أصدق التعبير وأوّله كان صرخةً. شَقَّت حُجبًا وظلمات، مدفوعة بمعرفتين:
معرفةُ خَلقٍ أوحت، أو فرضت تعبيرًا أعطته صفات قرّبتها من العقل، فانتظمت بين إسهاب يُريح ويقضي حاجات، وكتمانٍ عن غير المصطفين.
… والأخرى، هي اللغة في اللسان، والألفاظ، والمعاني… وكتابات لأجلها استُخدم القلم (وما كان قبله شبهًا). تطوّر الفكر. تطوّرت الاكتشافات تسهيلاً لانتشار المعرفة.
… وجاءت الطباعة، بعد الرسّامين والنسّاخين الفنّانين، أحد أهم الاختراعات الإنسانيّة المرتبطة بالعلوم كافةً، واتّسعت آفاق.
قرون مرّت قبل الوصول إلى ما أعدّه العقل للبشريّة، مدفوعًا بحاجةٍ ملحّةٍ لتصميم آلة، تكون الشرارة الأولى لنهضةٍ وضعت بريقًا فوق دولاب ما عاد توقّف، ولا هي توقّفت… وعمَّ فعلها.
تحدّد التاريخ، وارتبط باسم فاعل:
«يوهان غوتنبرغ» Johannes Gutenberg، عامل مطبعة ألماني اخترع الطابعة بالحروف المتحرّكة، وأوّل كتاب طبعه باللاتينيّة: «التوراة» (1450)[1]. بعدها بسنوات خمس طُبع أوّل كتاب بلغة شرقيّة: «التوراة العبرانيّة».
العامل الديني لنشر تاريخ البشريّة (منذ التكوين!)، دفعه إلى نشر اختراعه… لم تقع عينه على كتاب آخر.
ـ لأهميّته؟ ربّما.
وربّما لـ «الهالة» الآتية من «تأثير» الدين، على مرِّ العصور، في التحكّم بمصائر الشعوب كافة. تغذّيها السلطات. جميع السلطات.
***
انتشرت الطباعة في أوروبا وغيّرت وجهها، ما أرهب السلطنة العثمانيّة فحرّمت استخدامها «خوفًا من انتشار ما يصعب ضبطه»[2]، حين تأخذ الأفكار الجديدة مداها.
أسهم «المنع» في انتشار «مهنة» النسّاخين. واستمرّ الارتباك مسيطرًا، حتّى بعد أن أفتى شيخ الاسلام عبدالله أفندي (1716) بجواز طبع كتب اللغة والتاريخ وبعض المعارف وبعض الفنون.
نافذة صغيرة فُتحت في هذا الجدار (1727). أصدر الباب العالي[3] فرمانًا سمح فيه بتأسيس مطبعة، تطبع باللغتين التركيّة والعربيّة كتبًا متنوّعة، باستثناء الكتب الدينيّة الإسلاميّة[4].
بعد سنة طُبع أوّل كتاب في الأستانة.
العامل الديني والطباعة
عاملان دينيَّان كانا وراء إطلاق حركة الطباعة. وأيضًا، وراء التخوّف والتخويف من نتائجها.
… وظهر عامل دينيٌّ ثالث، مرتبط ببحثنا، تجلّى بنهضة أحدثها تأسيس المدرسة المارونيّة في روما (1584)، وتخريجها طلابًا إلى العالم، كانوا رسل علم ومعرفة، شكّلت ثقافتهم معبرًا لنقل معارف الغرب ونهضته إلى الشرق المستعدّ لإطلاق المارد من قمقمه.
أولى البشائر تجلّت مع المطران سركيس الرزّي[5]. استقدم من روما مطبعة لدير قزحيا. صدرت عنها النسخة الأولى لأوّل كتاب مطبوع في الشرق: كتاب «المزامير»[6] المؤرّخ سنة 1610.
استمرّ العامل الديني المؤثّر غربًا وشرقًا، وتفاعل لبنان معه عبر صدور أولى النشرات وأقدمها. ظهرت باللسان العربي في عاصمته بيروت. كانت (أيضًا) دينيّة سنويّة للمرسلين الأميركيّين. طُبعت في مطبعتهم التي أسّسها القس عالي (ايلي) سميث[7] Elie Smith، وحملت عنوان: «مجموعة فوائد» (1851).
