“عموميات الإيمان تتجاوز خصوصيات الأديان”

نظمت الحركة الثقافية- أنطلياس وملتقى الأديان والثقافات  ودار نعمان للثقافة  ندوة في عنوان “عموميات الإيمان تتجاوز خصوصيات الأديان”، شارك فيها: العلامة السيد علي فضل الله، البروفسور جوليو تشيللوني، وأدارها الدكتور جان جبور. في ما يلي نص الكلمات:

د. جان جبور

لم أجد ما أبدأ به كلمتي أجمل من أبيات قالها أشهر المتصوفين، محي الدين ابن عربي :

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ

فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ

وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ

وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن

أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ

ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني

Auparavant, je méconnaissais mon compagnon

Si nous n’avions la même croyance.

A présent, mon cœur est capable de toute image :

Il est prairie pour les gazelles, cloître pour les moines,

Temple pour les idoles, Kaaba pour les pèlerins,

Tables de la Thora et livre saint du Coran.

La religion que je professe

Est celle de l’Amour.

Partout où ses montures se tournent

L’amour est ma religion et ma foi.

حين نتأمل في أحوالنا يؤرقنا ما نحن فيه من تعصّب جنسي وعِرقي ووطني وديني، وما نحن فيه من تنابذ وإقصاء، ومن ادّعاء امتلاك الحقيقة وحبّ السيطرة. وغالباً ما يحدث ذلك باسم الدين، حين نحوّل البُعد الشرائعي الى جدار سميك يحجب عنا البُعد الإلهي. هذا البُعد الذي يجعل المؤمنين بشرائع مختلفة يأتلفون في كونهم عِباداً لإله واحد، إله لا يقبل من المؤمنين به لا ظلماً ولا عدواناً، لا يقبل الفجور والفتنة. تغليب البُعد الإلهي يبني مساحات مشتركة، فيما التقوقع في المذاهب والأطر الضيقة يشوّه نقاء صورة الله. من هنا تعثّرالأديان في تحقيق العدالة للبشر وفي الدعوة الى المساواة والانفتاح واقامة العلاقات الانسانية التي تتخطى حدود الجغرافيا والقوميات. باسم الأديان ترتكب الجرائم المخالفة لحقوق الانسان والقيم الأخلاقية والعقل وعدالة الله، بينما يُفترض أن تكون رسالتُها الدعوة الى المحبة والسلام والخير.

لقاؤنا اليوم إذا يتمحور حول الإيمانالنقي وفضائه الرحب.الإيمان هو مسار الروح نحو الله وعلاقة سرية خفية تربط الخالق بالمخلوق. هذه العلاقة لا تتأطّر بهُوية دينية محددة، بمعنى أن الشعور بمحبة الله ليس له اسم ديني سواء كان اسلامياً او مسيحياً او يهودياً أو غيره. هذا الإيمان يوحّد بين البشر جميعاً، ويحرّرهم من الارتهان للأحكام والشرائع، ويربطهم بهدف واحد مشترك هو محبة الله. الإيمانشعور انساني عفوي ينطلق من الأعماق بلهفة وشوق نحو المحبوب الأعلى وسر الأسرار، ذاك الذي “يُطلع شمسه على الأشرار والأخيار، ويُنزل غيثه على الأبرار والفجّار”. الإيمان الحق هو رؤية الله في كل شيء ورؤية الأشياء من خلال عيون جديدة تريان من خلال نور الله وجماله.

ومن الأجدر بالكلام عن هذا الإيمان الصافي المتحرّر من القيود، أكثر من شخصيتين بارزتين جسّدتا بالقول وبالفعل أن الإيمان الرحب يتخطى كل العوائق ويجعلنا ننظر الى البشر أجمعين على اختلاف انتماءاتهم أنهم “ابناءَ الله يُدعون”.

