طَنُّوس الأَرخَنتِينِي! 

“لَيسَ هُناكَ شَيءٌ أَصعَبُ مِن وُجُودِ رُوحٍ تُرِيدُ في جَسَدٍ لا يَستَطِيع”

(جُبران خَلِيل جُبران 1873-1930 –  قالَها لِصَدِيقِهِ إِمِيل زَيدان)

أَجمَعَت دارُ الكَرمِ، القَريَةُ الصَّغِيرَةُ الوادِعَةُ على اختِيارِ طَنُّوس ناطُورًا، في العام 1913.

حَتَّى الَّذين كانُوا لا يُضمِرُونَ لَهُ الوُدَّ الصَّافِيَ أَدرَكُوا أَنَّهُ حاجَةٌ لَهُم. فَمَن غَيرُهُ يَجرُؤُ على مُواجَهَةِ آل عَدَس، جِيرانِ قَريَتِهِم، الَّذِينَ يَعِيشُونَ على تَربِيَةِ الماشِيَةِ وَيَترُكُونَها تَرعَى في أَرزاقِهِم بِلا حَسِيب؟

هَؤُلاءِ عائِلَةٌ تَفَرَّعَت، وكَثُرَ أَفرادُها، تَعِيشُ حَياةً قَبَلِيَّةً مُتَماسِكَةً على سُنَّةِ “أَنا وابنْ عَمِّي عا الغَرِيب”، فَكانَ القَومُ يَجتَنِبُونَ الصِّدامَ مَعَهُم. تَصَدَّى طَنُّوس يَومًا لِثَلاثَةٍ مِن رُعاتِهِم دَخَلُوا أَرضَهُ بماعِزِهِم. وحِينَ هَمُّوا بِالاعتِداءِ عَلَيهِ جابَهَهُم بِجِذْعِ شُجَيرَةٍ يابِسٍ، فَأَلقاهُم أَرضًا يَتَخَبَّطُونَ في جِراحِهِم وآلامِهِم.

مَرَّتِ الحادِثَةُ مِن دُونِ عَواقِبَ لِأَنَّ ذَوِيهِم يَعرِفُونَ طَنُّوسَ تَمامَ المَعرِفَةِ، وأَنَّهُ لا يَعتَدِي، ولا يَثُورُ إِلَا والحَقُّ إِلى جانِبِه.

***

وَلِدَ طَنُّوس في العام 1890، وكانَ بِكْرَ أَبَوَيه.

نَشَأَ كَرِيمَ النَّفسِ، لَطِيفًا خَجُولًا كَبَنَفسَجَةٍ، حادَّ الذَّكاءِ، وَدُودًا، مُقتَصِدًا في كَلامِهِ، يُبدِي الاحتِرامَ الفائِقَ لِلصَّغِيرِ كَما لِلكَبِيرِ، لا يَتَناوَلُ أَحدًا بِنَمِيمَةٍ، ذا مُرُوءَةٍ مَشهُودَةٍ، شُجاعًا حَتَّى التَّهَوُّرِ، لا يَعتَدِي، ولا يَهابُ مَن كان يَرهَبُهُمُ القَومُ، ويَتَحاشاهُ أَشقِياءُ مَعرُوفُونَ في الجِوارِ، وإِذا ضِيمَ فَبُركانٌ لا تَقِفُ بِوَجهِهِ سُدُود.

كانَ قَوِيَّ الجِسمِ، يَحلُو لِفِتيانِ القَريَةِ تَأَمُّلُهُ وهو يُقَطِّعُ الحَطَبَ، وقَطَراتُ العَرَقِ تَلتَمِعُ على عَضَلاتِهِ المَجدُولَةِ، وجِذْعِهِ المَحبُوك. وكانُوا يَقُولُونَ، في القَريَةِ، إِنَّ لَهُ قُوَّةَ ثَوْرٍ، وشَجاعَةَ أَسَد.

أَوَّلُ اختِبارٍ لَهُ مع الدَّهرِ ونَوازِلِهِ كانَ يَومَ قَضَى والِدُهُ وهو يَحرُثُ أَرضًا مُلاصِقَةً وادِيًا سَحِيقًا، إِذ أَدرَكَ حافَّتَهُ فانزَلَقَت بِهِ التُّربَةُ وهَوَى حَتَّى القاعِ، وكانَ طَنُّوس حِينَئِذٍ في العِشريِنَ مِن عُمرِهِ، فَوَقَعَت على كاهِلِهِ أَعباءُ العائِلَة.

تَصغُرُهُ أُختُهُ وَردَة بِعامٍ، وأَخُوهُ عَبدالله بِأَربَعَةٍ، وأَخُوهُ فارِسُ بِسِتّ.

انصَرَفَ إِلى العِنايَةِ بِأَرضِهِم الَّتي يَكفِيهِم زَيتُونُها مَؤُونَةَ العَيشِ المُتَواضِع.

ظَلَّ ناطُورَ قَريَتِهِ حَتَّى مُنتَصَفِ العامِ 1915 حِينَ أُلغِيَت هذه المَهَمَّةُ، فَالنَّاسُ في ضِيقٍ مادِّيٍّ، إِذ كانَت الحَربُ الكَونِيَّةُ الأُولَى في أَوْجِها، والعَسكَرُ التُّركِيُّ ثَقِيلُ الظِّلِّ، مُتَطَلِّبٌ، والقِرْشُ نادِرُ الوُجُودِ، عَزِيز.

ضاقَتِ السُّبُلُ بِطَنُّوس وهو المَسؤُولُ عن إِعالَةِ أَفرادٍ كُثُرٍ، والمَواسِمُ إِلى شُحّ. فَعَزَمَ على الهِجرَةِ بَعدَ أَن بَدَأَتِ المَجاعَةُ تَذُرُّ قَرنَها في الجَبَلِ اللُبنانِيِّ بِفِعلِ الحِصارِ التُّركِيِّ عَلَيه. وقَرَّ رَأيُهُ على الأَرجَنتِين، فَقَد تَناهَت إِلَيهِ أَخبارُ أَبُو نَعِيم، مِن جِوارِهِم، الَّذي أَصابَ ثَروَةً مَرمُوقَةً هُناك.