… تتالت النشرات فالمجلاّت الدينيّة التي بدأ بها تاريخ الصحافة في لبنان، إلى جرائد سياسيّة، أدبيّة، نهضويّة، أثّرت وبشكل واضح في مرحلة هي الأصعب في تاريخه، وتاريخ المشرق العربي، خصوصًا بعد سقوط التاج العثماني (1922)، نتيجة للحرب العالميّة الأولى، ثم في مرحلتين لاحقتين: الانتداب والاستقلال.
سعى المرسلون الأميركيون في لبنان، من خلال المعاهد والمجلاّت التي أسّسوها، إلى نشر الدعوة البروتستنتيّة. أصدروا بعد «مجموعة فوائد»: «أخبار عن انتشار الانجيل» (1863) و«النشرة الشهريّة» مع الدكتور كرنيليوس ڤان دايك Cornelius Van Dyck (1866)… ما خلق حالة من القلق لدى مؤسّسة دينيّة أخرى: غربيّة وعريقة هي «الرهبانيّة اليسوعيّة»[8]. جاءت لبنان وأسّست فيه، على غرار البروتستنتينيّة الأميركيّة، مؤسّسات علميّة وتربويّة وصحافيّة ومطابع…
تفاعلُ المؤسّستين واحتكاكهما السلبي والإيجابي أفاد لبنان، وشكّل له نافذة على الغرب. ظهرت (عبر أساتذة وطلاّب المؤسّستين… وأتباعهما) نهضة فكريّة، تربويّة وطنيّة، وبرزت وجوه ثقافيّة كان لها الدور المؤثر في استنهاض «الأحرار» لمواجة تعسّف السلطنة العثمانيّة وظلمها، ومجابهة تحجيم الحرّيات زمن الانتداب الفرنسي لاحقًا.
لم يقتصر الدور الصحافي في لبنان على المؤسّستين الدينيّتين الغربيّتين، وما صدر عنهما. ظهرت صحف ومجلاّت عن مؤسّسات دينيّة وطنيّة: جمعيّة التعليم المسيحي الأرثوذكسيّة، إخوة المدارس المسيحيّة، الكلّية السوريّة الانجيليّة (لاحقًا الأميركيّة)، جمعيّة الآباء البولسيّين، جمعيّة المرسلين اللبنانيّين، مطرانيّة بيروت المارونيّة، ومطرانيّة الروم الكاثوليك… وجمعيّات ومؤسّسات دينيّة أخرى.. وسّعت الإطار الصحافي الذي دخلت إلى وسطه مؤسّسات دينيّة إسلاميّة، عبر صحف يوميّة ومجلاّت ونشرات… كان لها جميعها الدور المؤثّر في أكثر من بلدة ومدينة وعاصمة، وفي البلاد كلّها، مع رجالات أعلام ناهضوا السلطنة واستشهدوا، وأكمل مَن جاء بعدهم في زمن الانتداب وصولاً إلى الاستقلال.
نور شمعة
الشمعة التي أضاءها «المرسلون الأميركيون» في نشرتهم الأولى: «مجموع فوائد» كان نورها الضئيل كافيًا لتبيان معالم درب طويلة، أرخى عليها ظلّ «التاج العثماني» عتمة قاسية، كادت تخنق جذوة في نفوس تنتظر بارقة لتكسر الارتباك وتنطلق.
… وانطلقت المسيرة الطويلة ممهّدة لنهضة: ثقافيّة، سياسيّة، اجتماعيّة، إنسانيّة من خلال فكر متنوّر، وعبر «وسيلة» حديثة (يومها) شكّلت مدماك أساسٍ لتاريخ عريق كُتب بمداد الروح، وإشراق العقل، وكلّف جهادًا مضنيًا.
«الوسيلة» عُرفت بأكثر من اسم وصفة، واستقرّت التسمية عند كلمة «صحافة»: صحيفة. وشذّ خليل الخوري مؤسّس «حديقة الأخبار» أولى الصحف اللبنانيّة… والعربيّة، فأطلق على «حديقته» تسمية فرنسيّة: «جورنال»[9].
يشير المؤرّخ الأوّل للصحافة اللبنانيّة والعربيّة الفيكونت فيليب دي طرازي[10] إلى تسميات أخرى، منها: الوقائع[11]، صحيفة[12]، جريدة[13]، ثم نشرة، ومجلّة… اختصرتها جميعها كلمة «صحافة»[14].
لم تؤثر التسمية على الهدف.
أدركت السلطنة العثمانيّة ذلك قبل سنوات، حين صدرت فيها أوّل جريدة: «بريد أزمير» باللغة الفرنسيّة (1825)، ثم: «تقويمي وقائع» في القسطنطينيّة (1832) بعناية مصطفى رشيد باشا في عهد السلطان محمود[15].
