادّة رصينة، وأخرى هازلة ساخرة. يلاحظون بعضهم البعض. يتفاعلون. يفعلون. ينفعلون. يتأثّرون. يؤثّرون. وواضحة الفوارق الّتي تميّزها من سواها وتختصّ بواحدة  من دون أخرى. وإلى واقعيّة الأشخاص نجد واقعيّة الأحداث. هو يسوقها بتتابع وسببيّة ومنطق، فلا يتقدّم سببٌ سببًًا، ولا تحلّ نتيجة قبل استنتاجها. ما يُثبت أنّ كلّ “سرديّة” فسحة من حياة منطقيّة حقيقيّة.
  4. يتحدّث الأشخاص بعضهم مع بعض، ما يخلق ظاهرة الحوار. والحوار حديث بين متحاورين ليتفاهموا حول أسس أو مفاهيم أو آراء. فمن خصائصه العقلانيّة والمنطق والوضوح والسّيطرة على النّفس. فهو ظاهرة مهمّة تؤدّي إلى مزيد من المعرفة بالآخر وبشؤون عامّة فيرتفع مستوى الثّقافة والمجتمع والإنسانيّة. إلى هذا، يسهم الحوار في تحليل النّفس ويوجز الأحداث ويوحي ويُضفي الحركة ونبض الحياة على النّصّ فصبح أكثر جمالا، وأبعد إيحاء، وأعمق معرفة. والحوار الحرّ الرّاقي دليل نضج فكريّ واجتماعيّ وثقافيّ ينماز به المتحاورون، أثنائيًّا كان أم  جَماعيًّا أم كان تَفَكُّرًا وتساؤلات…
  5. ومن الحوار إلى التّحليل النّفسيّ. فهو ينضح بما تختزن  نفس المتحاورين من أمور شتّّى: حبّ المعرفة، حبّ الإقناع، حبّ الأشخاص… تبيان حقائق يريد المحاورون نقلها إلى الآخر، وإيضاحها، وتثبيتها في أذهانهم. كما يظهر العاشق عاشقًا، والمتشائم متشائمًا، والفرح فرِحًا، والحقود حاقدًا، إلخ. وشربل شربل كاتب حوار ناجح. فهو يُجري الحوار لضرورةٍ هي ضرورة القَصّ أو السّرد. ضرورة تحليليّة معرفيّة، وضرورة تحليليّة لنفسيّة الإنسان. والتّحليل، مهما كان نوعه، يرتقي بالقَصّ، بالسّرد، يُبعد المَلل عن القارئ، كما يُبعِِد الرّتابة، مُضفيًا الحركة والحياة على النّصّ، فيصبح روحًا نابضة موحية.
  6. بالعودة إلى السّؤال: بين “سرديّات” و”أقاصيص” مجموعة (عسل بلديّ) لشربل شربل إلى أيّهما هي أكثر قربًا؟ لقد اختار المؤلّف لفظة “سرديّات” وجعلها تحت العنوان، فهل كان مُحِقًّا؟

اَلواقع أنّ هذه المجموعة تتأرجح بين فنَّي القصّ والسّرد. فيها من القصّ كما من السّرد، ما يتداخل بعضه ببعضه الآخر. نجد القصّة من دون بعض ما يميّزها. إنّنا لا نجد، وبشكل دائم، مثلا، العنصر الطّارئ الّذي يُفضي إلى التّأزُّم فالحلّ فالمغزى. إلّا أنّنا نجد التّشويق والشّخصيّات والحوار. علْمًا أنّ السّرْد عنصر ضروريّ مشترَك.

اَلواقع أنّها مجموعة “سرديّات” تتقاطع مع فنّ القصّة. وقد نجحت في حجز موقع متقدّم لها، ومهمّ، في هذا المجال. فالخصائص الّتي فُصِّلت، مشترَكة، وهي سبب نجاح بعضها كـ”قصّة”، ونجاح بعضها الآخر كـ”سرديّة”.   

كتاب الأديب شربل شربل (عسل بلديّ) هذا، من خلال هذي القراءة الموجزة، ناجح ونحن نجد فيه الرّوح “الشّربليّة” الخاصّة، خصوصًا من خلال سلاسة أسلوب متقنة ولا صنعة، سهلة ولا ركاكة؛ كما من خلال روح دعابة لمّاحة ذكيّة من حين لآخر.

         10حزيران2018          

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عسل بلديّ: سرديّات، شربل شربل، دار المكتبة الأهليّة، 184 صفحة من الحجم المتوسّط،2018.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                             

اترك رد