رامونا الأيقونة

     

تعرفتُ على رامونا صفير منذ زمن طويل، وكنتُ آنذاك صديقةَ أختها فاديا، عندما كنا على مقاعد المدرسة في المرحلة الثانوية. لم تلفت انتباهي فقط بحالتها الصحية، حيث كانت آثارُ مرض التقلُّص العضلي وعلاجات الكورتيزون قد غيَّرت ملامحَ جسدها وأعاقت حركتَها وأقعَدَتْها عن متابعة الدراسة منذ كان عمرها 11 سنة. بل أدهشتني شخصيتُها وظُرفُها وحضورُها القوي النابض في عائلتها، بقدر ما أدهشتني مهاراتُها الفنية. كانت تمشي بصعوبة، فقط من غرفة إلى أخرى، وبصعوبة أكبر تُحرِّك ذراعَيْها، ولم يبق لها إلا قدرة بسيطة على تحريك كفَّيْها وأناملها. ومع ذلك ابتكرت أشكالاً وألواناً بديعة من كل شيء، القماش، الخرز، الخشب، الفخار، الزجاج، الورق… كل شيء كان يتحوَّل بين أناملها الواهنة إلى عمل فني جميل يبثُّ البهجة ويثير الإعجاب. لم أكن أعلم أنها تكتب، فقد كانت الكتابة آنذاك فعلاً خاصاً وربما تجربة علاجية تحتفظ بها لنفسها.

وعندما التقيتُها بعد غيابٍ دامَ سنين طويلة قضيتُها في نيويورك، وجدتُها أصبحت أسيرةَ الفراش نهائياً وباتت تتنفس من ثقب في حنجرتها وإلى جانب سريرها أنبوبة أوكسيجين للتنفس خلال النوم. واكتشفتُ أنها خلال تلك السنين مارست الكتابة أيضاً، وأنها جمعت مادة يمكن أن تكوِّن كتاباً، لكنها لم تكن متأكدة مما إذا كانت هذه المادة جديرة بالنشر، وإذا كانت كذلك، فهي لا تعرف إلى النشر سبيلاً. فعرضتُ عليها المساعدة على تحديد جودة النص.

بدأتُ القراءة، فوجدتُ نفسي مشدودةً إلى ما كتبَـتْه رامونا، أجهش بالبكاء في بعض صفحاته، وأقهقه ضحكاً في صفحات أخرى، وأقف بعد كل فصل متأملة شاخصة في قوَّة معنى ما مرَّت به وتأثيره في مَن عرفَها، ومعجَبة بأسلوبها النضر السليم والرشيق. ولم أتوقف إلا بعد الْتهام آخر حرف في آخر صفحة. وتوقَّعتُ تأثير ذلك على مَن سيتعرف عليها إذا ما قرأ هذه الكتابات. فسارعتُ إلى طمأنتها بشأن جودة كتاباتها وأكدتُ لها أن قيمة ما كتبَـتْـه ليست فقط اجتماعية وإنسانية وروحانية، بل هي أيضاً قيمة أدبية. ووعدتُها بالعمل على إيجاد سبيل لنشر الكتاب. ولم يتطلب الأمر سوى دقائق قليلة من شرح الموضوع لصاحب دار سائر المشرق الأستاذ أنطوان سعد، الذي لم يتحمس للفكرة فقط، بل تبنّى مشروع النشر. وهكذا كان لي شرفُ المساهمة في إخراج كتابات رامونا إلى القراء، بمساعدة هذه الدار الكريمة.

            

وبالفعل طُبع كتابها وأقيم له حفل إطلاق في معرض الكتاب في أنطلياس، في 6 آذار 2016، حضره محبّون كثر، بينما هي كان مصلوباً جسدُها على سريرها، ومنطلقاً روحُها بين الحاضرين وعلى صفحات الكتاب. ونفدت مئات النسخ في تلك الأمسية، وفي أقل من سنة نفدت الطبعة الأولى بكاملها فأصدرت دار سائر المشرق الطبعة الثانية.

والآن وبعدما سلَّمت رامونا روحَها إلى الخالق ورحلت متحررة من معاناتها التي دامت أكثر من 45 سنة، لا بد من التوقف عند الإرث الذي تركته، وخاصة كتابها، لما للكتاب من دور وما يجب أن يكون له من دور، في حياة مَن عاصروها ولزوماً في حياة الأجيال القادمة.