الجريدتان ولدتا في ظلّ «التاج» ولخدمته، ولا خوف من بصيص أمل يُلمح إلى حرّيةٍ وقولة حقّ في وجه تعسّف وظلم… تبعهما: أسبوعيّة «مرآة الأحوال»[16] للحلبي رزق الله حسّون (1855)، ثم جريدة «السلطنة» للسوري اسكندر شلهوب (1857).
أما عندنا، فبعض أهل «الولاية» كان يتحسّس عنقه قبل أن يمسك قلمًا ليكتب… وبعضهم الآخر يمشي في الركب مطبّلاً ومهلّلاً، راضيًا على أمل أن تهلّ عليه «بركات رضى» الباب العالي.
في هذا المناخ الغبش، أصدر خليل الخوري «حديقة الأخبار» بعد استبعاده فكرة تسميتها «الفجر المنير»… وهل في واقع الحال من «فجرٍ… ومنير»؟!
سنتان مرّتا على إصدارها، ولم تثر شغبًا، ولم تبدِ اعتراضًا، فخصّصتها «السلطنة» لخدمتها، واعتبرتها بمثابة جريدة نصف رسميّة، وأعانت مُصدرها براتب شهري (عشرون ليرة عثمانيّة).
استمرّ الحال إلى سنة 1868، حين استبدلتها «الإدارة السَنيّة» بجريدة خاصة بها باسم: «سورية»، من دون أن تقطع «الإعانة» عن «الخوري» الذي كلّفته تحريرها، فاستعان بشقيقه سليم، مع سليم آخر من آل شحاده… وحلّت هذه الجريدة مكان أوّل جريدة رسميّة أسّسها المتصرّف داود باشا[17] (1867) في مركز حكمه في سراي بيت الدين وحملت اسم «لبنان».
بين إصدار: «الحديقة» و«سورية» و«لبنان» أصدر المعلّم بطرس البستاني صحيفة (والأصح نشرة) في صفحتين باسم «نفير سوريا» لغاية وحيدة ظهرت في شكل رسائل وطنيّة لشدّ عرى الإلفة بين أبناء البلد الواحد، والمنطقة الواحدة حين اهتزّ أمنها فترة الحرب الأهليّة (1860)، وأسكت النافخ في النفير «نفيره» حين استتب الأمن.
نظام جديد ورقابة
… شكّلت ثمانينات القرن التاسع عشر منطلقًا مهمًّا في تاريخ الصحافة اللبنانيّة، إذ بين نشرة «مجموع فوائد» فجريدة «حديقة الأخبار»، و«النفير» وجريدتي «سورية»… و«لبنان» أصدر السلطان العثماني عبد العزيز[18] أوّل قانون للصحافة باسم «نظام المطبوعات الصحفيّة والرقابة عليها». وكان اختبره في خلال زيارته العاصمة الفرنسيّة، ولمس أهمية الدور الذي تستطيع أن تلعبه الصحافة في تنشيط الآداب على اختلافها خدمة للحضارة.
«أكرم» صحافيين وفسح مساحة لنُسيمة حرّية من دون غضّ طرفٍ عن أي بارقة حادّة تجحظ لها عيون «الرقيب»… ومع ذلك «صنّف» نقيضًا لسابقه السلطان عبد الحميد[19] الذي قال في منفاه ردًا على سؤال:
ـ «ماذا تفعل لو عدت إلى الحكم؟»
«لو عدت إلى يلدز[20] لوضعت محرّري الجرائد كلّهم في أتون كبريت»… ولم يعد.
كثر إصدار الجرائد والمجلاّت والنشرات في ولاية بيروت، وفاقت في نهاية القرن التاسع عشر الخمسين مطبوعة، جلّها تُتوّج صدر صفحتها الأولى بالأشعار وآيات المديح والشكر والتعظيم… وحتّى الخضوع لـ «السلطان المعظّم ارتفع شأنه ودام عزّه»… ولم يدم.
لافت أن معظم الصحف التي صدرت في تلك الفترة كانت تعتمد ثلاثة تواريخ: الميلادي (الشمسي)، الهجري (القمري)، والتقويم المالي للسلطنة العثمانيّة ابتداءً من أوّل آذار 1987 في عهد السلطان سليم الثالث.
