عن الأمس واليوم
دولة الرئيس سعد الحريري، بعدما أوهم الناس أنّه حقق انتصارًا كبيرًا في الانتخابات الأخيرة، أصبحت جموعه تعيش، للأسف، حالة نشوة زائفة. ويحاول أنْ يوهم الناس أيضًا، بأنّه استوعب أخطاء المرحلة الانتخابية بخلفياتها وتداعياتها؛ لذا يدّعي أنّ تيار المستقبل هو الآن في حالة إصلاح مستمرّة.
صحيح إنّ الاطاحة برؤوس فاسدة في حزبه التي نصبت على الناس وجنت الثروات عمل مطلوب ، لكنها ليست المسألة الأساسية لما وصل إليه تيار المستقبل بقيادة الحريري الابن.
عليه أن يبدأ بمحاسبة نفسه وأمام اللبنانيين أولًا، عن الاخطاء الاستراتيجية والسياسية والممارسات التي ارتكبها واطاحت بتياره وبمستقبل طائفته، كذلك، وليس رمي الكرة في ملعب أعضاء وموظفين في تياره. إنَّ محاولة الإيحاء بأنَّ الفشل “البسيط” الذي حصل يتحمل مسؤوليته بعض الافراد في الحزب، لا تنطلي على أحد. فهو المسؤول المباشر عن الهزيمة، والفشل وعدم القدرة على القيادة وعلى عقد التحالفات الاستراتيجية…
إن أول خطوة عليه اتخاذها هي إصلاح نفسه، بأنْ يتوقف عن بناء شخصيته السياسية على حساب إرث والده، مع إدراكنا الظروف التي أتت به إلى الزعامة السُنّية. والده توفاه الله، وعليه أنْ يكون سعد الحريري نفسه. ليدع والده “يرتاح”، بدلًا من استغلاله يوميًا، صورة وصوتًا وخطابًا، في وسائل إعلامه، وكما حصل طوال حملته الانتخابية، ما يعطي الانطباع أنّه كسعد الحريري ليس لديه من يقدمّه.
وعليه ثانيا أنْ يجري نقدّا لاستراتيجيته السابقة، إنْ وجدت، التي أوصلت تياره إلى ما وصل إليه. حتى الآن، لا نعثر له، منذ العام 2005، على استراتيجية واضحة المعالم: في التاريخ الأخير، تحالف مع حزب الله (التحالف الرباعي)، ثم أصبح خصمًا له في ظلِّ الاتهامات التي وجهت الى الحزب بمسؤوليته عن اغتيال والده. وبعد فشله في إدارة مسألة الشبكة الهاتفية لحزب الله العام 2008، عرّض بيروت لاجتياح حزب الله، رغم أنّه كان يدرك ضعف إمكاناته وإمكانات الدولة في “تركيع” حزب الله؛ فترتب على اجتياح بيروت أنْ تمكن حزب الله وأعوانه من فرض “اتفاق الدوحة” في أيار و”الثلث المعطل”، فأصبحت 14 آذار أكثرية وهمية على الورق. ويعود سبب ذلك أيضًا إلى الدبلوماسية السعودية التي لم تكن على مستوى المرحلة. ثم تناسى الحريري كل شيء، وفق دبلوماسية وليد جنبلاط الواقعية، وهادن الحزب وسلاحه حتى يصل إلى الرئاسة الثالثة العام 2009. حتى أنّه وقف متفرجًا على تدخل حزب الله في سورية تحت مسمى “ربط النزاع” حول تلك المسألة، ووصل الأمر بانفراد الحزب في إدارة معارك القلمون وعرسال بنفسه، ضاربًا بعرض الحائط بإعلان بعبدا في حزيران 2012.
وعليه ثالثا، أنْ يراجع سياسته تجاه سورية. فمِنْ خصام قاتل مع النظام السوري حول ما يُقال عن مسؤوليته عن اغتيال والده، الى الذهاب الى سورية لاسترضاء بشار الاسد العام 2010، بناءً على صفقة بين الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز والنظام السوري، كي لا يعرقل النظام هناك مسيرة حكومة الحريري. ثم “أقيل” الحريري بمكيدة سورية – إيرانية – حزب الله مطلع العام 2011، فغادر البلاد حتى العام 2015، بذريعة أنّه مهدّد بالاغتيال، تاركًا جمهوره لمصيره، أمنيًا وسياسيًا، في حين أنّ نبيه بري وحسن نصر الله وسمير جعجع… مهددون بدورهم كلَّ يوم بالاغتيال، لكنهم بقوا مع ناسهم. هل يعرف الحريري، كيف كان يحزّ في نفوس البيارتة أنْ يشاهدوه على التلفاز يتزلّج بشاله الأحمر في جبال فرنسا وسويسرا، بينما هم معرضون كل يوم للعبوات المتفجرة؟
وعليه رابعًا، نقد سياسته ودبلوماسيته في إيصال الرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا، بعد سنوات طويلة من القطيعة والرفض، كما التضارب بترشيحه سليمان فرنجية قبل أسبوعين من إعلانه ترشيح عون، وذلك بمباركة سعودية. وفي أكبر عملية خداع، زعم الحريري أنّه يفعل ذلك من أجل الوطن، في حين أنَّ حزب الله وافق على صفقة قضت بوصول عون إلى بعبدا، في مقابل حصول الحريري على الرئاسة الثالثة.
