مغالطات تاريخية تحت المجهر
د. عبد الرؤوف سنّو
(مؤرخ وباحث- لبنان)
تتناول فصول كتابِ “من متصرّفية جبل لبنان إلى دولة لبنان الكبير 1914 – 1920” للدكتور أنطوان الحكيّم عهد المتصرفية في أيامه الأخيرة، وهذا عن قصد، لأنَّ المؤلّفَ شاءَ أنْ يستخدمه كمدخل للسياسة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، بإلغاء بروتوكول الجبل واحتلاله. ثم يعالج البروفسور الحكيّم أوضاع جبل لبنان خلال الحرب والحصارين البرّي والبحري، ومخطّطاتِ دولتي “الوفاق الودي”، بريطانيا وفرنسا، تجاه المنطقة، والمجاعة التي ضربت الجبل بشكلٍ مباشر. وكذلك أوضاع سورية وجبل لبنان بعد انسحاب الجيش العثماني من لبنان في تشرين الأول 1918. وبشكل لافت، يتناول الحكيّم في الفصل الخامس، مؤتمر الصلح في باريس تحت عنوان: “صراع الكبار ومساعي الصغار”، أي أنّ الحلول والتسويات هي بين الكبار، فيما يدفع الصغار الثمن. أمّا الفصلان السادس والسابع، الأخيران، فيخصصهما لاتفاق كليمنصو – فيصل، وتعطّل تنفيذه، ما أدّى إلى معركة ميسلون، وانتهاء “الحلم العربي”.
من وحي هذه الموضوعات، سوف أطلّ على بعض القضايا المهمّة التي تناولها البروفسور الحكيّم وأعلّقُ عليها:
أولا: يأتي كتابه في الوقت المناسب، وربما كردٍ على ما أثاره البعض مؤخرًا برفض الاحتفالية المئوية المقترحة للبنان الكبير، باعتباره مخلوقًا استعماريًا. فمن أين نبدأ إذًا بتاريخ لبنان؟ لا بد أيها الحضور الكريم من بداية ما: إذا قلنا أنَّ جذور لبنان فينيقية، تقوم القيامة، بأنَّ العروبة هي هوية لبنان منذ الأزل. وإذا ذكرنا أنَّ المرحلة ما قبل الإسلام هي جزءٌ من ثقافتنا، ترتفع الأصوات المندّدة بأنَّها مرحلة جاهلية، وإنَّ لا وجود لحضارة قبل الإسلام. وإذا قلنا أنَّ فخر الدين هو مؤسّس لبنانَ الحديث، ينبرون إلى الردّ بأنَّ لبنان لم يكن موجودًا في القرن السابع عشر، وإنَّ الأمير، بفكره الاقطاعي، لم يكن يعي مفهوم الدولة. وعندما يقال أنّ “لبنان الكبير” أصبح وطنًا للمسيحيين والمسلمين العام 1920، وإنْ تأخر اندماج المسلمين فيه قليلاً، ترتفع الأصوات برفض ذلك، وبأنَّ لبنان الكبير مخلوق استعماري وُجد من أجل المسيحيين.
لقد نالت، أيها الحضور الكريم، الدول العربية استقلالها عن الدولة العثمانية بمساعدة دول الاستعمار، بريطانيا وفرنسا. وفي الخليج العربي، نالت المشيخات استقلالها من قبل دولة الاستعمار بريطانيا، مطلع السبعينيات من القرن الماضي، لكنها تحتفلُ سنويًا بعيدها الوطني، من دون أنْ يشكلَ ذلك نعرةً أو حساسية أو انتقاصًا من كرامتها. فلماذا مسموح للإخوة العرب الخليجيين الاحتفال بتأسيس كياناتهم على يد بريطانيا، بيمنا ممنوع ذلك على اللبنانيين بمئوية لبنانهم الكبير؟
ثانيًا: تناول الباحث أنطوان الحكيّم في الفصل الثاني موضوع الحصارين البرّي والبحري على لبنان، ويرى إلى أنّهما كانا سببًا من أسبابِ المجاعة، إلى جانب أسباب أخرى. وهذا صحيح تمامًا. فيعدّد الأسباب، ومنها سياسة العثمانيين بتجويع الجبل (أقوال جمال باشا وأنور باشا)، ومصادرة الحنطة والحبوب للجيش العثماني، ودور الموظفين العثمانيين المرتشين، واحتكار التجار المحليين، وشراء الألمان المواد الغذائية. وما لفتني في هذا الفصل، انتقاد البروفسور الحكيّم أحد الأكاديميين حول تضخيم عدد ضحايا المجاعة في منطقته الإسلامية، على حساب منطقة أخرى مسيحية. بالله عليكم… عدم الدخول في لعبة الأرقام، فعلينا الاعتراف بأنَّ كارثة قد حلت بسكّان الجبل، سواء مات رُبعهم أو ثُلثهم أو خُمسهم، أو حتى شخص واحدٍ منهم، فهذا يدعو إلى الأسف، لأنَّ حياة الإنسان وكرامته، هما أثمن ما قدّمه الله للبشرية. في سورة المائدة في القرآن الكريم، هنا آية جاء فيها: “…من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس”.