صحف ومطابع
شكّل انتشار الصحف والمجلاّت عاملاً أساسًا لانتشار المطابع في بيروت، ولسدّ حاجتين مهمّتين: طباعة الصحف والنشرات، وطباعة المؤلفات خارج نطاق مطابع المؤسّسات الدينيّة (دير قزحيا، دير مار يوحنا في الخنشارة، المطبعة الأميركيّة، المطبعة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)، مطبعة دير طاميش، مطبعة القديس جاورجيوس، المطبعة السريانيّة في الشبانيّة، المطبعة المخلصيّة في صيدا وغيرها)…
أصبح لكلّ صحيفة (تقريبًا) مطبعة خاصة بها، (عدا المطابع التجاريّة) ما ساعد في ازدهار «ولاية» بيروت التي وصفها الأمبراطور الألماني غليوم الثاني[21] لدى زيارته لبنان بـ: «الدرّة النادرة في تاج السلطان»[22].
من المطابع التي تأسّست لزوم إصدار الصحف نذكر مثالاً لا حصرًا، بدءًا من سنة 1857 حتّى نهاية القرن التاسع عشر[23]: «المطبعة السوريّة»، أو مطبعة «حديقة الأخبار» لخليل الخوري[24]، «المطبعة الشرقيّة» لإبراهيم النجّار، «مطبعة إهدن» لرومانوس يمّين والأب يوسف الدبس، «المطبعة العموميّة» ليوسف الشلفون، مطبعة «جريدة لبنان» الرسميّة في دير القمر، «المطبعة المخلّصية»، «مطبعة المعارف» لخليل سركيس وبطرس البستاني[25]، «المطبعة العلميّة» لحنا الغرزوزي، ومنه إلى سليم نقولا المدوّر، وأعيد إنشاؤها حين أصبحت بعهدة يوسف صادر، «مطبعة جمعية الفنون» لعبد القادر قباني، «المطبعة الكلّية» ليوسف الشلفون، «المطبعة الأدبيّة» لخليل سركيس، «مطبعة بيروت» لمحمد رشيد الدنا، «مطبعة الولاية» وهي المطبعة الرسميّة، «مطبعة الآداب» لأمين وخليل الخوري، «المطبعة العثمانيّة» لابراهيم الأسود، أسّسها في بعبدا، «المطبعة الأنسيّة» لمحمد الأنسي، «مطبعة الأرز» لفيليب وفريد الخازن في جونيه، و«مطبعة طرابلس» لمحمد كامل البحيري… وغيرها.
أَثرَت الصحافة مهنة الطباعة، وأثرت الطباعة رسالة الصحافي الذي بدأ يلمح بشائر حرّية بعد إعلان الدستور العثماني على يد «حزب الاتحاد والترقي»، (24 تموز 1908)، الذي قُيدت به صلاحيّات السلطان عبد الحميد الثاني[26]… وبدأت تظهر ملامح سقوط التاج الذي «عاشت» سلطته ستماية سنة.
على رغم ذلك، وقبله بأكثر من ربع قرن، كان عدد كبير من الصحافيّين والأدباء والكتّاب اللبنانيّين الذين رفضوا القبول بالواقع المفروض عليهم، يتسابقون إلى فتح كوّة في هذا الجدار «العالي». وهم انقسموا إلى فئتين:
أولى هاجرت إلى بلدان عربيّة، في طليعتها مصر، والأخرى إلى الأبعد، في بلدان الأميركيّتين وأوروبا… ومن هناك أكملت «مقاومتها» عبر تأسيس الصحف والمجلاّت والجمعيّات والأحزاب والروابط دعمًا لحلم راود الكتّاب بينهم، وكان أعلامه في «الوطن الأب» الذي ارتبطت به شهرتهم المسجّلة في هوياتهم.
بعضهم نجح وحلّق، وفلش جَناحيه فوق شرق وغرب، محققًا نهضة ما زالت إلى اليوم مشعّة أنوارها، وبعضهم الآخر راح إلى مهنٍ أخرى «تطعم خبزًا» له ولعياله المتجذّرة في الوطن، طوعًا أو ضعفًا.
بين فترة إعلان «الدستور العثماني»، وموعد سقوط التاج فوق التراب، دفعت الصحافة دمًا ثمن حرّيتها، حين أعلن الباشا «جمال السفّاح»[27] أحكامًا عرفيّة أمر فيها بإعدام مَن لم يستطع أن يَكسرَ قلمه ويحني هامته، ليَسكُت عن الظلم الذي أودى بحياة آلاف من أهله اللبنانيّين جوعًا وذلاً ومرضًا وقهرًا وتشرّدًا.