وعليه خامسًا، أنْ يتوقف عن الإدعاء بأنّه قادر على إقفال بيوت السياسيين السُنّة المعارضين له في الانتخابات المنصرمة (تصريحاته في المناطق خلال حملته الانتخابية). بدلًا من ذلك، كان عليه، بصفته زعيم السُنّة، أنْ يحتضن القوى السُنيّة ومرشحي المجتمع المدني وفيهم أشخاص أكفاء، وألا يتعاطى معهم على أنهم في “جلبابه”؛ الجماعة الاسلامية في بيروت، وباقي التحالفات التي أجريت في الجنوب، وفي طربلس والبقاع الغربي. وهناك زعامات على مستوى الوطن رفض التحالف معها على أساس تبعيتها لسورية، مع أنَّ المرحلة ما قبل العام 2005، كانت مرحلة سورية بامتياز، انخرط فيها الجميع، حتى والده المرحوم. فما كان لهذه الزعامات المرفوضة حريريًّا، أن تركب حصانًا آخر للوصول إلى المجلس النيابي، وأكبر دليل على ذلك، حصول الأحباش على مقعد نيابي في عقر دار الحريري، في بيروت، من على حصان حزب الله. ولم يرد سعد الحريري، للأسف، التحالف مع قوى على أساس المساواة، بل أنْ تكون خاضعة له (ميقاتي وكرامي وغيرهما).
وعليه سادسًا، أنْ يعترف بأنَّ عدم اختيار حلفائه بدقة في الانتخابات، هو الذي أوصله إلى ما وصل إليه، وبأنّه لا يمكنه أنْ يكون اليوم هنا وغدًا هناك. فسقط في بيروت أكثر من نصف مرشحيه، ولم يسعفه على الصعيد العام سوى عكار، ليخرج بكتلة فقدت ثلث مقاعدها في البرلمان، قياسًا إلى العام 2009. لقد راهن كثيرا على التيار الوطني الحرّ وعلى جبران باسيل بالذات، كرافعة لوصوله إلى الرئاسة الثالثة. وكان عليه أنْ يعرف ماذا كان يدور في الخفاء بين نادر الحريري وجبران باسيل. وقد دعم وصول مرشحي التيار الوطني إلى البرلمان في بعض المناطق، من دون أنْ يحصل منه على شيء في المقابل. كما كان عليه أنْ يدرك أنَّ تحالفات حزب الله مع الأحباش في بيروت سوف تنعكس عليه سلبًا، وسيكون للحزب والحركة ثلاثة مقاعد فيها؛ اثنان شيعيان وواحد سنّي. باختصار، لم تكن للحريري رؤية واضحة، بما قد يتسبب به القانون النسبي لإضعاف قوته البرلمانية. فلو تحالف مع الجماعة الإسلامية، على سبيل المثال، لما وصلت الأمور في بيروت إلى ما وصلت إليه، وقد كانت حليفته في برلمان 2009.
وعلى الحريري، سابعًا، ألا ينسى أنّه ضحّى خلال حملته الانتخابية وقبلها بمناصب السنّة في الدولة لأشخاص يستحقونها بجدارة لصالح تحالفاته الانتخابية، وكرمال عيون باسيل، من دون أنْ يحصل منه على شيء في المقابل. وهذه السياسة الخرقاء أضاعت على طائفته مراكز محقّة لها لا استطيع أنْ أعددها هنا، وكان آخرها: قضية دكتور سراج ودكتور حلواني اللذان نجحا بجدارة في مباريات مجلس الخدمة المدنية لمنصبين رفيعين في الدولة، ثم وهب الحريري من دون حقّ المنصب الأول لجبران باسيل والثاني إلى شخص آخر في عكار، وضرب ومعه مجلس الوزراء عرض الحائط بامتحان مجلس الخدمة. وعن الجامعة اللبنانية، حدّث ولا حرج: التخلي عن كلية العلوم المهمة، في صفقة قادها أحد قياديي تيار المستقبل، لكي يصل هذا القيادي إلى رئاسة مجلس إدارة صندوق التعاضد. وفي العام 2004، تخلّى تيار المستقبل عن عمادتين للبيارتة لكليتي الآداب ومعهد الدكتوراه، من أجل مصالحه السياسية، ما أفقد الكليتين رمزيتهما البيروتية، على الرغم من أنه كان يتباكى في الإعلام على حقوق بيروت وأهلها. كما استبعاد العميدة أسما شملي، الأكثر كفاءة وأكاديمية. ولم يتوان عن تعيين أساتذة فاسدين في كلية الآداب – الفرع الأول مدراء في الكلية، رغم وجود ملفات فساد بحقهم في رئاسة الجامعة…. وبسبب سياسة اللامبالاة، أصبحت رئاسة الجامعة اللبنانية احتكارًا لحزب الله وحركة أمل… حتى أنّه سكت عن ملفات الجامعة العديدة وكيفية إدارتها، وكذلك عن الفساد في مؤسسات ووزارات هنا وهناك، كما الفساد والفاسدين.