ثالثاً: يقول البروفسور أنطوان الحكيّم، إنّه عندما بدا واضحًا أنَّ الدولة العثمانية خسرت الحرب، وتعالت الصيحات في الجبل مطالبة بالانفصال عن السلطنة، وقيامِ لبنان الكبير، بعد إلحاق بيروت والبقاع به، طلبِ البطريرك الحويك من الناس والمحيطين به ممارسةَ أقصى درجات الهدوء، مفضلًا عدم القيام بأية خطوة قبل إنجلاء الأمور. فهل هذا انقلاب؟ وقد تتبّع الحكيّم فاعليّات وفعّاليّات الوفود الثلاثة التى أرسلها مجلس الإدارة إلى مؤتمر الصلح. لكن البعض نظر إلى مساعي الاستقلال، بمثابة خيانة للدولة العثمانية. أسأل: ألا يحقّ للجبل أنْ يسعى إلى الاستقلال التام، حين يرى أنْ الدولة التي حكمته زهاء 400 سنة على وشك الاحتضار؟ خلال العامين 1877 و1878، تحرّك الأعيان المسلمون في لبنان (سُنّة وشيعة) وسورية، احترازيًّا، لتشكيل دولة عربية مستقلة، بعدما انهارت السلطنة عسكريًا أمام روسيا. فلماذا لا يحقّ للمسيحيين أنْ يفعلوا الشيء ذاته، عندما أوشكت الدولة العثمانية على السقوط العام 1918؟ حتى أنَّ الأمير عبد القادر الجزائري قَبِلَ، في حينه، عرضًا من الأعيان المسلمين في بلاد الشام، ومن الزعيم الإهدني يوسف كرم، لتنصيبه ملكًا على سورية، مع استقلال ذاتي لجبل لبنان، لكنه اشترط أنْ تلفظ السلطنة أنفاسها أولًا، كي لا يٌقال إنّه انقلب على دولة الخلافة. وهو موقف شبيه بموقف البطريرك الحويك الذي رأى عدم الانقلاب على السلطنة، ووجوب الانتظار لما ستسفر عنه الحرب الكونية، مع فارق الزمن والظروف بينهما.
وحول خيار المسيحيين العام 1918 لصالح لبنان الكبير، يقول البروفسور أنطوان الحكيّم في صفحة 252، بكلِّ حكمة وموضوعية وانفتاح: “لم يأخذ المسيحيون هذا الخيار (الاستقلال)، لا كرهًا بالمسلمين، ولا تشفيًا بسقوط الدولة العثمانية، ولا انتقامًا لما عانوه عبر تاريخهم، ولا عداءً للعروبة، بل ضمانًا لمستقبلهم، ودرءًا لأي خطر قد يهدّد وجودهم في المستقبل”. وهذا خيار علينا أنْ نحترمَه، ونتفهمه جيّدًا، أكاديميًا وشخصيًا. فلم تكن الدولة العثمانية، الدولة العادلة التي تعتمد الديمقراطية وحقوق الإنسان وتعمل لصالح شعوبها كي يُؤسف على سقوطها.