سماحة السيد علي فضل الله حامل إرث السيد محمد حسين  فضل الله ورئيس مجلس أمناء مؤسساته

  • تتلمذ في الدروس الحوزوية على يد والده المرجع السيد محمد حسين فضل الله
  • محاضر في الفقه والأصول والحديث والأخلاق في المعهد الشرعي الإسلامي .
  • باحث في الشؤون الفقهية والعلوم الدينية
  • إمام و خطيب مسجد الإمامين الحسنين (ع) حارة حريك، لبنان
  • عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
  • عضو المجلس المركزي لتجمع العلماء المسلمين في لبنان.
  • عضو المجلس العالمي لأهل البيت.
  • عضو المجلس الاستشاري للتقريب بين المذاهب الإسلامية في منظمة “الأسيسكو”.

شارك في مؤتمرات عديدة في لبنان والوطن العربي وأوروبا والعالم الإسلامي حول قضايا الوحدة و الوقف والتنوع والتربية والبيئة وغير ذلك ..

مؤلفاته

  • كتاب الجهاد
  • سلسلة مفاهيم إسلامية صدر منها أكثر من 30 عنواناً
  • أمناء الرسالة ومنارات الإنسانية
  • مناسباتنا.. محطات وعي الزمن
  • مدرسة البلاء في القرآن الكريم
  • ذكرى عاشوراء، عبر ودلالات
  • كلمات في الإنسان

Sayyed Ali Fadlallah, est le fils du haut dignitaire, l’autorité (al Marja ‘a) Mohammed Hussein Fadlallah. De ce père illustre il a hérité l’ouverture d’esprit, la tolérance et le pragmatisme. Sayyed Ali prend à sa charge la lourde tâche de poursuivre le chemin brossé par son père et de gérer les nombreusesinstitutions qu’il a fondées.

  • Maître de conférences en jurisprudence , Hadith et éthique à l’Institut islamique de la charia.
  • Imam et prédicateur de la mosquée Al-Imamayn Al-Hassanayn, Haret Hreik, Liban
  • Membre du Conseil d’administration de l’Union mondiale des Ulémas musulmans.
  • Membre du Conseil Central de l’Union des Ulémas Musulmans au Liban.
  • Membre du Conseil International de la Fondation Islamique et culturelle d’Ahl El Bayt.
  • Membre du Conseil consultatif pour le rapprochement entre les sectes islamiques de l’ISESCO.
  • A participé à de nombreuses conférences au Liban, dans le monde arabe, en Europe et dans le monde islamique sur des questions liées à l’Unité, Al Wakf, la diversité, l’éducation, l’’environnement, etc.

Ses œuvres

  • Le Livre du Jihad
  • Concepts islamiques
  • Al Bala’a dans le Saint Coran
  • Ashura, Leçons et connotations
  • Des mots pour célébrer l’humain

Professeur Giulio CIPOLLONE

هو أستاذ جامعي وباحث ومؤلف معروف، وعضو في أكاديمية Ambrosianaفي ميلانو.

-أستاذ تاريخ العصور الوسطى في الجامعة الغريغورية الحبرية، حيث تولّى فيها الى جانب التدريس مسؤوليات عديدة، منها الإشراف ما بين 1999 و2016 على مجلة Bibliographia Historiae Pontificiaeالتي تصدرها كلية التاريخ والإرث الثقافي للكنيسة؛ كما كان مسؤولاً عن مؤسسة “الأخلاقيات في العلاقات الدولية” في كلية علم الاجتماع، في نفس الجامعة.

-باحث في عدة مشاريع أوروبية ومشارك في عدة مراكز أبحاث، وله العديد من المؤلفات، نذكر منها :

*المسيحية والإسلام : الأسر والتحرير باسم الله، زمن اينوسان الثالث (بعد عام 1187)، والذي سيصدر هذا العام باللغتين الانكليزية والعربية، بعنوان : “عندما يتحدث البابا والسلطان بنفس لغة الحرب. التسامح والطريق الإنساني في زمن الجهاد والحروب الصليبية”؛

*الإيمان والديانات، الطرق الممكنة للسلام

*الكنيسة والنظام الدولي

*أخلاقيات المعلومات في العلاقات الدولية

وله العديد من الأبحاث التي نُشرت ضمن أعمال المؤتمرات الدولية التي شارك فيها، ومعظمها يدور حول العصور الوسطى والعلاقات بين المسيحية والإسلام، والحوار بين الثقافات والأخلاقيات في العلاقات الدولية.