تَمَكَّنَ، في صَيفِ 1916، لِقاءَ مَبلَغٍ مِن المالِ، وبِمُساعَدَةِ عَمِيلٍ لِوِكالَةِ سَفرِيَّاتٍ بَحرِيَّةٍ مِن جَملُون، البَلدَةِ المُجاوِرَةِ، أَن يَلتَحِقَ بِباخِرَةِ الشَّحنِ “بارِيتانيا” التي تَستَعمِلُ الفَحمَ الحَجَرِيَّ وَقُودًا. فَقَدَّمَ خَدَماتِهِ كَعامِلٍ لِقاءَ سَفَرِهِ مِن دُونِ تَكالِيف.

استَغرَقَتِ الرِّحلَةُ في المُحِيطِ الأَطلَنطِيِّ زُهاءَ أَربَعِينَ يَومًا، مَرَّت فِيها الباخِرَةُ عَبرَ مَرافِئِ حَيفا، بَور سَعِيد، اسطَنبُول، نابُولِي، قَبلافرانش، جِيبرالتار، وُصُولًا إِلى مَرفَأ دِيزِيدُو (Puerto Deseado) في مِنطَقَةِ باتاغُونيا (Patagonia) الأَرجَنتِينِيَّة ذاتِ الطَّبِيعَةِ الخَلاَبَة. في المَرفَأ اشتَغَلَ حَمَّالًا لِمُدَّةِ أُسبُوعٍ، كانَ يَنامُ خِلالَها في العَراءِ، أَو على هَسهَسَةِ الجُرذانِ في الزَّوايا الرَّطبَةِ المَخفِيَّةِ، حَتَّى واتاهُ الطَّالِعُ بِصُورَةِ تاجِرٍ، الدُّون فرانكُو (Franco Don)، أُعجِبَ بِنَشاطِهِ وقُوَّتِهِ الجَسَدِيَّةِ، فَاصطَحَبَهُ إِلى مَنزِلِهِ واتَّخَذَهُ عامِلًا لَدَيه.

هذا السَّيِّدُ الثَّرِيُّ يَملِكُ مَتجَرَ أَقمِشَةٍ كَبِيرًا، ومَخزَنًا فَسِيحًا لِلحُبُوبِ على أَنواعِها، في بَلدَةِ مُورِينُو مِن مُحافَظَةِ بوِينِس آيرِس (Morino Buenos Aires)، يَمُدُّ بِبِضاعَتِهِ صِغارَ التَّجار. وكانَ يُقِيمُ في قَريَةٍ صَغِيرَةٍ مُجاوِرَةٍ، في مَنزِلٍ رَحْبٍ مُؤَلَّفٍ مِن طابِقَينِ، أَمامَهُ حَدِيقَةٌ وَسِيعَةٌ جِدًّا تَحوِي أَشجارًا مُثمِرَةً مُتَنَوِّعَةً، في مُوازاتِها طَرِيقٌ تَختَرِقُ زاوِيَةً مِن غابَةٍ مُتَرامِيَةٍ، لِتُفضِيَ إِلى بَلداتٍ كَثِيرَةٍ مُنتَشِرَةٍ في السُّهُوب. كان طَنُّوس يَعتَنِي بِالحَدِيقَةِ، وهو خَبِيرٌ بِالأُمُورِ الزِّراعِيَّةِ، مَأواهُ كُوخٌ أَنِيقٌ قائِمٌ في طَرَفِها، إِلى جانِبِ مُساعَدَةِ رَبِّ الدَّارِ في أَعمالِهِ التِّجارِيَّة.

لَم يَرُقِ اسْمُ طَنُّوس لِلأُذُنِ الأَرجَنتِينِيَّةِ فَأَصبَحَ تُوماس (Tomás) على أَلسِنَةِ هَؤُلاءِ النَّاس. إِلَا واحِدٌ مِن أَقرِبائِهِم، صَلِفٌ، غَلِيظُ الطَّبْعِ، سَمِجُ النُّكتَةِ، يَزُورُهُم مِن حِينٍ لآخَرَ، لاحَظَ أَن طَنُّوس وَصَلَ إِلى رُبُوعِهِم بِهُوِيَّةٍ تُركِيَّةٍ، فكانت تَحلُو لَهُ مُناداتُهُ بِـ “تُوركُوس”، فَيَتَأَلَّمُ صاحِبُنا، ويَتَمَزَّقُ في داخِلِهِ. ولَكَم هَمَّ أَن يُلَقِّنَهُ دَرسًا لَن يَنساهُ، ولكِنَّهُ يَعُودُ عن عَزمِهِ، كُلَّ مَرَّةٍ، خَشيَةَ العَواقِبِ الوَخِيمَةِ، فهو لَم يَنسَ بَعْدُ تَشَرُّدَهُ في المَرفَأ، ومَبِيتَهُ في المَواضِعِ القَذِرَةِ بِرُفقَةِ الزَّحَّافاتِ والكِلابِ الشَّارِدَة.

***

مَضَت سَنَةٌ ورِضَى الدُّون فرانكُو على طَنُّوس يَزدادُ يَومًا بَعدَ يَومٍ، وكان يَرفَعُ له أَجرَهُ مِن دُونِ طَلَبٍ مِنهُ، لِما لَمَسَ فِيهِ مِن أَخلاقٍ صافِيَةٍ، وإِخلاصٍ، ونَزاهَةٍ، وتَرَفُّعٍ، ونَشاطٍ، وقُوَّة.

واجَهَتِ الأَرجَنتِين أَزْمَةً اقتِصادِيَّةً خانِقَةً في العامِ 1917، زادَ مِن تَفاقُمِها الرُّكُودُ المَشهُودُ في الاقتِصادِ العالَمِيّ. فَانتَشَرَ اللُصُوصُ، وكَثُرَتِ الجَرِيمَةُ، وَعَمَّ ابتِزازُ الأَغنِياءِ عَبرَ الخَطْفِ، وشَتَّى الطُّرُق.