أعدم أكثر من صحافي وكاتب وشاعر ولم ينكسر القلم. إذ يستحيل كسره – حسب الفرنسي فولتير: «الصحافة ستظل تعمل على هدم العالم القديم، حتّى يتسنّى لها ان تُنشئ عالمًا جديدًا».
… وجاء الانتداب
تدحرج التاج تحت أقدام الزمن العابر إلى غير رجعة. ارتفع علم الانتداب في لبنان وسوريا، بعد تقويم نتائج الحرب العالميّة الأولى، وتوزيع مغانمها.
انتقلت السلطة من المحتلّ إلى المنتدب!
تضمّنت الوثيقة الدوليّة التي وضعها المجلس الأعلى لعصبة الأمم[28] الأسس التنظيميّة لعمل الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا. في مقدمتها:
«أن الدول المتحالفة اختارت فرنسا لإرشاد شعبي سوريا ولبنان (…) على أن تضع الدولة المنتَدَبَة، خلال سنوات ثلاث، دستورًا للبلدين، وتبقي جنودها فيهما للدفاع عنهما، وصيانة أراضيهما، وعلى أن تكون اللغة الفرنسيّة لغة رسميّة إلى جانب اللغة العربيّة»… تبع ذلك في الأوّل من أيلول 1920 إعلان دولة «لبنان الكبير».
أظهر المنتدب، بداية، ليونة وانفتاحًا، ولو شكليًّا، في تعامله مع اللبنانيّين المتعطّشين إلى الحرّية التي دفعوا ثمنها دمًا وتشرّدًا وعذابات واضطهادات. فـ «الحرّية ممارسة مناضلة، تنطلق من نفسٍ حرّةٍ وفكرٍ حرٍّ. بحيث لا يخاف القلم الحرّ سلطانًا، مهما علا كعبه. والصحافي في الأصل رسولي في نظرته، يؤثر إيمانه بالحقوق على منافعه من السلطة»[29]… ولا يفرّق بين محتلّ ومنتدب، إذ بين الاثنين «غاية» مشتركة، لمكاسب خاصة لا تلتقي وتطلّعات الشعوب الساعية إلى الاستقلال التام والناجز.
في هذا المناخ، ولو بدا ظاهريًا مع المنتدب أقل قساوة من المناخ الدموي الذي مارسه المحتلّ، فالحرّية لا تؤخذ نتفًا واستنسابًا، فإما أن تكون كاملة أو لا تكون. هذا ما لمسته الصحافة اللبنانيّة من خلال تعامل «المنتدب» الفرنسي مع أربابها عبر تخصيص المدجّنين بكميّات الورق لزوم طبع صحفهم ومنشوراتهم بأسعار «مدعومة»، وحجبها عن المعارضين الرافضين السير في ركاب المطبّلين للحاكم الأجنبي، وكان يلبس قفازات حرير تخفي أظافره المسنونة.
أما من «غامر» واشترى الورق من «السوق السوداء»، واستمرّ في نقده ومعارضته الانتداب، و«تمنّيات المندوب السامي»، واجهته قرارات «الكوميساريا» بإقفال جريدته ومنعها من الصدور، مؤقتًا، أو نهائيًا.
لم ينفع المنع. ولم ينفع الترهيب.
الصحافي الذي أُقفلت جريدته، أعاد إصدارها باسم آخر، وباندفاع أكبر، ما اضطر السلطات إلى إصدار تشريعات وقوانين تجمع بين القساوة واللين، لمواجهة «الشارع» الذي بدأت الصحافة تحرّكه للمطالبة بوضع دستور للبلاد، خصوصًا بعد «انتخاب» شارل دبّاس[30] رئيسًا للجمهوريّة، حين تحوّلت الصحف إلى منابر للمفكّرين والمطالبين بالاستقلال التام، وظهرت إلى جانب الأقلام الحرّة الرسوم الكاريكاتوريّة المعبّرة أفضل تعبير، وبسخرية في انتقاد السلطات المنتدبة، كما برزت الأحزاب التي امتلكت صحفًا. وأحيت مهرجانات ردّدت صداها الأوساط الشعبيّة، وارتفعت شعارات: «الاستقلال…الحق، والعدل والديمقراطيّة»…
الدور المؤسّس
بعد انتشار الصحف اللبنانيّة… زادت المطالبة باستقلال لبنان، وبالاستقلال التام للدوّل العربيّة، ودعوتها إلى القوميّة العربيّة الكان روّادها طليعة الصحافيّين اللبنانيّين: نجيب عازوري، جرجي زيدان، يعقوب صرّوف، ابراهيم اليازجي، محمد رشيد رضا، أنطون الجميّل، أمين تقي الدين، أسعد داغر… وغيرهم. «وكانت الصحافة اللبنانيّة أكثر فعاليّة من الصحافة السوريّة، فـ بيروت هي المنطلق للسياسة العربيّة، والميدان الواسع للدعايات والتوجّهات التي تنعكس على سائر البلدان العربيّة (…) بينما كانت الصحافة السوريّة محدودة الامكانات (…) ولأن الفرنسيّين كانوا يحسبون لرجال السياسة السوريّة حسابًا على رغم قيامها بكلّ الوسائل التي تؤدي إلى التفرقة (..) لذا فاق انتشار الجرائد اللبنانيّة في سوريا انتشار الصحف السوريّة فيها»[31].
