الشعر والغناء وترسيخ الثقافة الكونيّة

   

إن تاريخ الموسيقى العربية لا ينفصل عن تاريخ الشعر والغناء العربي. كانت العرب تقول «مقود الشعر الغناء»، فكانت الموسيقى دائماً رفيقة الشعر تاريخياً.

وقد حاولنا في هذا العمل الإشارة إلى المراحل التاريخية الكبرى التي عرفتها الموسيقى العربية فتركت بصمتها واضحة على هذا الفن. فالشعر العربي في مختلف عصوره الأدبية ارتبط بالغناء واللّحن والموسيقى إلى حدود القرن التاسع عشر بظهور الموجة التجديدية التي أرسى قواعدها ملحّنون وموسيقيون كبار، والتي كانت في الحقيقة بداية تاريخ جديد للموسيقى العربية حيث ستعيش الأغنية زمنها الجميل.

وزمن الأغنية الجميلة لا يعني البكاء على زمن ولّى ولم يعد، والحسرة على أشياء جميلة مرت دون أن نقر بعدم تكرارها. بل يعني أن الشعر والغناء في أرقى صوره الإبداعية يتحدّى الزمان والمكان. إنه انعكاس للوعي الجمالي السائد، وتعبير عميق عن رسالة إنسانية بلغة سامية التي هي لغة القصيدة، لغة الصدق والجمال. وقد ظلت القصيدة الفصحى على مرِّ العصور تحتل مكان الصدارة. وازدهر الشعر العامي في عصر النهضة على يد شعراء وملحّنين كبار كأحمد رامي وبيرم التونسي وغيرهم بعد أن جعلوه قريباً من اللغة الفصحى ليكون في متناول الناس.

وجاء هذا العمل تكريماً لرواد وعمالقة الطرب العربي من مطربين وشعراء وملحنين عاصروا العصر الذهبي للأغنية العربية، أو ما اصطُلح عليه بالزمن الجميل. فالكتاب دعوة إلى التفكير في وضع أنطولوجيا الشعر المغنّى الذي تفتقر له مكتباتنا العربية، والذي لا يقتصر إلا على شعر الملحون وشعر الزّجل الأندلسي، وكذلك التعريف بشعراء وكتّاب الأغنية العربية، وبالملحّنين الذين عملوا على تلحين هذه الأشعار سواء من الشعر الفصيح أو من الشعر العامّي. فغالباً ما يتعرّف الجمهور على المغني الذي تُسلّط عليه الأضواء، بينما تغيب في معظم الأحيان أسماء الشعراء والملحنين.  

فجمالية الإبداع لا تتحقق إلا من خلال التلقي. لأن الأذن تعشق النغم الجميل وتلْتذّ بسماعه. ما جعلنا نبني هذا العمل على قواعد علم الجمال وعشق الأعمال الغنائية الموسيقية الراقية بالاتصال بالعديد من الشعراء والموسيقيين والملحنين الذين عاصروا هذه المرحلة الذهبية من تاريخ الموسيقى العربية لنتمكن من التعريف بمعظم أعلام ونماذج روائع الشعر العربي المُغنّى وهي أعمال جمعت بين جمالية الشعر واللحن الراقي والصوت العذب مما ساهم في انتشارها وشهرتها.

وهي نصوص شعرية كوّنت علاقة ممتعة بين الشاعر والمطرب والملحّن من جهة، والجمهور المتلقي من جهة ثانية، لفنّانين ومبدعين كبار ساهموا في تنشئة جيل من المحبين والمعجبين حتى إن كل ما يٌقدّم يُقاس بمعيار تلك المرحلة الزاهرة من تاريخ الغناء العربي، لما لعبوه من دور مهم في السّمو والرقي بالذوق العربي. لكن لا ننسى بأن الأغنية تُولد دائما بين الشاعر والملحن عبر صوت جميل يطرب له المتلقي الذي غالباً ما يترنّم بأغاني لا يعرف عنها إلا صوت المطرب، مع جهل تام بصاحب النص الأصلي الذي أنتج معانيه الجميلة، ولا بمُلحّنه الذي عمل على توزيع مقامات الأغنية وإيقاعاتها. بل ومن الملحنين من بدأ مع هذه الأغاني رحلته الاحترافية التي عمل بها على تجديد الموسيقى العربية، وإرساء قواعد الغناء العربي بإضافة ألوان من الجمل اللحنية، والإيقاعات الجديدة، بإدخال الآلات الغربية وجعلها تتلاءم مع السلم الموسيقي اللحني العربي.