في يَومِ عُطلَةٍ، كان طَنُّوس يَقُومُ بِبَعضِ الأَعمالِ الزِّراعِيَّةِ في حَدِيقَةِ البَيتِ، وإِذ بِهِ يَسمَعُ صُراخًا واستِغاثاتٍ مِن ناحِيَةِ الطَّرِيقِ العام. فَأَمسَكَ بِقَضِيبِ حَدِيدٍ وَهَبَّ مُسرِعًا في اتِّجاهِ الصَّوت. أَطَلَّ مِن السُّورِ فَرَأَى ثَلاثَةَ رِجالٍ يُحاوِلُونَ أَن يَضَعُوا كامِيلا (Camila) ابنَةَ سَيِّدِهِ عُنوَةً في سَيَّارَتِهِم، وهي تُقاوِمُ مع خادِمَتِها بِشَراسَة.

قَفَزَ إِلى الطَّرِيقِ، حِينَ وَصَلَتِ السَّيَّارَةُ إِلَيهِ والابنَةُ تُوَلوِلُ في داخِلِها. حاوَلَ السَّائِقُ أَن يَدهَسَهُ، فَانحَرَفَ صاحِبُنا وضَرَبَ الزُّجاجَ الأَمامِيَّ بِقَضِيبِ الحَدِيدِ، فَتَحَطَّمَ وَشُجَّ رَأسُ السَّائِقِ، وصَدَمَتِ السَّيَّارَةُ الحائِطَ وتَوَقَّفَت. تَرَجَّلَ مِنها مُسَلَّحانِ وهُما يُطلِقانِ النَّارَ، فَعاجَلَهُما بِحَدِيدِهِ الصُّلْبِ فَأَلقاهُما طَرِيحَينِ، وأُصِيبَ هو بِرَصاصَةٍ في خاصِرَتِه.

احتَشَدَ النَّاسُ وأَتَتِ الشُّرطَةُ، فَنَقَلَتِ السَّائِقَ القَتِيلَ والجَرْحَى إِلى المُستَشفَى القَرِيب.

بَعدَ إِبلالِهِم أُودِعَ اللِصَّانِ السِّجنَ وقد تَكَشَّفَ عَلَيهِما أَكثَرُ مِن مُذَكِّرَةِ تَوقِيفٍ، وحُكِمَ على طَنُّوس بِسَنَةِ سِجنٍ بِتُهمَةِ القَتل.

لَم يَنسَ الدُّون فرانكُو ما أَسداهُ إِلَيهِ طَنُّوس، خُصُوصًا أَنَّ كامِيلا هي الابنَةُ الوَحِيدَةُ المُدَلَّلَةُ الأَثِيرَةُ إِلى قَلبِهِ إِلى جانِبِ أَخَوَيها الصَّغِيرَين. فَكانَ يَزُورُهُ في سِجنِهِ، ويُؤَمِّنُ لَهُ كُلَّ مُستَلزَماتِه. ولكِنَّهُ اضطُرَّ أَن يُوَظِّفَ عامِلًا يَقُومُ بِما كان يُؤَدِّيهِ طَنُّوس.

مَرَّت سَنَةُ السِّجنِ طَوِيلَةً عَسِيرَةً عَلَيه، فهو لَم يَعتَد سِوَى الأَنَفَةِ والشَّمَمِ والحُرِّيَّةِ، فكان يَقضِي الأَيَّامَ في ذِكرَياتِهِ، تَحمِلُهُ إِلى مَرابِعِ الدِّفءِ في قَريَتِهِ البَعِيدَة.

عِندَ خُرُوجِهِ مِن السِّجنِ وَجَدَ الدُّون وعائِلَتَهُ بِانتِظارِهِ، فَنَقَلُوهُ إِلى مَنزِلِهِم مُكَرَّمًا. وبَعدَ أُسبُوعٍ كافأَهُ سَيِّدُ البَيتِ بِأَن قَدَّمَ لَهُ عَنبَرًا فارِغًا يَملِكُهُ في مَدِينَةٍ قَرِيبَةٍ، مِن دُونِ أَن يَسأَلَهُ إِيجارًا، وأَقرَضَهُ مَبلَغًا مُحتَرَمًا من المالِ، وساعَدَهُ على شِراءِ أَقمِشَةٍ، وأَلبِسَةٍ، وزَوَّدَهُ بِنَصائِحِهِ الأَبَوِيَّةِ وإِرشاداتِهِ، لِيُسَهِّلَ عَلَيهِ انطِلاقَتَهُ التِّجارِيَّةَ، وَوَعَدَهُ أَن يُذَلِّلَ مَعَهُ أَيَّ عَقَبَةٍ تَعتَرِضُه.

***

ابتَدَأَ طَنُّوس بِتِجارَةِ الأَقمِشَةِ، فَأَبلَى فِيها بَلاءً حَسَنًا، فَدَرَّت عليه أَرباحًا طائِلَة. ثُمَّ لَم يَلبَث أَن اشتَرَى المَحَلَّ مِن الدُّون فرانكُو، وآخَرَ مُجاوِرًا لَهُ، وَوَسَّعَ إِطارَ تِجارَتِهِ، وكَثُرَ العُمَّالُ لَدَيه.

وبِالرُّغمِ مِن نَجاحِهِ المُطَّرِدِ في أَعمالِهِ، فقد كانت الغُصَّةُ لا تُفارِقُهُ، فَالاتِّصالاتُ بين الأَرجَنتِين والوَطَنِ مَقطُوعَةٌ بِسَبَبِ الحَربِ الكَونِيَّةِ، وهو لا يَعلَمُ شَيئًا مِن أَخبارِ أَهلِهِ في وَسَطِ المَعلُوماتِ المُشَوَّشَةِ الَّتي تَصِلُهُ عن مَجاعَةٍ تَجتاحُ النَّاسَ، ومَوتٍ في الطُّرُقاتِ والحُقُولِ باتَ مِن سِياقِ حَياتِهِم.