كلمته اليوم هي بعنوان : “عموميات الإيمان تتجاوز خصوصيات الأديان”.

Giulio CIPOLLONE

-Membre de l’Académie Ambrosiana à Milan

-Professeurd’Histoire médiévale à la Faculté d’Histoire et du Patrimoine Culturel de l’Église, de l’Université Pontificale Grégorienne

-de 1999 à 2016 responsable de la Bibliographia Historiae Pontificiae Revue de la Faculté d’Histoire et du Patrimoine Culturel de l’Eglise de l’Université Pontificale Grégorienne

-Secrétaire de la Fondation “Éthique en Relations Internationales” à la Faculté de Sociologie de la même Université

-Chercheurdans des projets européens

-Il est membre et collaborateur de divers Centres de recherche et de diverses Universités ;

-Il est auteur et éditeur denombreuses publications; parmi autres:

*Christianisme – Islam, captivité et libération au nom de Dieu: l’époque d’Innocent III après ‘1187’,

*Foi et religions proximité et distance. Les possibles chemins pour la paix

*L’Église et l’ordre international

*L’éthique de l’information dans les relations internationales

-Il a à son crédit beaucoup de publications dans les actes des colloques nationaux et internationaux sur des sujets liés au Moyen Âge et aux relations entre le Christianisme et l’Islam, au dialogue culturel, la sociologie et l’éthique dans les relations internationales.

سماحة العلاّمة السيّد علي فضل الله

بعقل منفتح وقلب تغمره المحبة أتوجه بتحية صادقة تعبق بالسلام لكل العلماء ورجال الدين والأساتذة والمثقفين وللحضور الكريم، وخصوصاً للبروفيسور جوليو تشيبوللوني والأخ العزيز مصطفى جوني، والمؤسسات المنظمة في الحركة الثقافية أنطلياس وملتقى الأديان والثقافات ومنسقية شبكة الأمان للسلم الأهلي ودار نعمان للثقافة.

إن من دواعي سروري أن أشارككم اليوم في هذا اللقاء الفكري في هذا المركز الذي تحول فعلاً إلى منبر علمي تتداول فيه الإشكالات الثقافية والدينية والاستراتيجية نخب من أهل الفكر والثقافة في لبنان والعالم، ويقدم الطروحات الجديرة بالتأمل والتفكر والتي يمكن أن نستخلص منها أفكاراً قيمة ومقترحات صالحة لتقديم معالجة ناجعة لجملة من قضايانا ومشكلاتنا الصعبة والحساسة.

وهنا أراني في هذا المحضر الثقافي العلمي أكثر تحسساً للمسؤولية العلمية والفكرية والدينية بحيث يكون الخطاب خطاب العقل للعقل.. وخطاب الفكر للفكر وخطاب القلب للقلب بعدما ابتعدنا في هذا البلد كثيراً عن ذواتنا الحقيقية الأصيلة لحساب انفعالاتنا وغرائزنا وأنانياتنا التي تعمق انقساماتنا في حين أن العقل يهبنا الكثير من القواسم المشتركة، أما الإيمان فإذا أحسنا الالتزام بمقتضياته، فقد يقربنا من بعضنا بعضاً إلى حدود التماثل..

وفي هذا المجال لفتني عنوان اللقاء، وأبدي تقديري للخلفية الإنسانية التي أملت اختياره،,وللأهداف الأخلاقية والروحية التي يتوخاها من نزع عناصر الحقد والكراهية بين الأديان حتى تصل إلى تعميق المحبة والرحمة والأخوة بين جميع المؤمنين.

