الغربة الوجوديّة والالتزام الأدبيّ عند د. محمود زيادة

دراسة نقديّة في “الطريق إلى تلّ الورد”

        

هو الإنسان حيرة الحير يأتي من حيث لا يدري ويمضي إلى حيث لا يدري، يأتي وحيداً ويمضي وحيداً، وفي رحلته هذه يبحث عن عبرة ورفيق، عن معنى لحياته، وعن بهجة يقتنصها في غفلةً من الدهر. وإذا كانت الصداقة من المستحيلات السبع، والصديق وقت الضيق، فمن الطبيعيّ أن يعتلي الحسّاس من الأدباء مركب الوحدة والتفرّد ويرقب الكون بحذرٍ شديدٍ. ضمن هذا الإطار كانت طريق الكاتب د محمود زيادة في مجموعته القصصيّة ” الطريق إلى تلّ الورد” لإخراج هواجسه ورسم خطوط واقع متنوّع تبعاً للمكان وهو العنصر الأساسيّ والماديّ الملموس الذي يعوّل عليه في رحلة الكاتب الاغترابيّة لذلك لا بدّ من وقفات عند محطات منها:

لبنان: كان للبنان حصّة الأسد في الأمكنة، إذ عرّج كاتبنا على مدينة طرابلس وبيروت والقرى اللبنانيّة، في زمن الحرب، متقمصاً أسماء تنوّعت مع توالي القصص والمواقف وهي ابنة الواقع اللبنانيّ، بدءاً من طرابلس التي يعتبرها الكاتب مدينة ريفيّة ملفوحة بالحرّ والقرّ، ويجدها مستسلمة لعادات أهلها وتقاليدهم، يميّزها نهر ينساب بين المنازل، وكأنّه يريد دخولها عنوةً، لتأمين سبل الحياة والمعاش لأهلها. وتقف قلعة صليبيّة-أو كما يقال عنها مع العلم أنها بنيت قبل الحملات الصليبيّة- لتتصدّى لنوائب الزمان وتحمي هذه المدينة وتكون العين الساهرة والراصدة والحامية لها (ص ١٧٢) وهي بالطبع مرتع طفولة الكاتب ومراهقته فأسهب في سرد قصص البحر عنها، والحرب وتداعياتها فيها، مقارناً بين هذه المدينة الريفيّة وبيروت العاصمة في “رحيل الوحش الجميل” إذ يرحل عنها أبناؤها بحثاً عن أحلامهم خارج حدود المكان والزمان، متوقّفاً عند شخصيّات أثرت فيه وبخاصّة حين رافقنا البحّار في باب الصخرة، حتّى إنّه جعلنا نصعد المركب الذي قادته مع صاحبه الصيّاد إلى قبرص فاستقرّ فيها إلى الأبد، على الرغم من عودة الصياد ومطالبته عبثاً الأجهزة اللبنانية بمساعدته على استعادة مركبه وهو مورد عيشه.

كما أطلّت علينا هالة الأستاذ في أكثر من أقصوصة، والتركيز كان على الغبن المادّيّ في بلد يحتفل بعيد المعلّم إلّا أنّه لا يزرع في قلوب الناشئة احتراماً كافياً لمهمّته الإنسانيّة التي تصعب مع مرور الأيّام واستحداث قوانين ترعى حقوق الطالب الذي يبدو على حقٍّ دائماً، ولا تهتمّ لحقوق الأستاذ الذي تقهقر مركزه ومع الأيّام مع ارتفاع في تقدير فلذات الأكباد، وقد شغل الأستاذ حيّزا ضمن هذه الأقاصيص ومنها” الطريق إلى تلّ الورد” يتقمّص شخصيّة الأستاذ اللاهث نحو القيام بمهامه وإن كانت الظروف قاسية، على أكمل وجه في مجتمع لا يقيم وزناً لهذه المثاليّة بل إنّه قد يسخر منها، في بلدٍ يدّعي أنّه يحترم المعلّم ويخصّص له يوماً للاحتفال بعيده، ولكنّه بالمقابل يمارس تجاهه جميع أنواع الضغوط لتهميش دوره الرياديّ، مما يصعّب على الأستاذ مهامه والحفاظ على مركزه الرياديّ فيزهد في توجيه الطلاب الذين يتراجعون عن العلم وطلبه بمقدار ما يضمر مركز المعلّم المتراجع مع مرور الزمن.

