“أَقدار”… في المِيزان!

    

(حَولَ رِوايَتِي “أَقدار”، أُلقِيَت خِلالَ نَدوَةٍ دَعا إِلَيها منتدى “لقاء”، في مَركَزِ نِقابَةِ المُعَلِّمِينَ في جُونيَة)

أشكُرُ، سَلَفًا، هذا المُنتَدَى الرَّصِينَ المُثمِرَ، مُنَظِّمِينَ وحُضُورًا، وأَخُصُّ بِالشُّكرِ الصَّدِيقَ الأَدِيبَ عِماد فغالِي الَّذي تُبِشِّرُ بَواكِيرُهُ الأَدَبِيَّةُ بِمَواسِمَ مِن العَطاءِ سَيَكُونُ لها وَزنُها في الحَياةِ الثَّقافِيَّة. كَما أَشكُرُ، مِن صَمِيمِ القَلبِ، إِعلامِيَّتَنا الرَّاقِيَةَ، وأَدِيبَتَنا المُحَبَّبَةَ، الصَّدِيقَةَ الطَّيِّبَةَ، مِيشلِين حَبِيب، الَّتي يَنضَحُ قَلَمُها جَمالًا فِيهِ مِن عُذُوبَةِ رُوحِها، ما يَجعَلُهُ قِبْلَةَ الذَّوَّاقَةِ الرِّهاف!

روايتي”أَقدار”، الَّتي نَحنُ بِصَدَدِها الآنَ، تَقُومُ حَبكَتُها على عَلاقَةٍ وَطِيدَةٍ مِن الصَّداقَةِ الخالِصَةِ الَّتي جَمَعَت شابَّينِ، مُنذُ طُفُولَتِهِما الباكِرَةِ، حَتَّى رَحِيلِ كُلٍّ مِنهُما عن هذه الدَّنيا. واحِدٌ قَضَى حَياتَهُ في لُبنانَ، والآخَرُ أَجبَرَتهُ ظُرُوفٌ جائِرَةٌ على الهُجرَةِ إِلى البَرازِيلِ، حَيثُ بَقِيَ حَتَّى وفاتِه. فَكانَت الأَحداثُ تُسرَدُ على لِسانَيهِما، عَبرَ رَسائِلَ مُتَبادَلَةٍ تَحكِي عَمَّا يَجرِي هُنا وما يَجرِي هُناك.

كَما إِنَّها تَطرُقُ أَبوابَ الحُبِّ الَّذي يُواجِهُ التَّقالِيدَ الدِّينِيَّةَ المَورُوثَةَ، والحُبِّ الَّذي يُجالِدُ ظُرُوفَ الحَياةِ المادِّيَّةِ وصُعُوباتِها. وبِالاختِصارِ، فَالرِّوايَةُ هي رِحلَةٌ في أَقدارِ ناسٍ تَصارَعُوا مع رِياحٍ تَقُودُهُم مَرَّةً حَيثُ يَشاؤُونَ ومَرَّاتٍ حَيثُ لا يُرِيدُون.

يَقُولُ “شَيخُ الأَدَبِ الشَّعبِيِّ”، سَلام الرَّاسِي: “مَن يَنظُرُ إِلى ذِكرَياتِهِ، بِعَينِ البَساطَةِ، يَرَها أَجمَلَ مِن حَقِيقَتِها، والسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَن استَطاعَ أَن يُزَيِّنَ جُدرانَ حَياتِهِ بِلَوحاتٍ مِن أَجمَلِ ذِكرَياتِه”.

هذا ما جَرَى مَعِي مُنذُ أَطلَقتُ قَلَمِي في هذه الرِّوايَةِ الَّتي تَجمَعُ شَتاتًا مِن ذِكرَياتٍ تَبَعثَرَت في دُرُوبِ العُمرِ، فَرُحتُ أُلَملِمُها بِالأَهدابِ، والحَنِينِ القابِعِ جَمرًا في حَنايا الصَّدر. وذلكَ ضَنًّا مِنِّي بِماضٍ مُنْزَوٍ في قَرارَتِي، أَن يَأكُلَهُ الفَناءُ المُتَرَبِّص. وفي طِيَّاتِ الماضِي لَذائِذُ، قد تَكُونُ مَرَّت عَرَضًا يَومَ عِشناها، أَمَّا بَعدَ مُرُورِ الحِقَبِ فَإِنَّها تُصبِحُ كَالنَّبِيذِ، كُلَّما عَتُقَ طابَ شَمِيمُهُ والمَذاق.