إصدارات وتصنيفات
تزايد إصدار الصحف على اختلاف أهدافها وتصنيفاتها من دينيّة، سياسيّة، أدبيّة[32]، اجتماعيّة، نسائيّة، اقتصاديّة، طبيّة، دينيّة… وكان للغات الأجنبيّة حصّة: Journée Syrienne (1922)، L’Avenir (1923)، La Gazette (1925)، Les Cèdres (1925)، Revue du Proche Orient (1925)، «أزتاك» الأرمنيّة (1927)، و«لسان الأمّة» السريانيّة[33]،… وغيرها من الصحف التي عُطلت لمناهضتها سياسة المنتدب.
فُتحت أبواب انتفاضات شعبيّة وحزبيّة، (أسّست لها الصحف)، وصولاً إلى فتح «معركة» الاستقلال (1941)، وانعقاد مؤتمر بكركي برعاية البطريرك أنطون عريضه[34] مؤسّسًا للميثاق الوطني[35]، ومدعومًا من جميع الطوائف التي رفضت الانتداب في وجوهه المختلفة… وأظهرت نتائج انتخابات 1943 انتصارًا للمعارضة (التي اعتقل المنتدب رموزها)، وبداية لمراحل لاحقة خاض اللبنانيّون فيها «معارك» حرّيات أوصلت إلى الاستقلال.
في المراحل جميعها، كان للصحافة اللبنانيّة (في معظمها)، الدور المؤسّس لنهضة الفكر التحريري الذي ترك أثره على الحياة العامّة في البلاد، ومنه انطلقت إلى محيطه… وأَبعد، وصولاً إلى عالم الاغتراب حيث أصدر اللبنانيّون صحفًا ومجلاّت تكاملت مع دور صحف لبنان، وكان لها أيضًا الدور الفاعل، في غير مجال، في بلدان انتشارها.
هذه الموسوعة
لا توجد صحافة من دون حرّية، ولا حرّية من دون صحافة حرّة…
أقنومان شكّلا معًا مساحة مهمّة في تاريخ الأوطان والشعوب، وفي نهضة هذه الشعوب حيث الكلمة أساسًا يُبنى عليه الثابت، وأما المتحوّل ففي سُنَّة الحياة المتحرّكة والمنفتحة على تطوّر يُحكم عليه بعد حدوثه، وليس قبله.
من هنا، يشكل العود إلى الجذور دافعًا أكيدًا لمعرفة التعامل مع هذا التطوّر: شكلاً ومضمونًا، مستندين إلى التجارب والإرث الثقافي المتنوّع – الشامل.
… ولأن الصحافة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنهضة الشعوب والأوطان والثقافات، نرجع إلى مصادرها، وهي في لبنان من الينابيع، روت بلدانًا جاورته، وما زالت، وما أهملت تطلّعًا وفعلاً في البعيد البعيد، وفي شرق وغرب.
نرجع إلى مصادرها، لنستشرف الآتي، ولو من غير وجه أتى. التاريخ لا ينفصل عن ذاته، وليس من غدٍ بلا أمسٍ، قريب أو بعيد.
نرجع في هذه «الموسوعة الصحافيّة اللبنانيّة» إلى الدور المؤسّس (منذ مئة وخمسين سنة… وسنة)، والمرتبط بأحداث الأزمنة وتداول السلطات، وتطوّر الثقافات لغة ومضمونًا وأسلوبًا، ودور «أهل» الصحافة وأصحابها، والمؤرّخين لها، والمجتمع المتفاعل معها، كاشفين ذلك بما تيسّر من معلومات تناقضت وتباينت، نتيجة ظروف لم تكن مستقرّة، أو لم يكن المؤتمن عليها على دراية بأهميّتها، فالمشاركة في الحدث، غير مراقبته بعد حين، بعد سنين، بعد زمن تراكمت عليه غبار الإهمال، ربّما عن غير قصد، فما عادت الصورة كاملة الوضوح، خصوصًا لجهة تأريخها بالتحديد التام.