كما عليه أنْ يدرك، ثامنًا، أنّ قراره الخاطئ بخوض المعركة الانتخابية وفق أي قانون، وخاصة القانون النسبي، حلّ عليه كارثة. فاعتقد أنَّ تحريض العصبية السنيّة سيكون كافيًا لتجييش الناس ودفعهم إلى صناديق الاقتراع، كما يفعل حزب الله وحركة أمل بالنسبة إلى الشيعة الذين يتبعونهم. فالنسبي لدى الحزب والحركة يقوم على تقديم الخدمات الكثيرة للناس، ومتابعة مصالحهم، في دوائر الدولة وخارجها، وحادثة شركة ABC – فردان لا تزال ماثلة في الأذهان، كيف تمّ فرض تعيين مئات الموظفين من طائفة معينة بضغط من زعيمهم الطائفي. وفي المقابل، لم يعن الأمر الحريري بشيء، ويشهد على ذلك أنّه لم يحافظ على حصّة السنّة في دوائر الدولة، وبلدية بيروت وأطفائيتها… فكان كلُّ همه مساعدة متسلقي المناصب في تحقيق أهدافهم.
وعقب صدور نتائج الانتخابات، تاسعًا، ونزول الزعران على دراجاتهم النارية إلى شوارع بيروت لترهيب الناس، بأنَّ “الانتصار” لا يتجسد في البرلمان فحسب، بل في الشارع، اكتفى الحريري بشجب خجول بالطلب إلى القوى الأمنية ضبط الشارع، ويعود هذا “الخجل” إلى الخشية من أنَّ رفع الصوت واتخاذ موقف متقدّم، قد يؤدي إلى حرمانه من الرئاسة الثالثة. وهذا ينطبق على تظاهرات ميرنا شالوحي، حيث “سكت عن الكلام”، حتى أنَّ نهاد المشنوق وغيره ذهبوا إلى بري شاجبين كلام باسيل “المباح”.
وكان على الحريري، عاشرًا، أنْ يصارح الناس لماذا تحوّل تياره الى حزب عائلة الحريري، وليس إلى حزب كحزب الله أو القوات اللبنانية أو الحزب القومي السوري… التي لا تقوم على الاقطاع السياسي التوريثي؛ فتتربع عمته بهية وولداها على قمة القرار والمرجعية في التيار، فيما يحدد نادر الحريري ويقرر دقائق العلاقات والتحالفات مع التيار الوطني وجبران باسيل، ومع القوى الأخرى.
حادي عشر: عليه الا ينسى أنَّ في السعودية ولبنان عشرات الآلاف من الموظفين لشركته المنحلة المفلسة “أوجيه”، وتلفزيون المستقبل والجريدة، أي أبناء العائلات اللبنانية وأسرهم وأولادهم الذين لم يقبضوا رواتبهم وتعويضاتهم، وقد صرفهم من العمل في السعودية منذ سنتين، في حين لم يقبضوا رواتبهم منذ سنوات. وكما بالنسبة إلى الحج الشريف في مكة، بأنْ يقوم من يريد تأدية الفريضة بتبرئة ذمته تجاه الناس قبل السفر، كان على الحريري أنْ يقوم بالشيء نفسه قبل إقدامه على “حجه الانتخابي”، علمًا أنَّ سياسته ومدراءه في تلك المؤسّسة العريقة قد أوصلتها إلى الهاوية. لو كان هناك رب عمل مسؤول مكانه، لباع كلِّ ما يملك، وما معه في المصارف، حتى ثيابه من الأعلى إلى الأسفل، في سبيل أنْ يدفع للناس حقوقهم المشروعة.
أخيرًا، على الحريري أنْ يدرك أنّ كل ما ذكرته في هذا المقال، وربما هناك أشياء أخرى سهوت عنها، كان سببًا رئيسيّا لامتناع السُنّة المحبطين من سياساته عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، أو عدم التصويت للوائحه. وبعد كلِّ هذا، لا يمكن للحريري الادعاء بأنَّ البيارتة أسهموا في إسقاطه كمرجعيتهم، بل إنَّ هذه المرجعية التي هي التي فرّطت بمصالح أهل بيروت، فكان رد أهل بيروت في صندوقة الاقتراع.