في أقاصيصه تطلّ علينا أيضاً القرى اللبنانيّة مع شخصيّة البطل الرومنسيّة الميّالة للطبيعة، وللصمت والتأمّل، وهي شخصيّة تفضّل الانزواء وكأنّ الآخرين هم مصدر شّكٍ وخطر، وهي أيضاً حذرة حتّى التوجّس ترقب الطبيعة وتستمتع بعطرها وأصواتها وتجد في حضنها الأمان وفي كرمها الدفء غير راغبة في الكلام. ولم تغب الطبيعة عن معظم القصص، ببحرها وأمواجها وغاباتها بجبالها وسهولها، بأفاعيها، بعواصفها وأنوائها بهدوئها وسكينتها، فهي في أحسن أحوالها الحضن الدافئ الوحيد الذي ركن إليه، على الرغم من شرّه وخطورته، يقربها، وكأنّه جنين في جنائنها، ينصت إليها بكلّ جوارحه، ويترقّب بهرجة اضوائها.

وها هو يعترف” البحر رفيقي”(ص٩)، فيرقبه في سحره، به “تذوب الأحلام وتولد كلّ لحظة”(ص٢٦) ويتألّم للتحوّلات المادّيّة المستحدثة المتجلّية في أبنية الباطون(ص٣٢) وهو في حبّه للطبيعة يتأمّل تقلّبات الفصول، “فالصيف الجميل ينشر ذراعيه على الشاطئ الأزرق”(ص٢٦) ثمّ يرقب الربيع وهو يتهادى على ربيع عمره(ص٢٣) ففيه سرّ الشباب لما يعطيه من غبطة. يقول: “كان البحر هادئاً مثل النعاس”(١٤٩) ولكنّ هذا النعاس لم يمنعه من أن يضع شارات” احذر” عند كلّ منعطف، ويتحفّظ عن إظهار أيّ إشارة انفعاليّة، وها هو د. محمود زيادة يقول: “ساورتني وساوس كأنّها الأفاعي تلسعني”(ص١٢١) لذلك أرخى أحزانه على وسادة التعب(ص١٤٩)، وكأنّ هناك “قوى غريبة أتت لتنتقم”، “فجروح الزمان ليس لها أمان”(ص٣٥). فلا غرابة أن يصل إلى حدود التوحّد، ويؤثر أن يبقى غامضاً فيتكوّر خوفاً من صقيع المحيط، ويخفي الداخل بشراسة.

فرنسا: منتقلاً إلى فرنسا يتوقف الدكتور محمود زيادة عند طباع الفرنسيّين وحذرهم، (ص١٩٨)، وهم قومٌ عايشوا الحرب العالميّة الثانية بويلاتها وهمجيّتها، وذاقوا مرارة الاحتلال النازي قبل أن يأتي الجنرال ديغول ويزيله عنهم، ما أصّل في طبعهم الحذر والريبة، فتوجّسوا من الآخرين شرّاً، وظهر طبعهم الحذر عند الاحتكاك بأيّ قادمٍ جديد.

كما صوّر وضع اللبناني المهاجر طلباً للعلم ثمّ لكسب العيش، مسجّلاً آلام المغترب وبعض ما يعتريه من تقلّبات وما يعترضه من طباع غريبة في مجتمع غريب، يشوبه موجات التجسّس لصالح إسرائيل، التي تتعقّب كما يبدو المتعلّمين من الطلّاب العرب، وذلك لمآرب عدائيّة، وتخطيطاً لمؤامرات تحيكها في الزمن القريب والبعيد، تحت لواء: “اعرف عدوّك”. وكأن هؤلاء الشباب لا يكفيهم ما يعانونه من صعوبة التأقلم مع لغة جديدة وعادات جديدة، وأناس جدد ومجتمع جديد، وما يتكبّدونه جرّاء الجلوس في غرف هي أشبه بالصناديق، ليقضوا أحلى أيّام أعمارهم في نهل العلم من معين جاف ومحيط قاس، بل زادهم المحيط التجسّسي رغبةً في الانغلاق والتستّر تجنّباً لأمور قد تسيء إلى وجودهم، أو تدهم بلادهم على حين غرّة.