ما تَلَقَّى جَوابًا على أَيٍّ مِن رَسائِلِهِ الَّتي واظَبَ على إِرسالِها، حَتَّى كانت بِدايَةُ العام 1920 حِينَ بَلَغَتهُ واحِدَةٌ مِن أَخِيهِ عَبدالله. اطمَأَنَّ إِلى أَنَّ أَهلَهُ بِخَيرٍ، وعَلِمَ عَن كَثِيرِينَ قَضَوْا، فَراحَ يَستَعِيدُ صُوَرَهُم في بالِهِ فَيَغمُرُهُ حُزنٌ شَدِيد. ولَم يَتَأَخَّر بِجَوابٍ إِلى أَهلِهِ مَشفُوعٍ بِحَوالَةٍ مالِيَّةٍ قَيِّمَةٍ، وأُخرَى لِجَدَّتِهِ لِأَبِيه.

***

في العامِ 1925 تَزَوَّجَ ابنَةَ مُزارِعٍ اعتادَتِ الشِّراءَ مِن مَتجَرِه. هي فَتاةٌ تَصغُرُهُ بِسَنَةٍ، تَتَمَتَّعُ بِجَمالٍ طَبِيعِيٍّ هادِئٍ، ودَرَجَةٍ بَسِيطَةٍ مِن التَّعَلُّمِ، مُتَدَيِّنَةٌ، مُحتَشِمَةٌ، فَكانت حَياتُهُ مَعَها هانِئَةً، وغَدا هو جُلَّ اهتِمامِها.

لَم يُرزَق بِسِوَى ابنَةٍ دَعاها سارَة (sara) تَيَمُّنًا بِوالِدَتِه. وكان حَظُّها مَنكُودًا، فَأُصِيبَت، في صِغَرِها، بِشَلَلٍ في ساقَيها نَتِيجَةَ فِيرُوس (poliovirus). ولَم تُجْدِ كُلُّ الوَسائِطِ، والعِلاجاتِ، وإِعادَةِ التَّأهِيلِ في القَضاءِ على دائِها، فَباتَت تَستَعِينُ بِحِذاءٍ خاصٍّ وعُكَّازَين. وأَضحَت مَحَطَّ اهتِمامِهِ، ونُقطَةَ ضَعفِه. أَلحَقَها بِأَحسَنِ مَدرَسَةٍ في المَدِينَةِ، وكان يَستَحضِرُ لها المُعَلِّماتِ إِلى المَنزِل.

***

إِلى تِجارَتِهِ بِالأَقمِشَةِ، بَدَأَ بِتِجارَةِ الحُبُوب. وبَعدَ سَنَواتٍ مِن التَّقَدُّمِ والنَّجاحِ تَوَصَّلَ إِلى شِبهِ احتِكارٍ لَها في المَناطِقِ الرِّيفِيَّةِ المُجاوِرَة.

بِناءً لِإِلحاحٍ مِن أَخِيهِ عَبدالله لِلمَجِيءِ إِليه والعَمَلِ مَعَهُ، استَحضَرَهُ في العام 1930، فَكانَ لِقاءٌ مُؤَثِّرٌ وجَلَساتُ سَمَرٍ امتَدَّت أَسابِيعَ، يَسأَلُ طَنُّوس، خِلالَها، عن كُلِّ شَيءٍ في القَريَةِ والوَطَنِ، لَكَأَنَّهُ يُرِيدُ إِفراغَ رَأسِ أَخِيهِ كَلامًا على لِسانِه.

باتَ الوافِدُ مِنَ القَريَةِ البَعِيدَةِ السَّاعِدَ الأَيمَنَ لِأَخِيهِ، وكانَ نَشِيطًا، مَلِيئًا بِالحَيَوِيَّةِ والفَرَح، مُولَعًا بِالسَّهَرِ في الحاناتِ، ما قادَهُ إِلى الارتِباطِ بِعَلاقَةٍ عاطِفِيَّةٍ مع راقِصَةٍ مَعرُوفَةٍ، راحَ يُغدِقُ عليها المالَ بِسَخاءٍ، وهامَ بِها حَدَّ الهَوَسِ، وتَعَلَّقَت بِهِ، أَو هو مَن تَوَهَّمَ ذلك.

وإِذ عَلِمَ طَنُّوس بِعَلاقَتِهِ المَشبُوهَةِ، خافَ عليهِ، فَالجَرِيمَةُ مُتَفَشِّيَةٌ، خُصُوصًا في أَوكارِ اللَيلِ حَيثُ تَتَفَلَّتُ الغَرائِزُ مع السُّكْرِ والعَربَدَةِ والجِنسِ الرَّخِيص. حاوَلَ، بِشَتَّى الطُّرُقِ، أَن يَثنِيَهُ، فَلَم يَرتَدِعْ، فَراحَ يَكِيلُ له النُّصْحَ، والتَّحذِيرَ الشَّدِيدَ، ولكنَّ الهَوَى كان قد غَلَبَ عليهِ، فَتَوَرَّطَ في خِلافٍ مع عُضْوٍ مِن إِحدَى المافيات. وكانت لَيلَةٌ مَشؤُومَةٌ اشتَبَكَ فيها مع المَذكُورِ ورِفاقِهِ، فَقُتِلَ وهو في حالَةِ السُّكْرِ الشَّدِيد، وكان ذلك في رَبِيعِ العامِ 1932.

أُصِيبَ طَنُّوس بِصَدمَةٍ جَعَلَتهُ شارِدَ الذِّهنِ، مُهمِلًا لِعَمَلِهِ. أَرسَلَ يُخبِرُ أَخِيهِ فارِس بِالفاجِعَةِ، خائِفًا مِن وَقْعِها على والِدَتِهِ الَّتي لا تَفتَأُ تَسأَلُ عن كِلَيهِما في الرَّسائِل.