لقد تحولت قصائد الشعراء المغناة في الزمن الجميل إلى أغاني ذائعة الصِّيت كُتب لها الخلود في ذاكرة الشعر العربي الفصيح والعامي لمطربين مشهورين من المشرق، والمغرب العربي، وبلدان الخليج العربي لأجيال متعاقبة وأزمنة مختلفة بداية من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومن تلاهم من رواد الأغنية العربية.

والتعريف كذلك بنماذج من كبار الملحنين الذين قدّموا هذه الأعمال العظيمة كرياض السنباطي ومحمد الموجي وزكريا أحمد ومحمد القصبجي وبليغ حمدي وكمال الطويل وغيرهم. ولا يفوتنا أن نشير إلى أن معظم المطربين الكبار كانوا في نفس الوقت من أكبر الملحنين كمحمد عبد الوهاب ووديع الصافي وفريد الأطرش ومحمد فوزي وصباح فخري وناظم الغزالي وسيد مكاوي وغيرهم من الرواد.

ويضم الكتاب قصائد قديمة مغناة  بداية من العصر الجاهلي إلى العصر الأندلسي بظهور الموشّحات مروراً بالعصر الإسلامي والأموي والعباسي، وقصائد مغناة لشعراء الحداثة والرومانسية العربية بالإضافة إلى قصائد مغناة من الشعر العامّي. هذه القصائد التي بقيت عند كل شاعر حِلِيّ شعره وجواهره التي استهوت أهل اللحن والنغم والطرب العربي الأصيل. وهي ما يزيد على مائتي أغنية، اكتمل فيها الأداء والنّغم والكلمة الموحية والثقافة الفنية العالية التي منحت هذا الفنّ وهجاً وبريقاً لقصائد ساهم النّغم واللحن في شهرتها وحياتها، فتركت أثراً بالغاً في الوجدان العربي سواء القصائد التي كُتبت أصلاً للغناء أو القصائد التي نُشرت في دواوين الشعراء. نصوص أعادتنا إلى روائع القصائد التي عرفها الشعر العربي في كل عصوره الأدبية من زمن امرئ القيس وعنترة بن شداد إلى المعرّي والمتنبي وأبي فراس الحمداني مروراً بلسان الدين بن الخطيب وابن زيدون وابن زهر إلى الشابّي وأحمد شوقي ونزار قبَاني وغيرهم من رموز الشعر العربي. بالإضافة إلى روائع الشعر العامّي لشعراء كتبوا بالفصحى والعامية كبشارة الخوري ومرسي جميل عزيز وبيرم التونسي وأحمد رامي والرّحابنة ومأمون الشناوي وغيرهم.

ونشير إلى أن هذا الكتاب أول عمل يلقي الضوء على إبداعات القصائد المغناة بشقيها الفصيح والعامي والتعريف بشعرائها وملحنيها ومطربيها.  وقد عمدنا إلى الاهتمام بالأغنية العاطفية والأغنية ذات الطابع الصّوفي بينما لا يتضمَن الكتاب الأغاني الدّينية والوطنية والمُناسباتية. فهو حكاية  سفر الأغنية عبر الأجيال التي عشقتها فكان هذا العشق سرّ استمراريتها وخلودها.

وقد جاءت القصائد لا كنصوص شعرية إبداعية كما وردت في دواوين الشعراء بل كقصائد مغناة أي كما أدّاها المطربون والمطربات في زمن الأغنية الجميل سواء كانت كاملة كما جاءت في بعض الدواوين أو بتعديلاتها التي اقتضت تغيير بعض الكلمات أو إعادة ترتيب بعض الأبيات أو حذفها لتتماشى مع اللّحن والنّغم. وبالنسبة لبعض المطوّلات فقد أولينا اهتماماً للمقاطع الأكثر تفاعلاً وتأثيراً في الجمهور، فمثلاً نلاحظ تفاعل الجمهور مع أم كلثوم أكثر في قصيدة “الأطلال” لإبراهيم ناجي حينما تصل إلى مقطع “أعطني حُريتي أطلق يديّا” فيتِمّ التركيز على هذا المقطع.

وقد اقتصرنا في انتقاء هذه المنتخبات بداية من الفترة التي ظهر فيها الموسيقار محمد عبد الوهاب وسيدة الطرب العربي أم كلثوم إلى حدود الثمانينات من القرن العشرين بظهور الموجة الجديدة. وهي مرحلة ظهر فيها تجديد وابتكار كبير في الموسيقى والغناء والإيقاعات والتوزيع الموسيقي والآلات الموسيقية. تَطوُّرٌ امتد من مصر إلى كل العالم العربي، وكثيراً ما أشار النقّاد إلى هذا العصر بعصر أم كلثوم أو عصر عبد الوهاب أو غيره من نجوم الغناء العربي، ومن تبعهم من رواد هذا الفن الجميل. فالعصور تُعرَف بفنّانيها ومُبدعيها أكثر ممّا تُعرف بساساتها.