عندما تتقطع كل السبل، تبقى الكتابة ملاذاً ممكناً بل تكون أحياناً كثيرة فعلَ خلاص. الكتابة مِن أكثر الأفعال حميميةً والأكثر جدوى في ربط الكاتب بعالمه الداخلي بل أيضاً، وبقوة، بالعالم الخارجي. وهذا ما نجحت رامونا في تحقيقه بامتياز.

وقبل الإضاءة على الكتاب، لا بد من الإشارة إلى أن عهد رامونا بالكتابة الموجَّهة إلى جمهور المستمعين والقراء كان قد بدأ في مطلع شبابها، حيث أعدَّت وقدَّمت برنامجاً إذاعياً بعنوان “المختارون” في إذاعة صوت لبنان، عن تجربة ذوي الإعاقة. وكتبت بانتظام في مجلة “الرعية” التي كان يرأس تحريرها المونسينيور يوحنا كوكباني، وكان القراء يتأكدون من وجود مقال لها في العدد قبل أن يقتنوه.

أول ما يتميَّز به الكتاب، عنوانُه الأخّاذ: “الشجرة القزمة”. من أوائل مرحلة العذاب الذي غزا حياة رامونا، طفلةَ السنوات العشر، وقـلَبَها رأساً على عقب، تكوَّن لديها تدريجياً شعورٌ بأنها تشبه شجرة، لأنها، كالشجرة، شبه جامدة في مكان واحد، حسب تعبيرها. ولطالما أقلقتها آية في الإنجيل تقول “كل شجرة لا تعطي ثمراً جيداً تُقطع وتُرمى في النار”. وهالَها ذات يوم منظرُ شجرة في الجوار وهي تسقط أرضاً بعدما انهالت عليها يدُ أحدِهم بفأسٍ حادّة، فروَتْ في كتابها: “أوجعَني صوتُ ضربات الفأس على جذعها وصوتُ اصطدامِها بالأرض بعدما هوَتْ مُحدِثةً خشيشاً كأنه أنين… كأنها كائنٌ حيّ ينطرح أرضاً بعد قتله. هزَّني المشهد فسألتُ أمي: لماذا قطعوها؟ أجابت: نَخَرَ جذعَها سوسٌ فتّاك…” وراحت رامونا تستنتج أنها تشبه تلك الشجرة: “ففي بستان عائلتي أنا الشجرة الوحيدة التي ينخر جذعَها سوسٌ فتّاك… غمرني حزنٌ قاهر… وبكيتُ حتى نضبَتْ دموعي”.

وراودها سؤالٌ ينخر العظم والوجدان: “لماذا أنا؟ مَن وضع السوس في جذعي؟ كيف أكون شجرة جيدة ومثمرة؟” وهكذا بدأت مسيرةَ بحثٍ شاقة، قراءةً وتأملاً وأسئلة ومناقشات واختبارات، عن قصدِ الله بها.  وفي معرض بحثها هذا، وحين كانت تمارس هوايتها في التفتيش في القاموس عن أسماء الأشجار لتجميعها بحسب التسلسل الأبجدي، اكتشفت صدفةً صورة شجرة قزمة ملوِيَّة الجذع تعيش في وعاء مسطَّح ويتجاوز عمرُها الخمسمئة سنة. وصعقتها أوجُهُ الشبه بينها وبين هذه الشجرة بالذات. أدركت حينئذٍ أنها كالشجرة القزمة تحديداً، أو بالأصح المُقزَّمة، لأن البستاني قرر حصرَها في وعاء وضبطَ نمو أغصانها وتمدُّدِ جذورِها ليصنع منها شكلاً فريد الجمال، يخالف مفاهيم الجمال المعهودة. ودفعها ذلك إلى التعمق في معرفة الشجرة القزمة المعروفة عامة بـ bonsai، وتقنية زراعتها والاعتناء بها.