مَضَتِ الأَيَّامُ، والأَيَّامُ مِمحاةٌ لا يَبقَى إِثْرَها في الصَّحِيفَةِ غَيرُ بَقايا أَسطُرٍ مُفَكَّكَةِ الأَوصالِ، باهِتَةِ اللَونِ، شاحِبَةِ الاصفِرار. فَعادَ إِلى مَعمَعَةِ العَمَلِ بِنَشاطِهِ السَّابِقِ، إِلَا في أُوَيقاتِ النَّومِ حَيثُ تَغزُوهُ الذِّكرَياتُ مِن كُلِّ فَجٍّ، ومِنها ذِكرَى أَخِيهِ الرَّاحِلِ، فَيَغفُو على كَآبَةٍ لا يَكشَحُها سِوى الفَجرِ الطَّالِعِ، وهُمُومِ الكِفاح…

***

دَرَجَ طَنُّوس على إِرسالِ المالِ إِلى أَخِيهِ في الوَطَنِ لِيَقُومَ على العائِلَةِ، خُصُوصًا أَنَّهُ باتَ لَهُ زَوجَةٌ وأَولادٌ يَعِيشُونَ مِن إِيرادِ أَرضِهِم اليَسِير. وأَلَحَّ عليه أَن لا يُقَتِّرَ على والِدَتِهِ وأُختِهِ، وإِلى جانِبِ هذا سَأَلَهُ أَن يُؤَسِّسَ لَهُ حِسابَ تَوفِيرٍ في مَصرِفٍ مُحتَرَمٍ، سَيُغَذِّيهِ تِباعًا بِما يَتَيَسَّرُ لَدَيه. فَقَد كانَ في نِيَّتِهِ أَن يَعُودَ في شَيخُوخَتِهِ إِلى أَرضِ مِيلادِهِ، فَلَن يَرضَى أَن يُدفَنَ في تُرابٍ غَرِيبٍ بارِد…

وكان عَزاؤُهُ الأَحَبُّ رَسائِلَ أَخِيهِ تُعِيدُهُ إِلى القَريَةِ وشُؤُونِها الصَّغِيرَةِ والكَبِيرَةِ، وأُمُورِ الوَطَنِ عُمُومًا. على أَنَّ حَنِينَهُ وحُلمَ العَودَةِ لم يَفتُرا أَبَدًا، بل ظَلَا دافِعًا لَهُ لِلعَمَلِ بِجِدٍّ كَي يَكُونَ له مالٌ كافٍ يُؤَمِّنُ له حَياةً كَرِيمَةً بَعدَ العَودَة.

جاءَهُ، في رِسالَةٍ مِن أَخِيه: “اليوم الخميس في 17 ايلول غ سنة 1936 دخل الاوتومبيل عا دار الكرم اول مرة مع مالك فارس من جملون. وسجلت انا ها التاريخ متل ما كان يعمل جدي باول التوراة العتيقة المشلعة. وعينك تشوف قديش انخضت الضيعة…”.

في العامِ 1940 قَضَت والِدَتُهُ أَجَلَها بَعدَ أَن تَفاقَمَتِ الأَمراضُ عليها، مِن ضَغْطٍ شَريانِيٍّ عالٍ، وتَصَلُّبٍ في الأَورِدَةِ، وزِيادَةٍ في نِسبَةِ سُكَّرِ الدَّمِ، وغَيرِها. فَأُصِيبَ بِاكتِآبٍ لازَمَهُ لِفَترَةٍ طَوِيلَةٍ، وأَحَسَّ بِذَنبٍ يَنخَزُه بِنَدَمٍ حارِقٍ إِذ لَم يَستَجِبْ لِنِداءاتِها بِالعَودَةِ لِتَراهُ قَبلَ سَفَرِها الأَخِير.

وبَعدَ خَمسِ سَنَواتٍ أُصِيبَت أُختُهُ بِمَرَضٍ عُضالٍ، فَأَرسَلَ إِلَيهِ أَخُوهُ يَشكُو تَكالِيفَ عِلاجِها الباهِظَةَ والمُستَدامَةَ، فَما كان مِنهُ إِلَا أَن رَجاهُ استِعمالَ حِسابِهِ المَصرِفِيِّ كَيفَما يَشاءُ، فَالمُهِمُّ هو أَن يُؤَمِّنَ لِأُختِهِ ما تَحتاج. وفي العام 1950 تَوَفَّاها اللهُ، فَحَزِنَ طَنُّوس عَمِيقًا بِالرُّغمِ مِن تَوَقُّعِ الحَدَثِ لِما كانَت تُعانِيهِ في صِراعِها المَرِيرِ مع العِلَّة.

في العامِ 1951 تُوُفِّيَت زَوجَتُهُ، إِثْرَ سَكتَةٍ قَلبِيَّةٍ،  فَأَحَسَّ أَنَّ مَواقِدَ الحَنانِ قد خَمَدَت، وقد لا يَعُودُ بَعدَها حَنانٌ يُدفِئ…

بَدَأَت عَلائِمُ النِّعمَةِ تَظهَرُ جَلِيًّا على فارِس وزَوجَتِهِ وَوَلَدَيهِ، فَأَضافَ إِلى مَنزِلِهِ بَعضَ الغُرَفِ، واشتَرَى “ضَهْر البَيادِر”، قِطعَةَ الأَرضِ الواقِعَةَ في وَسَطِ القَريَةِ والَّتي تِملِكُها الأَرمَلَةُ “عَفاف”، وسَجَّلَ وَلَدَيهِ في مَدرَسَةٍ خاصَّةٍ في جَملُون. وبَدَأَتِ الأَسئِلَةُ تَتَواتَرُ بَينَ أَهلِ القَريَةِ في سَهَراتِهِم ومَجالِسِهِم عن مَدَى غِنَى طَنُّوس، والذي فاضَ جَلِيًّا على أَخِيهِ فارس. وكانُوا يَقُولُونَ، على سَبِيلِ الفُكاهَة: يَبدُو أَنَّهُ يَجمَعُ المالَ بِالرَّفْشِ هُناك…

لَم يَتَسَنَّ لِطَنُّوس مَجالٌ لِزِيارَةِ وَطَنِهِ، بِالرُّغمِ مِن حُلمِهِ الدَّائِمِ بِها، فقد صَعُبَ عليه أَن يَترُكَ تِجارَتَهُ في أَيدِي غُرباءَ قد يُسِيئُونَ الإِدارَةَ والأَمانَةَ، وكانت السَّنَواتُ تَمُرُّ سَرِيعًا، وعُمرُهُ يَزلَقُ، والبَياضُ يَغزُو رَأسَه…

***

في العامِ 1952 تُوُفِّيَ الدُّون فرانكُو، فَحَزِنَ جِدًّا لِما كان مِن صَداقَةٍ بَينَهُما، ما زادَتها الأَيَّامُ إِلَا رُسُوخًا، وهو يَذكُرُ ما أَسَرَّهُ إليه قَبلَ وَفاتِهِ بِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ مِن خَشيَتِهِ أَن يَتَمَكَّنَ ابناهُ مِن إِدارَةِ أَعمالِهِ، فَهُما اعتادا حَياةَ البَذخِ والرَّاحَةِ والخُمُول.