وفي حديثه عن دراسته في فرنسا، اقترب د. زيادة في أقاصيصه من السيرة الذاتية، وعمد إلى تصوير واقع الطالب اللبنانيّ والأجنبيّ تصويراً دقيقاً، ورصد وسائل الترفيه والتنقّل والجلسات بشيء من الدقّة المغلّفة بالحذر، فيزداد شراسة ميله للوحدة، لتبدو ضرورة ملحّة في جوّ جاسوسيّة خطر، كما صوّر العربيّ عندما يغادر مجتمعه، فيغدو وكأنّه في يد شيطان يربض في رأسه، يخاف من ظلّه ويتهالك على الملّذات ويتحوّل إلى وحشيّة الفوضى، ويأنس بالغريب ولو كان شيطاناً متخفياً، كما في أقصوصة ” الشياطين في مدينة بورج”(ص ٦٢)

الجزائر: في “الهوّاري” وقفة مع شيخ الطريق “أبي عمامة” الذي لمّ شمل شباب “السردينيا” وقد هاموا على وجههم بعد أن ضاقت بهم سبل الحياة، وقدّم لهم المأوى والمال، فأصبحوا بين ليلة وضحاها من أصحاب الطرق الصوفيّة، يأتمرون بأمره، ليكونوا جنوداً يحاربون أعداء الله. فهل هذه الطرق التي سار عليها شباب الإمارة الإسلامية ليكونوا قنبلة موقوتة يشعل فتيلها كلّ من أراد العبث بهذه الأمّة المترامية ذات الماضي العريق. ولعلّ الكاتب هنا أستنجد بذاكرته في سرد أقاصيص تعلّل مسيرته الاغترابيّة وتؤرّخ لنشأة التيّارات الأصوليّة بالظاهر والمشبوهة الانتماء، هدفها تطويع الناشئة والتغرير بهم لجذبهم والانضواء تحت لوائها خلف ستار الدين.

وأخيرا لا بدّ من التوقّف عند شخصيّة مجهولة الانتماء، وهي المرأة، بإطلالة خجولة في” الكوابيس الزوجيّة”(ص ١٠٩). والغريب أنّها كانت نموذجاً مشابهاً للكاتب وأبطاله في صمته وإيماءاته، وشبحاً غريباً، لم نعتد تحرّكاته في القصّة العربيّة. لقد كان الكاتب ساحراً في تصوير كيف استطاعت الأنثى أن تجعل منه طائراً غرّيداً يصدح في عالم العشق، فتُدخل البهجة إلى قلبه ليرتقي في درجات الغزل وفنّه. يقول: “فرحي وفرحها مصابيح الليل ومساحات الربيع ولؤلؤ المحيط، وحبيبتي درّة. وأنا لا أصوغ التأويل بل أشعر بذلك كلّه”(ص١١٠) هنا مزج فرحه بفرحها وأناه بها، فطلع بغزل غريب، لم نعهده في الأدب العربيّ الذي تخصّص إما بوصف مشاعر الحبيب أو بجمالات الحبيبة. يقول: “بدت عيناك للنجوم منارات” (ص١٠٩) هنا رفع جمالها ليكون منارة كونيّة، ويقول أيضاً:” إن كنتِ ظلّاً سأتفيّأ به أو كنت لحداً سأقيم لك مزاراً”(ص١٠٩) فهي الفيء الآمن إذا هدأ، وهي المزار إذا سار وتحرّك. معها تبدو روحه كصفحة البحر، الذي “يتلألأ كأنّه ينام في الغبطة”(ص ١١٠).  فهنيئاً له النوم والإقامة والحركة! ولكنْ مثلما للفرح حدود كذلك فالحب كائن يولد ويموت ويقام له المزارات، ولا يبقى إلا قصاصة عطر قديم ينام على أطلاله.

يقول:” أدخل مكاناً نامت فيه العطور القديمة واستراحت وأبت أن تفارقه “(١٠٩) معها اختَزلَت اللحظاتُ كلَّ الطمأنينة والراحة، فتحقّقت الأمنيات، وعاش أجمل لحظات الحبّ، يقول: “تمنّيت لو أحلم فأراك يا حبيبتي” (ص٣٧). وإنّي لأستغرب هذه الكوابيس الزوجيّة التي أتت بصور جميلة: فكيف إذا لم تكن كوابيس؟؟؟ وها هو يودّعها إلى غير رجعة يقول “أغلقت شبابيكي على ذكرياتي، أحيطها بعناية خاصّة” (ص ١٠٣و ١٠٤) ثمّ عاد ليغرق في وحدته بعد أن استوعب سراًّ خبّأته بعناية، وهو أنّها عاقر، ثمّ “طاف عليه النسيان من جديد”(ص١٨٧) ليوصد أبواب الحبّ إلى الأبد ويمضي إلى عوالم ملأى بالغرابة” (ص١٦٨) وتكاد هذه الزوجة تتربّع على المقعد الوحيد الذي سمح لها القاصّ بأن تجلس عليه في طريق الورد، سوى من إطلالات خجولة شبحيّة وكأنّه أراد أن يخبّئ جيداً قصصه معهنّ، فبدت في طيف الأم يقول: “آه لعطر أمّي وعطر عطرها الذكي”( ص٩) وهناك طيف الكاذبة والمغرورة في أقاصيص أخرى مع إثبات قاطع بأنّ المرأة وهي الملجأ الآمن للرجل، لن تكون كتاباً تسهل قراءته، ولن تكون له مؤنساً ورفيقاً، بل على العكس فقد تزيد وضعه سوءاً  لذلك عليه الاحتماء من نار غموضها وغرورها وغطرستها وكيدها ونكدها.