رابعًا: تحدّث البروفسور الحكيّم عن تزاحم ثلاثة مشاريع قومية عربية، ذات غايات شخصية، للسيطرة على سورية ولبنان خلال العام 1918. وأسأل: لماذا يحقّ لحركة القومية العربية وللشريف حسين، أنْ يستعينا ببريطانيا لتأسيس دولة عربية مستقلة في سورية، ويوافقا على مناطق نفوذها في الولايات العربية التابعة للسلطنة العثمانية، ولا يحقّ للمسيحيين أنْ يحصلوا على دعم فرنسا في سبيل قيام “دولتهم” المستقلة؟ ولماذا تشكّل استعانة الموارنة بفرنسا خيانة للعروبة، وقد ظّلوا “أهل ذمة” ينتظرون تلك المناسبة، منذ أنْ فتح المسلمون بلادهم في القرن السابع الميلادي، ولا يُعتبر تآمر العرب مع بريطانيا على الدولة العثمانية خيانة مماثلة؟ وهل تختلف بريطانيا كدولة استعمارية التي استعان بها الشريف حسين والحركة القومية العربية عن فرنسا الاستعمارية؟ وعندما طلب مسلمون بانتداب أميركي خلال جولة “لجنة كينغ – كرين” على بلاد الشام، لم يُنظر إليهم كعملاء للأميركيين، بينما حصل العكس بالنسبة إلى المسيحيين طالبي الانتدابَ الفرنسي؟
خامسًا: في الاستنتاج العام (الخاتمة) ص 250، تحدّث البروفسور الحكيّم بحسرة عن أوضاع المسيحيين في الدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر، وكيف أنّهم تعرّضوا لاعتداءات المسلمين، نتيحة اتهامهم بالتآمر وتحميلهم بالتالي مسؤولية هزائم السلطنة على أيدي الدول الأوروبية. وما زاد من نقمة المسلمين على مسيحيي الداخل، هو “الامتيازات الأجنبية” التي منحتها السلطنة للدول الأوروبية منذ القرن السادس عشر، وتحوّلت إلى أداة تقبض على عنقها خلال مرحلة ضعفها الطويل، وتسبّبت باختراق السوق العثمانية وضرب الصناعة “الوطنية”. وقد اتهم المسلمون مسيحيي السلطنة بأنّهم أدوات التغلغل الغربي في بلادهم، ويحصلون على الحماية الأجنبية للسيطرة على الاقتصاد العثماني، وبالتالي تحقيق قفزات عليهم، وهذا صحيح. لكن دلّوني من فضلكم على شخص أو كيان يستطيع أن يحقّق سبقًا اقتصاديًا أو ربحًا على حساب الآخر، ويمتنع عن ذلك؟ لو تمكن المسلمون من الإمساك باقتصاد الدولة العثمانية، لما تأخّروا في ذلك. لكن الظروف الموضوعية، وأهمها التغلغل الأوروبي في السلطنة العثمانية وما رافق ذلك من “امتيازات أجنبية” إلخ..، ساعدت المسيحيين على تأدية هذا الدور.
وما قاله البروفسور الحكيّم صحيح تمامًا. فمرسوما كلخانة وهيمايون 1839 و1856، أثارا حنق المسلمين، لأنّه حقّق المساواة بينهم وبين المسيحيين بهدف خلق “مواطنة” جديدة (العثمنة)، في حين أنّهم، أي المسلمين، حسب اعتقادهم، الأمّة صاحبة السيادة في “دار الإسلام”. ورأى المسملون أنَّ “التنظيمات العثمانية” هي نتيجة التحالف بين “الإمبرياليين” الأوروبيين والأقلية المسيحية التي تسيطر على التجارة والصناعة في البلاد. وشهدت مدنه الإسلامية، بين الأعوام 1839 و1860، ردود فعل على “التنظيمات” واضطرابات طائفية خطيرة في شرق الأناضول، ومدن بلاد الشام (حلب ونابلس ودمشق)، توّجت بالحرب الطائفية الاجتماعية في جبل لبنان العام 1860.
وفي كلِّ الأحوال، رفض مسيحيو السلطنة “العثمنة”، لأنّها تنزع عنهم الحماية الأجنبية، ولا تحقّق طموحاتهم. وتزايدت الحملة الإسلامية عليهم بعد صدور الدستور العثماني العام 1876؛ حيث رفض المسلمون أية مساواة بينهم وبين المسيحيين، معتبرين إياه “تغريبي” وإدجاة أوروبية للقضاء على إسلامية السلطنة العثمانية. وعندما عطّل السلطان الجديد عبد الحميد الثاني الدستور، تزايدت شعبيته، تزامنًا مع اعتماده سياسة “الجامعة الإسلامية”، وهي التضامن بين مسلمي العالم ضدَّ الغرب المسيحي، وأدواته في الداخل، المسيحيين. وقد انعكست “الجامعة الإسلامية” في الداخل، تعصبًا ضدَّ كلّ ما هو مسيحي وغربي، حتى أنَّ تظاهرات خرجت في الآستانة ومدن بلاد الشام خلال الحرب الروسية – العثمانية العامين 1877 و1878، تطالب بالموت للمسيحيين الكفرة، عُملاء الغرب، وبأنهم “الطابور الخامس” المتآمر في الداخل. وبلغت ذروة التحريض ضدَّ المسيحيين، بضرب القومية الكردية بالقومية الأرمنية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وبالمذابح الأرمنية، وصولًا إلى مطلع الحرب العالمية الأولى.
