شعراؤنا صانعو مجد أرمينيا

بقلم: محسن أ. يمّين

 بمحض الصدفة كان احتكاكي الأول بالشعر الأرمني، فشعوري بالجوع كان قادني، ذات مرّة، إلى محل لبيع السندويش في طرابلس، كان قبالة “سينما coverكابيتول”، حلّت مكانه، ومكان المحلات المجاورة، منذ سنوات، بناية جديدة لجوزيف السبع. طلبت من صاحب المحل ما أريد. وفيما هو ينصرف إلى تلبية طلبي، إذا بي أُفاجأ بمجموعة من الكتب معروضة للبيع في زاوية من ذاك المحل الضيّق، من بينها ديوان شعر معرّب للشاعر الأرمني كيفورك أمين.

إلتبست علي، لوهلة، هويّته الأرمنية بسبب عدم انتهاء شهرته بـ”اليان” المعتادة. فاشتريته قبل أن يُنهي تسخين السندويش. وزال، بعد التعارف، استغرابي من كونه يجمع بين بيعه ما يُغذّي الجسد وما يُغذّي الروح، حال علمي بأن سركيس كوندجيان كان مدير المدرسة الأرمنية (خاريميان) في طرابلس، سابقاً. وكان ذلك فاتحة علاقة معه، وفاتحة علاقة بالشعر الأرمني المنبلج فجراً من قلب الجرح.

وقد مرّ وقت طويل قبل أن تتاح لي فرصة المضي في هذه العلاقة إلى آفاق أرحب مع صدور كتاب جولي مراد المترجمة، ومديرة مكتب جريدة “الجريدة” الكويتية في بيروت: “شعراؤنا/صانعو مجداً أرمينياً” الصادر عن “دار المراد”، يسترعي الانتباه بطباعته المتقنة، وتجليده الأنيق قبل الالتفات إلى مقدماته الاحتفائية المسطرّة بأقلام ناشره ميشال مراد، ورئيس جمهورية أرمينيا سيرج سركيسيان، والوزير السابق ميشال إدّه، والكاتب والروائي اللبناني أنطوان الدويهي، ويرتشو صاموئيليان الذي ساعد في خروج الكتاب إلى واجهة المكتبات وأغناه بالرسوم التي تزخر بها صفحاته، والوقوف على جاذبية مضمونه.imraa-moukatila.-1jpg

وكان من الطبيعي أن أفتّش، فور إخراجي للكتاب من علبته، أول ما أفتّش، عن كيفورك أمين الذي شكّلت قصائده عتبتي الملوّنة الى الشعر الأرمني، فوجدته على الصفحات 332-334 آخذاً مكانه في سياق الاصدار الانطولوجي بتعريفه عن نفسه: “أنا أرميني “قديم”. “قدم أرارات/قدماي “ما تزالان رطبتين / من مياه الطوفان” قبل أن أتابع تقليب محتويات العمل الذي تجري نبذاته التعريفية ونصوصه الشعرية المنتقاة بموازاة نهر الألوان المتدفقة عن النماذج التشكيلية الأرمنيّة الراوية بياض صفحات الصقيلة. ليكتمل بذلك مفعول انتشاء القارئ العربي بما تضمّه هذه الحديقة الواسعة من ورود وأزهار ورياحين تلتقي في صنع بصمة هويتّه، وعبق خصوصيته. فإضافة الملحق التشكيلي الخاص تحت عنوان “سفراء اللون” المقدّم له بقلم الرسّام والكاتب اللبناني محمود الزيباوي زاد من متعة سفر العين بين أغمار الحبر واللون، من دون أن يحرم الأذن من فرصتها في سماع القصائد الملقاة بأصوات جورج قرداحي، باسمة باطولي، زياد عقيقي، وجولي مراد، وذلك من خلال الاسطوانة المدمجة المرفقة.