مع هذه الأقاصيص السبع عشرة المتنقّلة في القارات الثلاث: آسيا وأوروبا وإفريقيا، وبشخصيّاتها الساذجة البسيطة، والمؤمنة بالأساطير والشياطين الذاهلة عن حقائق أنّها مسيّرة لا مخيّرة، مسيّرة من قوى خفيّة خارجيّة، يبدو الكاتب وكأنّه المسطّر لهذه المخاطر: الخارجيّة والذاتيّة على السواء، الذاتيّة المتمثّلة بالتشبّث بمعتقدات بالية تكبّل الفرد وتسهم في إفساد المجتمع ، فحاول أن يسقط فقاعات الحياة الوهميّة مع كلّ أقصوصة بشخصيّاتها المتنوْعة، ليثبت للقارئ أنّ أسباب الحذر قائمة، سواء أتمتّع الوطن بجمال طبيعيّ، أم أصبح ساحة صراع عنيف بين الأبناء الذين انقسموا أحزاباً وتقاتلوا، وعانوا حرماناً من مقوّمات الحياة السليمة: من انقطاع كهربائيّ وسوء تنظيم للمرور وخطوط مواصلات غير سالكة، وتلوّثٍ بيئيّ. ولا غرابة أن يرتمي بالنهاية في أحضان الغربة الكربة هرباً من كرب الوطن. ولا بدّ هنا من التوقّف عند فضل الطبيعة في كلّ أقصوصة ليذكّرنا الكاتب بمقدار حبّه لها وثقته بأمانها ودفء حضنها، وكأنّها الجنّة وهو الجنين في أحشائها يتكوّر عن العالم بصمتٍ وهدوء، فيصغي إلى تنوّع ألوانها الساحر وبهرجة أضوائها الخاطفة للأنفاس، ليصبح وكأنّه الكاتب المتوحّد في بعده عن الآخرين وحذره منهم.

إلّا أنّ هذه العزلة الاختياريّة لم تمنع كاتبنا من أن يكون ملتزماً فيبرز قضايا تطال الفرد العربيّ، أينما حلّ، سواءٌ في الداخل أم الخارج، ليطلع علينا بنتيجة: أنّ العالم ليس بهذه السذاجة الظاهرة، وأنّ قوىً خفيّة تدير الدفّة وتدفع بنا يمنةً ويسرةً وفق أهوائها، تقودها رغبةٌ في الاحتواء وجشعٌ  لا يردّ ونهمٌ لا يُشبع لثروات المنطقة، وهكذا يبقى الشرق ساحة لصراعات تحدّدها يدٌ غريبة، وسوقاً لتصريف السلاح المنتهي الصلاحيّة والسلع الفاسدة، ويبقى سيف الفساد مشهراً في وجه شرقيّ خانعٍ، وهاربٍ من حلّ مشاكله وواضعٍ زمامه بأيدٍ غريبةٍ لا تفتأ تودي به نحو التهلكة.

وإذا كنّا بحاجةٍ إلى كتابةٍ بلا تهويمات لا طائل منها، فقد أتى د. محمود زيادة بأقاصيصه الهادئة ظاهريّاً التي شرخ عنها وعاؤه الفكريّ وكأنّها ذكريات مدوّنة، ليقول بصوتٍ هامس: إحذروا أنفسكم أيّها الشرقيّون واحذروا الغربَ الحصانَ المشدودَ نحو مصالحه فقط، على أمل أن يبقى زمام السرج عالياً فوق الشبهات، ليقودنا المستقبل نحو ما نتمنّى ونشتهي.

 

اترك رد