وفي الفصل الذي خصصته للحديث عن الشجرة القزمة، لم تَـكتَفِ بعرض تاريخها وتقنية زراعتها، بل غاصت في أعماقِ أبعادٍ وجودية وروحانية لكشف أسرار التشابه بينهما. فالبستاني “اختارها هي، من بين كل تلك الشجرات، واقتلعها من الأرض، لأن مشروعه لها يختلف عن مشروعها هي. البستاني يقرر، يختار، يعتني… هي تتدرَّب، تتكيَّف، تنمو بحسب رغبته، تطيع مشيئته”. وتكتب عن نفسها (بعدما تماهت تماماً مع الشجرة القزمة) بصيغة الغائب: “إن تطور إدراكها جعلها راغبة بمشروع البستاني لها وقد اجتاحت رغبتُها هذه كلَّ كيانها، فتحوَّل تَوقُها طقساً مقدساً يربطهما برباط يشبه ذلك الذي بين محبوب ومحبوبته. يُشعرها بأنها محبوبة ومختارة، فبدأتْ تستسيغُ عاطفتَه ورؤيتَه واختيارَه لها. وما اعتبرتْه نقصًا أضحى كمالاً، وما اعتبرتْه فقرًا أضحى غنىً، والقزم كبرًا، والضيق وسعًا، والثقيل خفيفًا”. تحكي عن الشجرة ما ينطبق عليها تماماً. “فِعلُ التقزيم حَجَّم قامتَها المادّية ولكنه أطلق العنان لقامتها الروحية والمعنوية، وحوَّلها إلى أثرٍ لحكمةٍ غير مُدرَكة، وربما إلى إرثٍ تتناقله الأجيال”. وجدَتْ أن لكل عنصرٍ في الكون موقعَه وأن غاية وجوده أن يدلَّ على مُبدعه. آمنَتْ أن البستاني قزَّم جسدها ليُكثِّفَ حضورَها ويُجَوهِر كيانَها.

شرحت سبب تسمية نفسها بالشجرة القزمة، بأسلوب قصصي شيِّق، بسيط وعميق في آن معاً، محبوك بدقّة، يستند إلى معلومات علمية ومدعَّم بنظرة فلسفية ورؤية وجودية غير مفتعلة ولا معقّدة.

ثم تروي فصولاً ومشاهد من طفولتها وحاضرها، بصدق ورهافة وعفوية وبلُغةٍ صافية سليمة عذبة. شخص رامونا هو بالطبع عقدةُ القصة ومحوَرُها. سبرَتْ أغوارَ نفسها وسجلت تطوُّرَ حالاتها النفسية والفكرية والجسدية، وأوجُهاً من حياتها العائلية وتَعامُلاتها مع العالم الخارجي والأصدقاء والمعارف. وصفَتْ كلَّ ذلك بإيقاع رشيق طرَّزته بتفاصيل تُثري خط القصة المؤدي إلى الجوهر المقصود، وطعَّمته مراراً بظُرفٍ وتعليقات تنقل القارئ بلحظة من الدمعة إلى الابتسامة، ولا سيما في “هجمة الكوسى” و”دجاجات أبي” و”الرسول بطيخ” و”الرفق بالإنسان” وغيرها.

تروي كيف تحوَّلت من ارتداء الفساتين إلى ارتداء السراويل، وبكلمات بسيطة سريعة تخترق القلب عندما تصفُ فجيعتَها إزاء انتفاخ جسدها بفعل الكورتيزون وما نتج عنه من ازدياد شهيَّـتِها للطعام ليقفز وزنُها من 35 كلغ إلى 85 كلغ في سنة واحدة. تعلَّمت من والدتها ومن مجلات متخصصة الخياطة وحياكة الصوف وتشكيل الدانتيل بصنارة الكروشيه، والتطريز. لكن هذه الأعمال كانت تُسبب لها آلاماً تعطِّل حركة يديها. وخشيةً منها ألّا تكون منتِجة في هذا المجال، بحثت عن حبِّها الأول: الرسم، إذ أحبت الرسم منذ صغرها وكانت حصةُ الرسم في المدرسة حصّتَها المفضلة. وبدأت تدرِّب نفسَها وتتعلم بنفسها إتقان فن الرسم، وصارت ترسم على الزجاج والفخار. “بدا عملي الفني في البداية ساذجاً لكنه تطوّر إلى مرحلة متقدمة وصرتُ أرى نفسي ويراني الآخرون، رسامة محترفة… وبات لحياتي معنى جميل وهدف صالح”.