نَهارَ الجُمُعَةِ العَظِيمَةِ لِلعامِ 1953 حَلَّتِ الكارِثَةُ الكُبرَى على طَنُّوس فَقَصَمَت ظَهرَهُ، وزادَت في عَدِّ سَنَواتِهِ عَشَرات. فقد هاجَمَت مَجمُوعَةٌ مِن اللُصُوصِ مَزرَعَتَهُ العامِرَةَ، في أَصِيلِ ذلك النَّهارِ المَشهُودِ، فَتَصَدَّى لَهُم الحُرَّاسُ، وبادَلُوهُم إِطلاقَ النَّارِ، فَقُتِلَ أَحَدُهُم، وأُصِيبَت سارَة بِرَصاصَةٍ قاتِلَةٍ في رَأسِها. وإِذ خَرَجَ طَنُّوس على الجَلَبَةِ وإِطلاقِ النَّارِ، شاهِرًا بُندُقِيَّتَهُ، كان الجانُونَ قد فَرُّوا، وأَلفَى ابنَتَهُ، حَبِيبَةَ قَلبِهِ، راقِدَةً في بِركَةٍ صَغِيرَةٍ مِن الدِّماء. صُدِعَ، وارتَمَى عَلَيها، وأَخَذَتهُ نَوبَةُ بُكاءٍ كَطِفل. وأَسرَعَ الحُرَّاسُ فَنَقَلُوها إِلى المُستَشفَى، ولكنْ بَعدَ فَواتِ الأَوان.

باتَت أَيَّامُهُ سَوادًا مُطبِقًا، وهَجَرَت الابتِسامَةُ شَفَتَيهِ، وأَحَسَّ بِأَنَّ الحَياةَ تَرذُلُهُ وتَأبَى عليه كُلَّ هَناءة. وعَجَزَ أَصحابُهُ المُقَرَّبُونِ عن إِعادَتِهِ إِلى دَورَةِ الزَّمَنِ الطَّبِيعِيَّةِ، فَانطَوى على نَفسِهِ، مَلاذُهُ، كُلَّما أَوَى إِلى المَنزِلِ بَعدَ العَمَلِ، حُجرَةٌ مُغلَقَةٌ، وأَجفانٌ مُطبَقَة.

مَرَّت على حالِهِ هذه سَنَةٌ كامِلَةٌ فَبَدَأَ يَعُودُ تَدرِيجًا إِلى سِيرَتِهِ الأُولَى، وكانت مُتعَتُهُ الوَحِيدَةُ في أَيَّامِ الفُرَصِ النُّزهَةَ في الغابَةِ القَرِيبَةِ، على ظَهرِ جَوادِهِ الذي يَرعاهُ كَفَردٍ مِن العائِلَة.


ساءَتِ الأَحوالُ الاقتِصادِيَّةُ في العامِ 1955، بَينَ جَزْرِ الرَّقابَةِ والقَمْعِ، فَرَضَهُما الرَّئِيسُ خوان بِيرُون (Juan Perón)، والعَمَلِيَّاتِ العَسكَرِيَّةِ ضِدَّهُ مِن قِبَلِ الجَيشِ وبَعضِ الجِنرالاتِ، فَبَدَأَ الحُكْمُ يَتَقَلقَلُ، والتِّجارَةُ تَتَقَلَّصُ، فَراوَدَت طَنُّوس فِكرَةُ تَصفِيَةِ أَعمالِهِ كافَّةً والرُّجُوعُ إِلى الوَطَن. وكان يَتَرَيَثُ بِسَبَبِ الهُبُوطِ المُدَوِّي لِأَسعارِ الأَسهُمِ، وانكِماشِ الطَّلَبِ على الشِّراءِ والاستِثمارِ، عازِمًا أَن لا يَتَأَخَّرَ يَومًا واحِدًا في مُباشَرَةِ مُعامَلاتِ العَودَةِ، هذا إِذا آزَرَهُ الحَظُّ وتَمَكَّنَ مِن تَقلِيصِ خَسارَتِهِ عند بَيعِهِ كُلَّ مُمتَلَكاتِه.

إِلى ذلك فقد قامَت شَرِكَةٌ ضَخمَةٌ – مِنَ المُساهِمِينَ فِيها مُتَنَفِّذُونَ في الدَّولَةِ – باحتِكارِ تِجارَةِ الحُبُوبِ في مُجمَلِ مُحافَظَةِ باتاغُونيا، فَباتَ هو سَمَكَةً تُصارِعُ حُوتًا هائِلًا، فَكَفَّ عن هذا النَّوعِ مِن التِّجارَةِ، ما قَلَّصَ، إِلى حَدٍّ كَبِيرٍ إِيراداتِهِ، ولكنَّهُ لَم يَيأَسْ لِأَنَّهُ كان قد اتَّخَذَ قَرارَهُ بِالعَودَةِ النِّهائِيَّةِ إِلى الوَطَن.

***

أَطَلَّ العامُ 1956، وفي يَومِ عُطلَةٍ، حَمَلَ طَنُّوس بُندُقِيَّتَهُ، وامتَطَى جَوادَهُ الأَثِيرَ، وسارَ إِلى نُزهَتِهِ المُفَضَّلَةِ في الغابَة. وإِذ كان لاهِيًا يَتَأَمَّلُ رَوعَةَ الطَّبِيعَةِ، وجَمالَ قَوسِ السَّحابِ بِوَشيِهِ السَّاحِرِ، قَفَزَ خِنزِيرٌ بَرِّيٌ مِن دُغْلٍ أَمامَ الحِصانِ الذي جَفَلَ وقَفَزَ، فَسَقَطَ طَنُّوس عنه وداسَ الجَوادُ المُرَوَّعُ أَسفَلَ ظَهرِهِ فَصَرَخَ صَرخَةً مُدَوِّيَةً مِن الأَلَمِ، ولَم يَعُدْ يَقوَى على القِيام. أَطبَقَ اللَيلُ وهو طَرِيحٌ، تَتَجاذَبُهُ الأَفكارُ، ويَتَساءَلُ هل سَتَكُونُ نِهايَتُهُ، بَعدَ كِفاحِهِ الطَّوِيلِ، مَنسِيًّا كَشِلْوٍ، وفَرِيسَةً لِلوُحُوشِ في هذه الأَرضِ النَّائِيَة؟!