وإذ نورد هذه المنتخبات، لا نقصد بذلك استعادة الماضي كتكرار لتجربة مرّت بهدف تمجيده، بل إحياءً وتقديراً لفن جميل نتوجه به إلى المستقبل. وما يؤلّف بين هذه النماذج من الأغاني هو رونق الشعر واللحن والأداء لمطربين نجحوا في إخراج القصائد من دواوينها وجعلوها تجري على ألسنة الناس وعشاق الشعر، بعد أن أضفوا عليها من سحرهم فأصبحت أكثر توهّجاً وجمالاً في زمن كان فيه الأداء الراقي والكلمة الجميلة واللحن الممتع هو تأشيرة المرور إلى عالم الفن والإبداع. فذاع صيتها في كل أرجاء الوطن العربي، في وقت انحدر فيه مستوى الأغنية مقارنة بعهدها الزاهر وظهور أغنية الفيديوكليب التي انعدم في معظمها الحس الفني، وافتقدت فيها الموسيقى هويتها العربية، وتحول الجمهور إلى مشاهد مستهلك بدل مستمع يتذوق الفن الراقي في زمن تراجع فيه الفن الأصيل ونما فيه ما اصطلح عليه «بالفن الهابط». فهل من عودة إلى هذا الفن الأصيل بعد أن أبدى العديد من عشاق الغناء العربي رغبتهم في إحياء التراث الغنائي القديم والرجوع إلى الفن الأصيل أمام ما تعرفه الساحة الفنية من تراجع؟

أغاني خالدة رفعت من قيمة الذوق والجمال كفن أصيل، وقيمة إنسانية عليا، تركت ظلالها على عصر عاشت فيه الأغنية أزهى مراحلها. فحظيت بتقدير كبير من الجمهور العربي الذي أطلق عليها أغاني الزمن الجميل. ولا نعرف في الحقيقة أي فترة من تاريخ مصر يمكن أن نشير فيها إلى هذا الزمن الجميل، لأن لكل زمان فنانوه ومبدعوه. وترتبط عند معظم الناس ببداية الخمسينات والستينات من القرن العشرين. فالزمن الجميل تعبيرٌ يشير إلى كل ما يمُتّ إلى الفن الراقي في مختلف أنواع الفنون، وخاصة الشعر والغناء. وهو مرحلة ازدهار ثقافي على مختلف المستويات بما فيها الفنون والآداب. فازدهرت الأغنية بمرجعياتها الموسيقية وضروبها الإيقاعية سواء كانت بلُغتِها الفصحى أو العامية، لدرجة أن العديد من الفرق الموسيقية العربية حاولت إحياء هذا الموروث الموسيقي الغنائي تلبية لذوق الجمهور بما فيهم فئة الشباب الذين ملّوا من سماع الأغاني الصاخبة وقد استهوتهم الأغنية القديمة بجماليتها ورقة أنغامها، وهو ما دفع العديد من المطربين العرب إلى إعادة تقديم الأغاني القديمة لجمهور عشق هذه الروائع، ليس بغرض البكاء على زمن ولّى ولم يعد، ولكن بهدف الرؤية الجمالية وتعميق الإحساس بالجمال في دعم عملية التذوق الفنّي والتعرف على عمالقة الطرب العربي وعظماء الملحنين وكبار الشعراء.

ولا نقصد من هذه الأعلام والنماذج البكاء على الماضي بأحلامه وذكرياته والإحساس بالنزعة الحنينية لزمن يمكن أن يجعل الحياة بهذا المفهوم امتداداً للماضي، ويعيش المرء في وهم أن كل ما هو جميل لا يرتبط إلا بتلك المرحلة من التاريخ ولا أمل له في المستقبل. بل العكس من ذلك فالفن الجميل يمتد دائماً إلى المستقبل. وإذا كان الزمن الجميل يعني أشياء جميلة مرت تحنّ إليها النفس، فهذا لا ينفي أن هناك زمناً أجمل وقد يأتي زمن أجمل منه. ليس معنى هذا أننا نرفض كل ما هو حديث لمصلحة القديم فننبذ الجديد. فلكل زمن ذوقه الخاص به ورجاله ومبدعوه.

****

(*) مقدمة كتاب “الشعر والغناء وترسيخ الثقافة الكونيّة” الصادر حديثاً للدكتورة حورية الخمليشي.

اترك رد