أيها الأحبة: لا شك في أن إشكالية العلاقة بين الدين والإيمان لا تزال مدار حوار شاق وسجال حاد على المستويين الديني والفكري في العالم، نتمنى أن يصل يوماً مع المتدينين الصادقين والمؤمنين العارفين إلى معالجة ما يراه الكثيرين منا من التباسات وتعارضات بين الدين والإيمان لمصلحة التآلف بينهما، وسوف أحاول بمقدار ما أتيح لي من الوقت تقديم مقاربة قد تلقي بعض الأضواء التي تحاول نزع العديد من التعقيدات التي تحملها هذه الإشكالية.

في تعريف الدين، الذي تمثله الأديان التوحيدية، الدين هو مجموعة التعاليم الإلهية التي جاء بها الأنبياء والموجودة في الكتب السماوية الثلاث، وهو يطرح رؤية شاملة للإنسان والحياة والعالم، تنظم للإنسان حياته في جميع أبعادها وميادينها، وتمنحه القيم والمعايير التي تضمن اقتراب الإنسان من الله ومن الحقيقة والخير والسعادة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وهذا الدين الذي تمثل في رسالات الله المتعاقبة، وكون مصدره الله.. هو في جوهره دين رحمة ومحبة وخير وعدالة ورفق بكل البشر، ومقاصده أخلاقية وروحية وإنسانية، لا يميز بين أحد من مخلوقاته، فرسالاته “رحمة للعالمين” ــ، “والخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله”، أما الإيمان التمسك بهذا الجوهر للدين، وهو المشترك بين الأديان وامتلاء القلب بالخير والحب والرحمة وامتلاك الحساسية الفائقة تجاه العدالة والحرية والأخوة والمساواة الإنسانية، ومن ثم العمل وفق هذه القيم، لبناء تعايش صادق بين الأديان ومواطنة حقيقية تحفظ كرامة الإنسان وحقوقه.

على أن ثمة مسألة حساسة يمكن ان تشوش وتؤثر سلباً على الالتزام الحقيقي بالإيمان وبالقيم الدينية، وهي تتصل بموضوع الخصوصيات الدينية وفي الواقع فان الاختلاف التي تولده هذه الخصوصيات من منظومة العبادات او منظومات الحلال والحرام أو بعض المفردات الاعتقادية ، هي قضايا لا تستدعي في شكل عام أي صراع حولها، غير أن ثمة نصوص دينية ملتبسة تتصل بالعلاقة بالآخر  قد تسمح للمصطادين بالماء العكر باستغلالها لخلق هوة بين الأديان والتعايش السلمي والرحيم بينها، وهي التي تفسر حالات التعصب والتميز والكراهية ليس بين اتباع الأديان فحسب بل بين اتباع الدين الواحد أو المذاهب الواحد.

السبب الرئيسي، للانقسام الحاد في اعتقادي، هو العبث البشري بمثل هذه النصوص وقد يكون أحياناً عبثاً غير مقصود يتصل بقصور في فهم هذه النصوص من خلال عدم ربطها بسياقها أو ظروفها أو من خلال تأويلها الحرفي والشكلي بعيداً عن جوهر الدين والمعنى الإيماني والأخلاقي له. قصور يتمظهر في التعامل مع النص بطريقة تجزيئية لا بطريقة تكاملية، تأخذ الجزء ولا تنظر إلى الكل، تهمل الجوهر وتتمسك بالمظهر، تغيب الأهداف والمقاصد وتستغرق في بعض التفاصيل..

هذه المسألة لا تختص بالدين ولا بدين دون آخر.. فقد ابتليت جميع المعتقدات والأيديولوجيات والأديان بهذا اللون من الفهم الديني..

الحركات المتطرفة في الأديان تأخذ بهذا الفهم المجتزئ الذي يتعامى عن كل ذلك، في الإسلام تستند هذه الحركات إلى نصوص دينية تشير إلى أن العنف هو الأساس في التعامل مع الآخر، وأن ليس لدى الآخر سوى الاختيار بين الانتماء للإسلام أو القتل، في تناقض مع النص القرآني:{ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ }{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}..وعن الحقية القرآنية بأن العنف لا يجوز استخدامه إلا بعد استنفاد كل وسائل رد العنف والعدوان.. وأن {.. مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}.. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}..