أَدرَكَ الحُرَّاسُ والعُمَّالُ أَنَّ أَمرًا سَيِّئًا قد حَصَلَ لِمُعَلِّمِهِم الذي ما اعتادَ أَن يَبقَى في نُزُهاتِهِ حَتَّى حُلُولِ الظَّلام. فَاحتَشَدُوا بِأَسلِحَتِهِم، والمَصابِيحِ، ودَخَلُوا الغابَةَ مُوَزَّعِينَ في كُلِّ الاتِّجاهات.

وَجَدُوهُ في حالَةٍ مُزرِيَةٍ، في شِبهِ غَيبُوبَةٍ، فَأَسرَعُوا بِهِ إِلى المُستَشفَى القَرِيب. أَظهَرَتِ الفُحُوصاتُ الطِّبِّيَّةُ المُتَعَدِّدَةُ أَنَّهُ أُصِيبَ بِعَطَبٍ في قَناتِهِ الشَّوكِيَّةِ، ما أَدَّى إِلى شَلَلٍ في نِصفِهِ الأَسفَل.

أَضحَت حَياتُهُ على الكُرسِيِّ المُتَحَرِّكِ، لَكَأَنَّ الزَّمَنَ استَعادَ مَأساةَ ابنَتِهِ سارَة فِيهِ هو. ولكِنَّهُ لَم يَشَأ أَن يُلقِيَ سِلاحَهُ ويَستَسلِمَ، بِالرُّغمِ مِن تَأكِيدِ أَطِبَّائِهِ الكُثُرِ بِأَنَّ ما حَصَلَ لا يُجدِي فِيهِ العِلاج.

لَجَأَ إِلى أَهَمِّ مُستَشفًى في العاصِمَةِ بوِينِس آيرِس، فَلَم يَلقَ نَتِيجَةً، فَقَصَدَ الوِلاياتِ المُتَّحِدَةَ الأَمِيركِيَّةَ حَيثُ قَضَى شَهرَينِ في مَصَحٍّ مَشهُورٍ بِعِلاجِ الشَّلَلِ، ولكِنَّ المَكتُوبَ في صَفحَةِ القَدَرِ ما استَطاعَت أَن تُغَيِّرَهُ أَيدِي العِلمِ، فَعادَ كَسِيفًا، يَسأَلُ السَّماءَ، الَّتي ما شَكَّ يَومًا بِعَدالَتِها، ما تُراهُ فَعَلَ لِتُلاحِقَهُ البَلايا مِن حِينٍ لِحِين!

كَبَّدَتهُ مُحاولاتُهُ في طَلَبِ البُرْءِ أَموالًا تَفُوقُ إِمكاناتِهِ، إِضافَةً إِلى سُوءِ إِدارَةِ أَعمالِهِ، في غِيابِهِ، مِمَّن كانُوا مُولَجِينَ بِها، بَينَ إِهمالٍ ونَهبٍ وغَيرِه. فاضطُرَّ، لِإِيفاءِ الدُّيُونِ الَّتى راكَمَها عليه، أَن يَتَّخِذَ الخُطوَةَ الأَخِيرَةَ العَتِيدَةَ، فَباعَ مَنزِلَهُ ومَزرَعَتَهُ وأَسهُمَهُ بِأَبخَسِ الأَثمانِ، وعادَ إِلى دارِ الكَرمِ، فارِسًا مُندَحِرًا خَسِرَ أَهَمَّ صَولاتِهِ، وأَفَلَتِ النِّعمَةُ عَن أُفُقِهِ إِلى غَيرِ رَجعَة.

عادَ يُسَربِلُهُ الإِفلاسُ، وتَغمُرُهُ الخَيبَةُ، وخَجَلٌ لا يَفقَهُ مَأْتاه. ولَم يَبقَ لَهُ مِن أَمَلٍ سِوَى الثَّروَةِ الَّتي تَجَمَّعَت لَهُ في حِسابِهِ المَصرِفِيِّ اللُبنانِيِّ الَّذي استَمَرَّ في تَموِينِهِ والإِضافَةِ إِلَيهِ مَدَى سَنَواتٍ طِوال. وكان قد شارَفَ على السَّابِعَةِ والسِّتِّينَ مِن العُمر.

***

تَجَمهَرَ الأَهالِي في المَحَلَّةِ المُسَمَّاةِ “المْطِلّة”، يَنتَظِرُونَ وُصُولَ العائِدِ إِلى دِيارِهِ بَعدَ غِيابِ أَربَعَةِ عُقُود. مِنهُم رِفاقُ جِيلِهِ، ومِنهُم مَن لا يَعرِفُونَهُ إِلَا مِن أَخبارِ بَأسِهِ وقُوَّتِهِ الَّتي يَتَناقَلُها خَلَفٌ عَن سَلَفٍ، والَّتي جَعَلَت مِنهُ رَمزًا يَكادُ يُوازِي الرُّمُوزَ الَّتي تَرَبَّوْا على حِكاياتِها مِن عَنتَرَةَ إِلى الزِّير وأَبِي زَيْد الهِلاليّ.

استَقبَلوهُ بِالتَّرحابِ الزَّائِدِ، وفي المَساءِ تَجَمَّعَ حَولَهُ أَصحابُهُ القُدامَى يَستَعِيدُونَ الماضِي البَعِيدِ، ويُشفِقُونَ، في دَواخِلِهِم، على مَن كان لا يَهابُ شَيئًا ويَهابُهُ الجَمِيعُ، فَأَصبَحَ سَجِينًا بارِدَ المَفاصِلِ في كُرسِيٍّ مُتَحَرِّك.