والكَثِيرُ مِن الوُجُوهِ الَّتي مَرَّت في حَياتِي، حَفِظَتها ذاكِرَتِي في رُكنِها الدَّافِئِ، فَعُدتُ إِلَيها، مَشُوقًا، بَعدَ أَن خَبَبتُ، طَوِيلًا، في الدُّرُوبِ المَنسِيَّة.

وخاطِرِي، الَّذي أَملَى عَلَيَّ السُّطُورَ، لَم يَتَناوَلْ، فَقَط، ذِكرَياتٍ مِن حَياتِيَ الخاصَّةِ، بَل تَوَغَّلَ في خَلَلِ تَلافِيفِي المُنهَكَةِ، ناشِدًا أَحداثًا خارِجِيَّةً تَتَواءَمُ مع المَروِيَّاتِ، فَلا تَخدِشُ السِّياقَ القَصَصِيَّ، وتُحكِمُ اللُّحمَةَ المَطلُوبَةَ، وتُوَشِّي اللَّوحَةَ بِأَلوانٍ تُضفِي عليها المَزِيدَ مِن الحَياة.

وأَعتَرِفُ بِأَنَّ الكَثِيرَ مِن مَلامِحِي، ومَنازِعِي، وصِفاتِي، مُنداحٌ في شُخُوصِي، مِن دُونِ تَقَصُّد. ولا غَرْوَ، أَما قالَ جُوستاف فلُوبِير عَن إِيمَّا، بَطَلَةِ رِوايَتِهِ “مَدام بُوفارِي”: “إِنَّ إِيمَّا هِيَ أَنا”؟!

ولَمَّا كانت رُوحُ هذه الرِّوايَةِ مُلتَصِقَةً بِالقَريَةِ، وبِالزَّمَنِ الَّذي مَضَى بِكُلِّ دِفئِهِ، وبَساطَتِهِ، فَإِنَّنِي حَرَصتُ على تَسجِيلِ كَثِيرٍ مِن مَجرَياتِ ناسِها الطَّيِّبِينَ مِمَّن غَبَرُوا، وغَبَرَت مَعَهُم هذه الحضارَةُ الفِطرِيَّةُ الَّتي قال أَنِيس فرَيحَة إِنَّها في طَرِيقِ الزَّوال.

هكذا…

وإِنَّنِي لَم تَستَدرِجْنِي وَسائِلُ يَتَوَسَّلُها الكَثِيرُونَ بُغيَةَ تَشوِيقِ القارِئِ، وجَذبِهِ، مِن لُجُوءٍ إِلى الجِنسِ ومُغرِياتِهِ، إِلى تَركِيبِ المُفاجآتِ المُصطَنَعَةِ لِشَدِّ الانتِباهِ، والتَّحفِيزِ على القِراءَةِ، بل تَرَكتُ الحَياةِ تَجرِي كما هي، بِبَساطَتِها وصِدقِها، وكانت مَهَمَّتِي أَن أُزِيلَ مِن جَسَدِها، المَنقُولِ إِلى رِقاعِيَ، تَفاصِيلَ لا تُغنِي ولا تُفِيدُ، وذلك عَمَلًا بِنَصِيحَةِ الفَنَّانِ الفَرَنسِيِّ أُوغُوست رُودان (Auguste Rodin)، الَّذي سُئِلَ يَومًا: “كَيفَ لكَ أَن تُبدِعَ تَماثِيلَكَ، فَتَأتِي على حَظٍّ كَبِيرٍ مِنَ الرَّوعَةِ والجَمال؟ فَأَجاب: الأَمرُ في غايَةِ البَساطَةِ، آخُذُ قِطعَةً مِنَ الرُّخامِ وَأُزِيلُ ما فِيها مِن زِيادات!”.