من فاهكن إله الحرب والبطولة الخارقة، إلى القديس مسروب ماشدوكس، واضع أسس أوزان الشعر وقوالبه ومكتشف 36 حرفاً من حروف الأبجدية الأرمنية الهندوأوروبية إلى موفسيس خوريناتس، يُمسك الخيط السحري من طرفه، ثمّ تروح الخطى تُحثّ، في أرجاء الحديقة. فإذا الأعمال الأيقونية تعانق صلوات، وأناشيد، ومراثي القديسين، وسائر التجارب التشكيلية تحتضن كتابات مغنٍّ جوّال كناهابيت كوتشاك، وسايات نوفا الذي يعتبر من عمالقة الفن الغنائي الأرمني، وكاكلين بيشكوتوريان، وكوميداس، عبقري الموسيقى ورسول الأغنيّة الأرمينيّة، وافيديك اساهاكيان، عمر خيّام الأرمن، ويغيشيه تشارنتس، شاعر الحب، وغيرهم ممّن عرّشت قصائدهم على شموس نهاراتهم التي لا تغيب.

وإذا هيئات ووجوه الذين هدهدوا أطفال الشعب الجريح، ووضعوا أفضل ما فاضت به قرائحهم على أفواه عاشقيه، تلتمع في قلب العمل، التماعة الشهب، فاضحة هوية الذين غرسوا المساكب، على مفارق الأيّام، ووزعوا بخورهم وعطورهم على امتداد القرون.kabasan-1

قصيدة واحدة للشاعر باروير سيفاك ترجمتها جولي مراد، ونشرتها “النهار”، كانت كافية لإشعال فتيل رغبة الناشر ميشال مراد، بعد عمر من التقدير لإبداعات وكفاءات الشعب الأرمني، في التعاون مع كل من تعاون معهم من أجل إبراز هذه الجوهرة الطباعية على “مطبعة أنيس”، في الأشرفية، معتمداً، في الأخصّ، على وسع إلمام جولي، وأمانة ترجمتها، ورشاقة لغتها.

“وإذا كان المقصود أن يدرك قارئ هذا الكتاب كم أن الشعر الأرمني، مثله مثل التراث الموسيقي والغنائي الأرمني، المقدّس والدنيوي، هو أجمل وأعمق تجسيد لروح شعب أرمينيا ولروح أرضها وتاريخها”، كما كتب أنطوان الدويهي فقد تحقّقت الغاية، كأفضل ما يكون التحقّق. ولنلقِ نظرة إلى ما خطّه هوفهانس تومانيان في قصيدته “جبالنا الأرمينية” حين قال: “جبالنا سامية/ قوافلنا شاردة عصماء/ ممّزقة الأشلاء/ منهوبة الأرزاق/ موّزعة كتائب وفرقاء/ حاملة الجراح/ في جبال الموت/ في جبال الحداد/ في الجبال الأرمينية/ وعيوننا تتوق/ الى ستر السماء/ الى نجوم بعيدة/ ترقب بلهفة… تنظر/متى/ يبزع الصباح المشرق/ في جبالنا الخضراء/ في الجبال الأرمينية”. ونتخذ منه نموذجاً للفجر يتفتّق بعد الفجر، من سماء الشعر.

وبصدور كتاب كهذا، باللغة العربية، يقول ميشال مراد إنه حقّق حلماً ساعدته جولي على تحقيقه، وهو يستحق بالفعل تهنئة كل من يكنّ مشاعر التعاطف والتقدير لهذا الشعب الذي أغنى التركيبة اللبنانية بطيف حافل بالمهارات وألوان الإبداع أضاف إليها نكهةً وخصوصيّة. ولا ينفكّ يغنيها بمن لا يزال يتشبّث بالبقاء.

كلام الصور 

1- لوحة من الكتاب للرسام التشكيلي الأرمني فيتفاجيان

2- لوحة من الكتاب للرسام التشكيلي الأرمني إليبيكيان

اترك رد