… وأما المراجع التي تناولت الصحافة، وهي عديدة، فالتباين في بعضها، يثير الشكوك حول صحّتها، خصوصًا وأن جزءًا من المحفوظات الأساسيّة لها، تعرّض لأيدٍ كثيرة، ولليد غايات، كما للظنون والعقول، فسقط منها ما سقط، وأُخفى ما أخفي، ونجا ما اتفقت عليه هذه المراجع واعتمدته. علمًا أن ما خفي عن بعض هذه المراجع كان جديرًا بأن يُلفت إليه بإشارة متواضعة، من أي باحث.
الكمال في أي عمل… مستحيل.
لذا، نعلن في المدخل إلى هذا الموضوع المهم والشيّق والشاق، بأنّنا سعينا قدرما قُدّر لنا – طيلة سنوات – الإفادة من المراجع الأساسيّة، المطبوعة والمنشورة، والتي ما تزال طيّ عتمة الذاكرة، وأرشيف أشخاص يعتبرونها إرثًا لهم وحدهم، ولا «يفرّطون» في إظهاره، ولو خدمة لحفظ هذا الإرث من الضياع لاحقًا. وربّما سيضيع، إذا ظلّ في العتمة.
***
أَقبلنا على هذا العمل التوثيقي منذ أوّل نشرة صدرت في لبنان، منتصف القرن التاسع عشر، إلى مطلع الألفيّة الثالثة. لافتين إلى ما ظهر من صحف ومنشورات رخّصت لها المراجع الرسميّة، (وإلى صحف غير مرخّص لها صدرت في خلال الحرب على لبنان في سبعينات القرن الماضي)، مع جوانب مهمّة ومرتبطة ارتباطًا وثيقة بالصحافة اللبنانيّة وأهلها، في لبنان وبلدان الاغتراب، ومع التذكير بشهدائها وأعلامها، والدور الذي لعبته في أحلك الظروف، من دون إهمال الكلام على: وكالات الإعلام، الإعلان، المطابع، النقابات والقوانين (والتعديلات عليها)، وصولاً إلى بدء الصحافة الرقميّة وتأثيرها على الصحافة المكتوبة.
***
موسوعة..؟
بل مكتبة محفوظات في أجزاءٍ، نأمل أن تعود بفائدة عامّة وشاملة إلى سلطة سمّيت: «رابعة»[36]، لتحديد دورها وتأكيده في تقرير مصير الشعوب ورقيها واستقلالها، بعدما تحوّلت الكتابة فيها إلى مهنة تخضع للتطوّر والتحوّل والتبدّل… وللزمن الذي مدّ إصبعًا إليها تكوّمت في ثنايا بصمته «عصرنة» الرغبات والمشاعر والمعارف… والنتائج.
****
المراجع
[1] – الأب لويس شيخو، تاريخ فن الطباعة في المشرق، منشورات دار المشرق – بيروت، طبعة ثانية 1995، ص 8 – 9.
[2] – أمر السلطان «بايزيد» الثاني (1481 – 1512) بعدم تعاطي الطباعة. وجدّد «الأمر» ابنه وخليفته السلطان سليم (1512 – 1520).
[3] – زمن حكم السلطان أحمد الثالث (1703 – 1730).
[4] – أوّل الكتب الصادرة في الأستانة كانت كتبًا يهوديّة وبالحرف العبري.
[5] – سركيس بن يوحنّا الرزّي، بطريرك الموارنة (1581 – 1597) في عهده أنشئت المدرسة المارونيّة في روما.
[6] – نسخة أصليّة من كتاب «المزامير» موجودة في المكتبة البلديّة لمدينة نورنبرغ – ألمانيا.
[7] – عالي سميث (ت 1857)، أحد المرسلين الأميركيّين البروتستنت، نقل من مالطة إلى بيروت المطبعة الأميركيّة (1834)، باشر مع الشيخ ناصيف اليازجي بترجمة الكتاب المقدّس (1849).
[8] – الرهبانيّة اليسوعيّة، جاءت لبنان: صيدا وطرابلس (1645)، عينطورة – كسروان (1656)، بكفيا (1833)، غزير (1843)، فجامعة القديس يوسف في بيروت (1875)، وهي أوّل مؤسّسة تعليم عالٍ كاثوليكيّة وفرنكوفونيّة في المنطقة.