كَما عَمِلتُ على أَن تَكُونَ لُغَتِي جَمالِيَّةً، شِعرِيَّةً، مِن دُونِ تَصَنُّعٍ، وذلك بِقَدرْ ما طاوَعَتنِي رِيشَتِي، لِأَنَّنِي مُقتَنِعٌ بِأَنَّ ما يُلامِسُ القَلبَ، ويُحَرِّكُ المَشاعِرَ، ويَكفِي الذَّائِقَةَ الأَدَبِيَّةَ، هو الجَمالُ بِكُلِّ تَجَلِّياتِهِ، وأَبرَزُها اللُّغَة. وهو الَّذي يَبقَى في ذِهْنِ القارِئِ بَعدَ أَن يَطوِي الصَّفحَةَ الأَخِيرَة. وقالَها الشَّاعِرُ مَحمُود دَروِيش:الرِّوايَةَ لَيسَت مُجَرَّدَ سَردٍ أَو عَرْضٍ، إِنَّها بِناءٌ فَنِّيٌّ وَأَداءٌ جَمالِيٌّ لَهُ أَدَواتُهُ الخاصَّةُ ومَعمَلُهُ الخاصُّ، ولا تُسَمَّى الرِّوايَةُ رِوايَةً إِلَّا بِتَصمِيمِ هذا البِناءِ الفَنِّيِّ، وبِتَحقِيقِ هذا الجَمالِ الأَدائِيِّ”.

والرِّوايَةُ صُورَةٌ مِن الحَياةِ، والحَياةُ الَّتي رَوَيتُها جَمِيلَةٌ، مُستَلَّةٌ مِن عُمقِ المَشاعِرِ، وصَفاءِ العَلاقاتِ الإِنسانِيَّةِ، ومِن المَطارِحِ الحَمِيمَةِ الَّتِي طَمَسَتها المَدَنِيَّةُ الرَّاهِنَةُ، فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِأَدَبٍ راقٍ يُقِلُّها إِلى قارِئٍ نَبِيهٍ يَستَأهِلُ العِنايَةَ، وحُسنَ الخِطاب. و”الحَياةُ تَجرِبَةٌ لُغَوِيَّةٌ، والرُّوحُ لُغَةٌ، واللُّغَةُ هي سِرُّ الوُجُود”، كما قال جوهان هولدرلين (Johann Hölderlin). ثُمَّ أَلَيسَ “الهِنْدامْ على قَدّ المَقامْ”، كَما يَقُولُ مَثَلُنا العامِّيّ؟!

ولَقَد جَهَدتُ أَن تَكُونَ المَرْوِيَّاتُ، كُلُّها، في خِدمَةِ المِحوَرِ الأَساسِ في الرِّوايَةِ، فَالطَّحالِبُ الَّتي تَنمُو في نَسِيجِ السِّياقِ وأَذيالِهِ هي الجُرثُومَةُ الَّتي تَنخُرُ الجِذْعَ، فَتُذبِلُ أَوراقَهُ الخَضِلَةَ، وتُصَوِّحُ زُهَيراتِهِ النَّدِيَّة.

كَما إِنَّنِي سَهِرتُ على أَن أَظَلَّ مُتَوارِيًا خَلفَ الحِكايَةِ، وَتَرَكتُ لِأَبطالِيَ حُرِّيَّةَ الحَرَكَةِ والكَلامِ، فَهُم ناسٌ يَحيَوْنَ في السُّطُورِ، ولَيسُوا أَبواقًا تُبلِغُ آرائِيَ، وتُنشِدُ أَهوائِيَ، فَالوَعْظُ قاتِلٌ لِلسَّرْدِ، والتَّدَخُّلُ مُمِيت.

“أَقدار”… صادِرَةٌ مِن صَمِيمِ قَلبِي، وهي الآنَ في عُهدَةِ القُرَّاءِ، فَإِمَّا أَن تَتَصَدَّرَ الدِّيوانِ، وإِمَّا أَن تَسقُطَ في المِيزان.

أَللَّهُمَّ إِنِّي كَتَبتُ فَارتَحْت!

اترك رد