هذه الفتاة التي أبعدها المرض عن المدرسة وهي في الحادية عشرة من عمرها، توصلت إلى الكتابة بأسلوب يضاهي أسلوب كبار الكتّاب. ففي وصفها لخوف أمها عليها وكيف منعت هذا الخوف من شَلِّها، روعةُ التعبير وبلاغةُ الخلاصات: “كفَّـنَـتْـني أمي بخوفها عليّ، ففكَّكتُ الكفن بقوَّةِ القراءة”.

وتطرقَتْ بطريقة طبيعية جداً، من دون غضب ولا انتقاد مباشر، إلى غياب المكوِّنات المجتمعية الداعمة والمرشِدة للعائلات والمرضى في مثل هذه الحالات. “فكُنّا نستكشف بالاختبار كيف نكيِّف الأشياء لأكون قادرة على استخدامها من دون تعريض جسدي لأي أذى”. تناولتْ غيابَ النواحي الهندسية المراعية لحاجات ذوي الإعاقة في الأمكنة العامة، في سياق رواية فصول مختلفة من فصول حياتها، تاركةً للقارئ حرية الغضب أو الاستياء من هذا التقصير في الوعي العام ومن انعدام المسؤولية الرسمية تجاه هذه الفئة من المجتمع. وغمزت من قناة المؤسسات الخيرية عندما قالت إنها “ترفض أن يحبها الآخرون كواجب أو من خلال مؤسسة خيرية تستخدمها لتمارس فعل الخير موسمياً ومن ثم تنساها حتى الموسم القادم“.

ولمَسْنا في رواياتها كيف ينظر المجتمع إلى ذوي الإعاقة، وظهرت قساوةُ هذا المجتمع باكراً في حياتها عندما كانت لا تزال تذهب إلى المدرسة حيث تعرضت للتَـنَـمُّر من قِبل زميلاتها بسبب شلل أصاب الجهة اليسرى من وجهها نتيجة العلاجات وجعل فمَها منحرفاً قليلًا. وبينما كانت عائلات كثيرة تخجل وتُخفي أبناءها المرضى أو المعاقين عن أعين الناس، كسر أهلُها الطوق الذي كان يفرضه المجتمع، فلم يخجلوا بها بل أكرموها وافتخروا بها وقدموا كل ما بوسعهم لضمان حياة كريمة لها واحتضانها وتعزيز حضورها ودورها بينهم وفي المجتمع. “كانت عنايةُ أمي فائقة ضمن إمكاناتها العاطفية والنفسية والروحية والاقتصادية والاجتماعية، وتَعامُلُها مع وضعي كان جريئاً جداً”. وهذا ما ساعدها على الاستمرار وشجعها على الانطلاق بمسيرة تَخَطّي الإعاقة والسعي إلى الاستقلالية. “وكان أبي مشجعاً وحامياً ومرشداً لمشروع التغيير (الاستقلالية) الذي بدأتُه بإمكانيات أقل من متواضعة. وكانت أختي التي تكبرني بسنة واحدة تدفعني لأتثقف روحياً وأدبياً. وكل واحد من إخوتي يساعدني في حاجاتي المتنوعة”. وحرصت رامونا على عدم استدرار الشفقة: “منذ البدء لم أبحث في عيون الناس عن الشفقة والحزن. وأفضِّل أن أرى في عيونهم الاحترام والتفهُّم والتضامن والتعاون، وهذا يقود إلى الصداقة والنمو”.

اعتبرَتْ سريرَها “سفينة” وهي تشاهد التلفزيون، تسافر حول العالم تكتشف بلداناً وحضارات عبر الصورة والصوت. “أما الجدران فلم أعد أنتبه إليها”. ومن خلاصات أسلوبها الشفاف في الوصف: “فعلتْ بي كلُّ هذه الخبرات التي مررتُ بها فِعلَ حجرِ الصَقْل بماسَةٍ ثمينة. فالماسةُ التي تتكوّن في باطن الأرض المظلم، لا تعكس أيّ نور قبل استخراجها وتنظيفها وتصميم شكلها وشحذها وصقلها بدقة وأناة. وفي المكان الذي أنا فيه، يستكمل الله عمليةَ صقل ذاتي ليعطيها شكلَها النهائي الذي يرضى أن تكون عليه حين توافيه إلى منازله السماوية”.