[9] – معناها: يوميّات.
[10] – تاريخ الصحافة العربيّة، الجزء الأوّل، المطبعة الأدبيّة – بيروت، الطبعة الأولى 1913، ص 7 – 8.
[11] – أطلقها المصري رفاعة الطهطاوي (1801 – 1873) من روّاد النهضة، حرّر في جريدة «الوقائع المصريّة».
[12] – أطلقها الكونت رُشَيد الدحداح (1813 – 1889) صاحب جريدة «برجيس باريس».
[13] – اعتمدها أحمد فارس الشدياق (1804 – 1888) مؤسّس جريدة «الجوائب» في الأستانة.
[14] – أوّل مَن استعمل لفظة «صحافة»: الشيخ نجيب الحدّاد (1867 – 1899) منشئ جريدة «لسان العرب» في القاهرة (1894).
[15] – السلطان 30 في بني عثمان (1808 – 1839).
[16] – أوّل جريدة باللغة العربيّة في السلطنة العثمانيّة.
[17] – أوّل متصرّف على جبل لبنان (1861 – 1868).
[18] – السلطان 32 في بني عثمان (1861 – 1876).
[19] – السلطان 27 في بني عثمان (1774 – 1789).
[20] – قصر السلطان في اسطنبول وهو عبارة عن بنايات وحدائق بلغ عدد سكّانه 12 ألفًا أيام حكم عبد الحميد.
[21] – أمبراطور (1888) تنازل عن العرش بعد خسارة الحرب العالميّة الأولى (1918).
[22] – الدويهي أنطوان، الطباعة في لبنان والمشرق، دار صادر، الطبعة الأولى 2009، ص 51.
[23] – ندى عيد، الطباعة في لبنان، فصليّة «لبنانيّات» الجامعة الأميركيّة للعلوم والتكنولوجيا – بيروت، العدد الأوّل، شتاء 2015، ص 55 – 65.
[24] – استقدمها من فرنسا وبريطانيا (1857) بمبادرة فرديّة، وهي أوّل مطبعة مخصّصة فقط لطباعة «جورناله»
[25] – رأس مالها 30 ألف غرش، مع شرط في البند الثامن من الشراكة بينهما أنه: «لا يُسمح بطبع كتاب من دون أن يَكتب على كلّ مسودّة من كرارسيه أحدنا بطرس البستاني هكذا: «صح اطبع… أو فليطبع».
[26] – السلطان الـ 34 في بني عثمان (1876 – 1909).
[27] – قائد الجيش العثماني الفيلق الرابع في سورية ولبنان (1915 – 1917)، اغتيل سنة 1922 في مدينة تبليسي (تفليس).
[28] – في مؤتمر «سان ريمو» – ايطاليا 8 آذار 1920.
[29] – غسّان تويني، قرن من الصحافة في لبنان (1858 – 1958)، المؤسّسة اللبنانيّة للمكتبة الوطنيّة – بيروت، الطبعة الأولى 2010، ص 9.
[30] – أوّل رئيس للجمهوريّة (1926 – 1934) في عهده ألغي مجلس الشيوخ (1927)، استقال بعد تعليق الدستور.
[31] – فايق خوري، ذكريات صحفيّة خلال 50 سنة – بيروت، طبعة 1950، ص 55 – 56.
[32] – غلب الطابع الأدبي (بعد الطابع الديني) على جميع الصحف والمجلاّت والنشرات التي صدرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحلّت القصائد مكان الافتتاحيّات لشرح أهدافها والغاية من إصدارها.
[33] – قرن من الصحافة في لبنان، المرجع السابق، ص 76.
[34] – بطريرك الطائفة المارونيّة (1932 – 1955).
[35] – سبقه البطريرك الياس الحويك (1843 – 1931) في مواجهته المحتلّ العثماني، وفي مطالبته المنتدب بإعادة لبنان إلى حدوده التاريخيّة مؤسّسًا لاستقلاله التام.
[36] – المفكّر الايرلندي إدموند يُورك (1729 – 1797) سمّاها «السلطة الرابعة». تتصدّر قاعة المراسلين (الصحافيّين) في البرلمانات التي تجتمع فيها سلطات ثلاث تقرّر شؤون الناس، واعتبرها أكثر تأثيرًا من الأحزاب.
****
(*) مقدمة كتاب “الصحافة اللبنانية 1850-1943” الصادر حديثاً لجوزف أبي ضاهر.