عن المكتبة الشرقية في بيروت، صدر كتاب “بحر الخلفاء، تاريخ المتوسط الإسلامي من القرن السابع الى القرن الثاني عشر” (464 صفحة) للباحث الفرنسي كريستوف بيكار وترجمة د. جان جبور، وفيه يتبنى الكاتب قراءة تاريخية مغايرة كلّياً للفضاء المتوسطي، استناداً إلى النتاج الغزير المكتوب الذي تركه العرب في تلك العصور، والتوثيق الأثري الذي يشهد ازدهاراً كبيراً، وهذا ما سمح بإعادة تقييم الدور الذي لعبه المسلمون في تاريخ المتوسط.
لقد تبيّن له، وبعكس ما هو سائد، أن الخلفاء والعلماء لم يهملوا الفضاء البحري. فبينما كان البحّارة والمحاربون والتجّار يجوبون المتوسط، كان الجغرافيون وواضعو الخرائط والعلماء في مختلف الميادين يتركون آثاراً عديدة في توصيفه. وبما أن المتوسط كان فضاء للجهاد بالنسبة للخلفاء، فقد بقي محطّ اهتمام الإسلام في العصور الوسطى. يعود الكاتب الى مراجع عربية بالغة الأهمية سلّطت الضوء على انخراط المسلمين في المتوسط، فيستلّ استشهادات ذات دلالة من مؤرخين مثل ابن حبيب وابن عبد الحكم والإدريسي والمسعودي وابن خلدون واليعقوبي وابن خرداذبة والزهري والبلاذري وابن الأثير والمقدسي وابن النديم والطبري والبكري وابن حيّان القرطبي، وغيرهم الكثير، حيث عمل المترجم بجهد لافت على إعادة كل هذه الاستشهادات الى أصلها العربي.
قسم المؤلف كتابه الى جزأين موزّعَين على اثني عشر فصلاً قدّم فيها جردة لمختلف المحطات البحرية الإسلامية في البحر المتوسط. يرى في الجزء الأول أن العرب الأوائل كانوا ينظرون بصورة هامشية أو ثانوية للمتوسط، وذلك اعتماداً على ما هو متوفر من الوثائق. وعلى هذا وجب الانتظار حتى القرن العاشر حتى يتوضح لنا عالم البحر وعالم التجارة البحرية من خلال وثائق الجنيزة. وهنا أسهب المؤلف في الحديث عن المصادر وعن تطور الكتابة التاريخية عند العرب وموقع المتوسط في هذه الآداب، وقدم جملة من الآراء والمواقف لمختلف المصادر العربية التي تعرضت للبحر بشكل أو بآخر، وقد احتل المسعودي المكانة المهمة ضمن هذا الاستعراض المصادري. لقد تجول المؤلف بين مغرب الأرض ومشرقها مبرزاً دور كل سلالة في مجال النشاطات البحرية، حيث أظهر دور الأمويين بالأندلس كما ركّز على دور أهل المغرب، وكذلك المشرق في تطوير الصناعات البحرية.
ولئن بدا المتوسط مجالاً للعسكر وأهل السياسة، فهو أيضاً مجال الفقهاء وأصحاب النوازل. لم يغفل المؤلف كذلك دور أهل الرباطات، خاصة في الغرب الإسلامي في الحرص على بلاد المسلمين والاحتراس من الأعداء الذين قد يهاجمون سواحل المسلمين على حين غرّة. أما الجزء الثاني، فقد خصصه المؤلف لاستراتيجيات الخلفاء المتوسطية مُبرزاً الدور الأساسي لمعاوية بن أبي سفيان في بناء الإمبراطورية البحرية. وقد انطلق التفكير في ذلك منذ زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي رفض السماح بولوج عالم البحر بناء على نصيحة عمرو بن العاص، وقد ترتب عن هذا الموقف إلصاق صورة الخوف من البحر بالعرب. إلا أننا لا نلاحظ مسألة الخوف هذه عندما يقول لنا ابن خلدون “إن المسلمين في عهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه”. لقد استعرض المؤلف مختلف الفترات المزدهرة للبحرية العربية الإسلامية في شرق المتوسط وفي غربه، في ظل الدولة الأموية ومن بعدها الدولة العباسية من ناحية، والفاطميين والأندلسيين من ناحية أخرى.
يعتبر كتاب “بحر الخلفاء” من الأعمال المميّزة التي أنتجتها المدرسة التاريخية الفرنسية، وهو توليف جادّ لتطور النشاط البحري في المتوسط في ظل الدول الإسلامية المتعاقبة على ذلك الفضاء. إنه شهادة من مؤرخ غربي على أن الإسلام تمكّن لفترات طويلة في العصور الوسطى من بسط رايته على الموانىء والجزر والمدن المتوسطية، وأنه بالرغم من انحسار المدّ الإسلامي عن بعض أجزائه في بعض تلك المدة الطويلة، سرعان ما كانت تعود حركة الفتوحات والجهاد مرة أخرى على أيدي المسلمين العرب أو البربر أو أهل الأندلس، لتُعيد تلك الأجزاء ثانيةً تحت حكم الإسلام وسلطانه، حتى أتمَّ المسلمون فتح غربيِّ البحر المتوسط فضلاً عن شرقيِّه.