من فصلٍ إلى آخر نتعرف على تطوُّر تفكيرها ونظرتها إلى نفسها وإلى ما يدور حولها وإلى الحياة والألم والإيمان بالله. وفي مقالي هذا، أردتُ توضيح أن أهمية كتاب رامونا لا تكمن فقط في أنه شهادةُ حياةِ فتاةٍ مزَّقها الألم ونجحت في تخطّيه، بل تكمن أهميتُه أيضاً وبشكل كبير في قيمته الأدبية. كتاب رامونا يحتوي على كل عناصر الكتابة الإبداعية الجدية والجميلة والمؤثرة.

كتاب رامونا ليس نسجَ خيال. إنه من لحم ودم، من فكر وروح، من معاناة معجونة برونق الأمل وسحر الإيمان. إنه عمل أدبي مكتمل العناصر بامتياز. وفي رأيي، ينبغي أن يكون مقرَّراً في قراءات الطلاب في المرحلة التكميلية أو الثانوية مثلاً، لعله يفتح عيون أجيالنا الطالعة على تجارب حقيقية من صلب الواقع، ويكشف لهم عقم العنجهية والتمسك بالقشور، ويعلِّمهم تقدير ما يتنعَّمون به وأهمية التواضع والسعي الشريف والجهد الدؤوب والتغلب على الصعوبات، وأهمية احترام الآخر أياً كانت حالتُه، والشعور بالمسؤولية الاجتماعية بدل التقوقع في الأنانية والإهمال، والتعاطف والتضامن بدل الاستهتار. ولعله أيضاً يقرِّبهم من لغتِهم التي يزدادون ابتعاداً عنها بل يتباهون بازدرائها تماشياً مع العصر!

لا شك في أن كتاب رامونا “الشجرة القزمة”، بما تَوفَّر فيه من عناصر القيمة الأدبية والاجتماعية والإنسانية والروحانية، سيعيش لأطول مما عاشت هي، وبالتالي سيُبقي طيفَ نفسها المناضلة الخلّاقة الراقية الجميلة حاضراً في هذه الدنيا، ليس لأنها هي بحاجة إلى ذلك، بل لأننا نحن ومَن سيأتي بعدنا بحاجة إلى الاتِّــكاء على خلاصات تجربتها.

لم تتوقف عن إدهاشنا في كل تحفة صنعتها، في كل مشهد رسمته، وفي كل كلمة كتبتها… أعمالها الفنية تحكي عنها فهي منتشرة في منازل مَن اشتروها أو مَن قدَّمتها لهم، وتبقى ذكرى ناطقة بتفوُّق هذه الإنسانة وموهبتها والرسالة التي عاشتها . ولكن ما تبقى من هذه الأشياء على الأرجح سيتناقص مع الزمن بسبب التلف أو التعرض للكسر وغير ذلك. أما الكتاب، فلن يتلف ولن ينكسر ولن يتناقص. بل سيزداد حياة وسيظل يرسِّخ حضور رامونا وخلاصات تجربتها في حياة مَن عرفها ومن سيتعرف عليها عبر صفحاته النابضة.

قد يقال إن هناك مثلها المئات من ذوي الإعاقات يعيشون بيننا ويعانون من تجارب مريرة. صحيح بالطبع. ورامونا هي واحدةٌ منهم وهي كلُّهم. وأرجو من صميم القلب والوجدان أن يتوصل المجتمع إلى تخفيف آلامهم وتوفير السبل لعيشهم بكرامة واحترام وتأمين البنية التحتية والأدوات اللازمة وخاصة العقلية المطلوبة لإدماجهم في المجتمع وإتاحة المجالات لاستخدام طاقاتهم الإنتاجية ومهاراتهم. ولكتاب رامونا دور كبير في شحذ الوعي بشأن هذه القضية.

رامونا، عرفتُها عن قرب وعن بُعد. وهي تمثل جميع ذوي الإعاقة خير تمثيل. وكان حضورها في حياتي قوياً ساطعاً ومصدراً لأنقى المشاعر وأصفى الأفكار. وكتابها مدرسة بكل معنى الكلمة.

وأنا مِن المعجبات برامونا. إنها أيقونتي. ومن الغرابة، أن ضحكَتَها هي أكثر ما أتذكره عنها. ضحكة لا يزال صداها يخترق قلبي ويهزّ وجداني وينتزع من عينيّ دموعاً حارقة على فقدانها.

(10- 6- 2018)

******

اترك رد