إن مثل هذا الفهم، أو هذا الاجتهاد، أو هذا اللون من التدين.. أو هذه الثقافة الدينية، وكل هذه المصطلحات والمفاهيم التي هي تعبير عن مضمون واحد، لا علاقة لها بالدين الذي أنزله الله تعالى للبشر.. وهي لا تحمل أي طابع للقداسة.. المقدس هو الدين، ولا شك أنه مع هذا الفهم للدين يتشوه الإيمان بمعناه الروحي والأخلاقي والإنساني، والذي أرى أن عنوان المحاضرة يشير إلى هذا المعنى للإيمان..

إننا نعتقد أن الفهم الديني بقدر ما يقترب من قيم الرحمة والمحبة والعدالة والخير والمساواة هو يقترب من الدين الذين أنزله الله، وبالتالي يقترب من الله بالمعنى الذي يحول هذا الاعتقاد إلى إيمان يفيض رحمة ومحبة وعدلاً وخيراً واحتضاناً لكل مخلوقات الله، وإلى عيش لمعنى الإخوة الإنسانية؛ عن علي بن أبي طالب: “الناس صنفان: أما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”..

من هذا المنطلق، نحن نرى أن هذه المعاني الإيمانية الأخلاقية هي التي ينبغي أن تحكم فهمنا للدين، وأي فهم قد يتناقض مع هذه القيم يتحول إلى فهم مشوّه لا بد من مراجعته وتصويبه، فليس كل فهم تحكمه المعرفة الموضوعية.. بل هو يخضع في العادة لثقافة الإنسان ومعارفه، أو لآراء مسبقة ولمؤثرات تاريخية، وقد يولد في ظل توترات نفسية وتعقيدات فكرية سياسية قائمة على أساس مواجهة الآخر، وهذه الأمور غالباً ما تؤثر في الفهم..

ومهما يكن من أمر،  فإنه لا بد من بحث المفردات الدينية، التي نختلف حولها، وأن يتفهم كل منا غيره في قناعاته، ليكون الحوار.. والجدال بالتي هي أحسن هو السبيل للتعامل معها في نهاية المطاف..

وفي هذا الفضاء الأخلاقي ــ الإيماني الذي تشيعه رسالات الله، والذي نريد أن نعيش في ظلاله يتحرر الإنسان من كل ألوان التعصب لحساب الانفتاح، وتتراجع نسبة مزاعم احتكار الحقيقة وإدعاء النطق باسم الله لمصلحة التواضع المعرفي والإقرار أن لا فهم بشري معصوم أو منزه عن الخطأ.. قد يقال هناك ثوابت دينية وهي جليّة وواضحة في كل دين.. ونحن نعترف بذلك لكن المساحة الأوسع من النص الديني خاضعة للفهم البشري ولاجتهاد العلماء، وبالتالي فإن المعرفة هنا هي معرفة نسبية..

ومن جهة ثانية فإن هذا الالتزام الأخلاقي ــ الإيماني يقتضي من قبل أن أحكم على الآخر بأنه على باطل، أن أتعرف على الآخر.. أن أفهمه أن أحاوره.. أن أقرأه بشكل موضوعي، وأضع على مشرحة النقد تلك الصورة النمطية السلبية التي يرسمها أتباع كل الدين للدين الآخر، وعندما أعرف الآخر على هذا النحو سوف أعترف بأن الآخر يمتلك نصيباً مهماً من الحقيقة، وأن له حظاً كبيراً من الإيمان، ما يدفع إلى انفتاح العقول والقلوب على بعضها، وتأتي الكلمة السواء لتجمعنا على العمل سوياً على عمران الأرض بالخير والمحبة..