سادسًا. ذكر البروفسور الحكيّم في الصفحة 256، بأنّ مشكلة الطائفية في لبنان تكمن في “الطائفية المجتمعيّة” التي أنتجت الطائفية السياسية. وهذا صحيح تمامًا ولأ أشك في ذلك. لقد خصّصت في كتابي “لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف” فصلًا كبيرًا لدراسة “الطائفية المجتمعيّة”، لأثبت أنّها لم تكن وبالًا على التعايش الطوائفي بين الموارنة والدروز. فكانت الجماعات الدينية، منذ حكم المعنيين والشهابيين، متجاورة أو متداخلة، ولكلّ واحدةٍ منها عقيدتها وثقافتها وخصوصيتها وتجربتها التاريخية، وظلت “منفتحة” على بعضها بعضًا، في مجال العلاقات الوظيفية والبروتوكولية والتحالفات السياسية والعسكرية، من دون أنْ يؤدّي ذلك إلى حالة انصهارٍ مجتمعي أو إلى مشاحنات طائفية خطيرة. فكان الانقسام سياسيًا وحزبيًا غير طائفي، على أساس الانقسام القيسي واليمني. لكن منذ عهدي القائمقاميتين والمتصرفية بدأت “الطائفية السياسية” تدخل إلى النظام السياسي، وأصبحت مع “الطائفية المجتمعيّة” توأمين سياميين يتغذيين من بعضهما بعضًا، وهذا ما أدخل البلاد في ما بعد في مسألة الهوية و”التعدّدية الثقافية”، وتطلّع طوائفه نحو الخارج.
من هنا، أقول إنّ الأحداث التي مرّ لبنان فيها، أثبتت أنّه لا يمكن التخلص من “الطائفية المجتمعيّة”؛ لكن يمكن الإبقاء عليها أو التخفيف من حدّتها، على أساس القبول بـ “التعدّدية الثقافية”، عبر تعلّم “ثقافة التعدّد” أولًا، وهي الاعتراف بالآخر وبحقوقه وثقافته وتاريخه، والتعامل معه بعدل وديمقراطية، فيما يستظلّ الجميع تحت نظام سياسي واحد.
فهل لدينا تلك الثقافة التي نتربّى عليها في البيت والمدرسة وفي سوق العمل والحياة العامّة، وتجعلنا وأجيالنا نعي أنَّ لبنان يتكوّن، واقعًا، من إثنيات وثقافات متعدّدة، لكلِّ واحدة منها خصوصيتها المتميّزة وجذورها الماضوية، رغم أنَّها تعيش كلّها تحتَ الفضاء ذاته، جغرافيًّا ومجتمعيًّا وسياسيًّا؟ وهل لدينا “ثقافة التعدّد” التي تقوم على نبذ الدمج القسري بين الثقافات في ثقافة واحدة، تحتَ مسمّيات الوحدة والقومية والأنصهار؟ وهل لدينا ثقافة القبولِ بـ “الآخر”، كما هو، إذا كان أقليّة دينية أو عرقية أو إثنية، والاعتراف به، واعتباره مكوّنًا من مكوّنات الوطن، وعدم تخويفه وتخوينه والتسلّط عليه وحرمانه من حقوقه الطبيعية، والتعاملِ معه بعدالة وديمقراطية وانفتاح؟
أيها الأحبةُ، لا شيء يخدش العروبة بشيء، إذا كانت الثقافة العربية هي وجه من أوجه هوية لبنان، وليست كلَّها؟ عندما تغنّى الرعيل المسيحي الأول بالعروبة في عصر النهضة، لم يكن يتحدّث عن القومية العربية بمعناها السياسي، أو عن العروبة النفعية والتدميرية التي اعتمدها النظام السوري لتسويغ احتلاله لبنان لثلاثة عقود، بل عن العروبة بمفهومها الثقافي. إذا قبلنا بالعروبة الثقافية، وبالينابيع العديدة التي أنتجت الثقافة اللبنانية، عندها نكون قد أرسينا عقدّا اجتماعيًّا متينًا بين أبناء الوطن الواحد.
****
(*) ألقيت في الندوة حول كتاب “من متصرّفية جبل لبنان إلى دولة لبنان الكبير 1914 – 1920″، للدكتور أنطوان الحكيّم ضمن المهرجان اللبناني للكتاب- أنطلياس 8 مارس 2018.