لغة الكون خرجت عن صمتها، فأنجبت الأرض والكواكب والنجوم ومالريح على الأرض إلا لغة الطبيعة لاكتمال فصول الحياة. و للكائنات كلها لغة خاصة بها، فرقصات النحل المعقّدة ماهي إلا لغةٌ تصفُ طريقهم من الخليّة إلى الرحيق المشتهى.
أما بالنسبة للبشر، فإن اللغة هي ملَكةٌ إنسانية تتعانق فيها الإشارات والرموز، لتصبح وسيلة من أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة، والكتابة لم تُخترع إلا لتمثّل عينياً تلك الأصوات اللغوية، وقد تمتع الرجل بحرية الكتابة فرسم وجه المرأة وكتب عن جسدها وصوّر انفعالاتها ورغباتها وكثيراً ما أخفى حقيقتها، كتب فيما الصمت يتوسد جناحيها، صحيح أن هناك بعض من النساء اللواتي حطمن قيود الصمت، فقد لمعت في تاريخ حضارتنا العربية أسماء كالخنساء ورابعة العدوية، ولادة بنت المستكفي، وغيرهن إلا أن عددهن قليل ولم تتعدّ كتابتهن التعبير عن خلجات النفس، وفي الأدب العربي المعاصر سجل بعض المؤرخين أول إمرأة كتبت هي مدام منصور مشكور في مجلة الجنان عام 1874 وقالت: لما كانت المرأة ذات قابلية لجميع ما يجمعه الرجل ولإدراك ما يدركه من سلّم الأدب والمعارف، كان لابد أن تكون الوسائط الرافعة لشأنها والمثقِفة لعقلها نفس وسائط الرجال” إلا أن الأدب في بداياته كان يتسم بطابع التقليد، لذلك نجد بعض المنظرين مازالوا يدعون لتقسيم تراتبي قد يجعل الأدب الذكوري في المركز الأول والنسوي في المرتبة الثانية مركزين على مصطلح أطلقوا عليه “الأدب النسوي”.
وبالرغم من اشتراك المرأة الكاتبة مع الكُتّاب في شروط تنعكس على الكتابة الحديثة شكلاً ومضموناً، إلا أنها تمتلك أن تُقلق الرجل المتشبع بقيم المجتمع الذكوري، فكما أثارت تجربة الكاتبة مي زيادة سخط العقلية الوصائية، كذلك أثارت كتابات ليلى بعلبكي غضب نول عقل يسنج استبداده على حبال الوهم والخديعة.
وفي يومنا هذا هناك الكثيرات ما زلن يقلقن ويزعزعن عفن العقل الذكوري بكتاباتهن وأفكارهن كالدكتورة نوال السعداوي، والروائية غادة السمان، وغيرهن من أسماء لامعة في مجال الفكر والأدب، مما يفسح المجال أمام صوت “الأنا العميق” للمرأة في أن تسترجع حقها في الإبداع والقول المختلف، ولأن اللغة العربية واحدة فليس هناك لغة نسوية وأخرى ذكورية، إن اللغة أداة للتعبير وما الأدب سوى استنطاق للغة تستنطق الكاتبة عبرها ومن خلال الابداع قاموسها اللغوي، فهي تستطيع مثل الرجل الكاتب أن تذهب إلى حافة جنونها لتستعيد حريتها وإنسانيتها المنفيتين، وتزيل ماعلق من شوائب اللفظ والمعنى من خلال ما تقدمه من أدب ناجح وفكر إنساني مستنير تتوافر فيه عناصر الابداع والجمال، فالأدب الحقيقي الذي ينهض بالمجتمعات ويقود البشرية نحو الارتقاء إلى الإنسانية الحقة لا علاقة له بجنس الكاتب سواء كان إمرأة أم رجل فالمبدع هو المبدع، والابداع نفسه هو الحكم والقيمة ولا فرق بين الجنسين، فطيري أيتها المرأة وحلّقي وكوني صوتاً آخر، فالحرية ترفض حتى الهواء إذا أسرها.