***

استَقَرَّ طَنُّوس في بَيتِ أَخِيهِ، بَيتِ أَهلِهِ بَعدَ تَجدِيدِهِ وتَوسِيعِهِ، وكان فارِس يَحُوطُهُ بِاهتِمامٍ بالِغ.

مَرَّ أُسبُوعانِ على عَودَتِهِ، فَاختَلَى بِأَخِيهِ وصارَحَهُ بِعَزمِهِ على بِناءِ بَيتٍ صَغِيرٍ يَقضِي فيه باقِي العُمرِ، وأَصَرَّ على نِيَّتِهِ هذه بِالرُّغمِ مِن مُمانَعَةِ أَخِيهِ، وإِظهارِهِ الضِّيقَ… أَلَيسَ البَيتُ بَيتَهُ وهو فَردٌ مِن العائِلَةِ، وهو ذُو الفَضلِ الكَبِيرِ عَلَيها؟!

ثُمَّ سَأَلَ فارِس عن المَبلَغِ المَوجُودِ في حِسابِهِ، وإِذ ناوَلَهُ أَخُوهُ دَفتَرَ التَّوفِيرِ صُعِق. لَم يَجِد ما كان يَتَوَقَّعُ، لِأَنَّهُ يَعرِفُ تَمامًا المَبالِغَ الَّتي أَرسَلَها، والَّتي كان أَخُوهُ يُطَمئِنُهُ أَنَّها بِانتِظارِهِ ساعَة يَشاء.

فَسَأَلَه: هل هذا كُلُّ ما أَرسَلتُهُ إِلَيكَ سَحابَةَ السَّنَواتِ الطِّوال؟!

صَمَتَ، وطَنُّوس يُسَدِّدُ إِليه نَظَرَهُ، ثُمَّ بَدَأَ، مُتَلَعثِمًا، يَتَذَرَّعُ بِكَثرَةِ المَصارِيفِ، وفَداحَةِ تَكالِيفِ الطِّبابَةِ لِأُختِهِ قَبلَ أَن يَتَوفَّاها الله. يَتَكَلَّمُ ويَتَكَلَّمُ، وأَخُوهُ واجِمٌ كَحَجَرٍ، في وَجهِهِ ما يَفُوقُ أَماراتِ الحُزنِ، وفي عَينَيهِ ذُهُولُ الخَيبَةِ المَرِير. وتابَعَ فارِس مُرَدِّدًا على مَسمَعِهِ المُقفَلِ إِنَّهُ واحِدٌ مِن عائِلَتِهِ، بَل هو والِدُ الجَمِيع. ثُمَّ تَمتَمَ كَمَن يُخاطِبُ نَفسَهُ، والنَّدَمُ يَنضَحُ مِن تَأتَأَتِهِ، وشَيءٌ يَلتَمِعُ في عَينَيه: سامِحنِي يا أَخِي، عائِلَتِي تَضغَطُ عَلَيَّ كَثِيرًا بِأَعبائِها، ولَستُ أُبَرِّرُ نَفسِي، فَأَنا بالَغتُ جِدًّا بِالتَّبذِير… بِرَبِّكَ اغفِرْ لِي، فَأَنا مُجرِم. ثُمَّ دَخَلَ في نَشِيجٍ مُتَواصِلٍ، وأَخُوهُ مُطرِقٌ صامِت.

بَعدَ لَحظاتٍ ثَقِيلَةٍ أَكمَل: غَدًا صَباحًا سَأُسَجِّلُ بِاسمِكَ “ضَهْر البَيادِر”، وإِذا لَم تُقنِعْكَ، سَأَبدَأُ بِإِيفائِكَ حَقَّكَ، تِباعًا، ولو اقتَضَى ذلك مَسافَةَ العُمرِ كُلِّه.

هَزَّ طَنُّوس رَأسَهُ، أَغمَضَ عَينَيهِ، وقال بِصَوتٍ يَنضَحُ مَرارَةً: بَلَى، بَلَى… سَتَفِينِي حَقِّي، ولكِن… يَبقَى شَيءٌ أَهَمُّ، ماتَ إِلى الأَبَد، ولَن يُعَوِّضَنِي مِنهُ أَحَد!

سامَحَكَ الله!

أَدارَ كُرسِيَّهُ المُتَحَرِّكَ، وَلَجَ غُرفَتَهُ، وأَغلَقَ الباب…

***

جَلَسَ طَنُّوس في فِراشِهِ، بَعدَ أَن أَوَى كُلُّ مَن في المَنزِلِ إِلى نَومِهِ، أَسنَدَ رَأسَهُ بِكَفَّيهِ المَشبُوكَتَينِ، وراحَ في إِطراقَةٍ عَمِيقَةٍ استَرجَعَ في لَحَظاتِها المُتَأَنِّيَةِ مَحَطَّاتٍ مِن حَياتِهِ مُنذُ طُفُولَتِهِ حَتَّى رُجُوعِهِ إِلى قَريَتِهِ حَيثُ تَحَطَّمَت أَحلامُهُ، والرُّؤَى الّتي عاشَ على أَطيافِها في غُربَتِهِ البَعِيدَةٍ، وُصُولًا إِلى هذا اليَومِ المَنكُودِ حَيثُ مَزَّقَتهُ خِيانَةُ أَقرَبِ النَّاسِ إِلَيه: أَخِيهِ… برُوتُوس!

فَتَحَ وِعاءَ الدَّواءِ الَّذي دَرَجَ على تَناوُلِ حَبَّةٍ مِنهُ كُلَّ لَيلَةٍ قَبلَ النَّومِ، تَفادِيًا لارتِفاعِ ضَغطِ الدَّمِ، وراحَ يَبتَلِعُ مُحتَواهُ حَبَّةً حَبَّةً. ثُمَّ أَلقَى رَأسَهُ على الوِسادَةِ وغابَ في إِغماءَتِهِ الأَخِيرَة…

***

أَطَلَّ فَجرُ دارِ الكَرْمِ على ثَلاثِ دَقَّاتٍ مَخنُوقَةٍ، حَزِينَةٍ، خافِتَةٍ، مِن جَرَسِها الدُّهرِيّ…

تَناقَلَتِ الأَلسُنُ الخَبَر…

ماتَ طَنُّوس الأَرخَنتِينِي!

اترك رد