ثمة مسألة أخرى تتصل بقضية العبث بالدين، وما يؤدي إليه من التباس في العلاقة بين الدين والإيمان، وهي مسألة التوظيف السياسي أو الاجتماعي للدين.. ومصدر الخلل هنا الأهواء والأنانيات، وهو علامة على ضعف الإيمان وتراجعه، هنا قد تكون ممتلكاً لمعرفة دينية صحيحة، لكن المشكلة في إيمانك.. هذه المشكلة تشوه معنى الدين، ويأتي التشويه هنا مقصوداً، لا على غرار التشويه السابق المتعلق بالفهم والاجتهاد، وهو ربما غير مقصود، ومصدر التشويه واحد هو السياسة، السياسة بمعناها الانتهازي لا بمعناها النبيل الهادف لتحقيق العدل، بل السياسة الهادفة لتحقيق الغلبة على الآخر، أو لتحسين المواقع للمساومة مع الآخر والتفاهم معه من موقع أفضل..

أحد الأمثلة الصارخة على هذا التوجه استحضار النصوص الدينية التي تحمل في أحد معانيها تكريس الفصل والقطيعة بين الأديان، والتركيز عليها وحشد الجماعة الدينية واستقطابها في مواجهة الآخر حينما تتطلب المصالح السياسية ذلك، أو استحضار النصوص التي تحمل معاني التواصل والتواد والرحمة للدواعي السياسية نفسها التي قد تقتضي التفاهم.. هنا الدين لا يحمل أي معنى رسالي أو أخلاقي.. الدين هنا أداة.. الدين لخدمة مصالح فئوية.. يضعف الإيمان هنا لمصلحة الأنانيات والأهواء والمصالح.. فتغيب معاني الرحمة والمحبة والأخوة والعدالة التي يحملها مفهوم الإيمان..

هنا المشكلة مزدوجة.. مشكلة في هذه النصوص.. ومشكلة في حقيقة الإيمان..

في اعتقادي أن معالجة مثل هذه الإشكالية لا تقتضي منا التضحية بالدين لمصلحة الإيمان أو بالإيمان لمصلحة الدين.. المعالجة في تقديم فهم موضوعي لهذه النصوص، في القرآن الكريم الآيات التي تدين الآخر أو تدعو للقطيعة معه.. هي لا تدين دينه ولا تدعو إلى قطيعته.. إنها تدين اتجاهات ظالمة ومنحرفة يمثلها بعض أتباع هذا الدين، تماماً كما هناك آيات قرآنية تدين اتجاهات ظالمة ومنحرفة يحملها متدينون بالإسلام.. وفي القرآن ثمة الكثير من الآيات التي تدين المسلمين الذين لا يعملون بمقتضى الإيمان.. وهكذا نفهم الآيات التي تدين المتدينين على انحرافهم وظلمهم في كل دين، من الذين يبيعون دينهم وإيمانهم لمصالح خاصة {اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}..

وفي هذا المنحى نفهم الآيات التي تحمل معاني التواصل والحب ونزلت لتثني على المتدينين الملتزمين بالإيمان بمفهومه العميق {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}..

أما المشكلة في الإيمان، فهو حين يضعف ويسقط أمام اختبارات المصالح والمنافع الخاصة، وهنا تأتي المسؤولية للعمل على الذات من جديد لتصحيح العلاقة مع الله المحبة والرحمة والخير، أي العمل على الارتقاء أخلاقياً وإنسانياً، وعند ذلك يمكننا أن نصل إلى النتيجة التالية وهي أنه كما تصحيح الفهم الديني يصوب مسار الإيمان، فإن الارتقاء بالإيمان يجعلنا أكثر قدرة وحرية من إعادة تصويب فهمنا للنص أو الالتزام بمقتضياته، بما يفتح الأبواب الواسعة أمام عيش إيماني إنساني مشترك وفاعل ويقوم على السلام والأخوة والمحبة بين الأديان..

وفي الختام فإنني أعود لأؤكد أنه لا يجوز تحميل الدين مسؤولية أخطاء البشر أو انحرافاتهم أو عبثهم.. أدعو إلى فهم ديني يقوم على المعاني الأخلاقية والروحية والإنسانية للدين، فهم يصوب مسار الإيمان، ويتجلى إيماناً صادقاً وملتزماً بكل هذه المعاني، وإلى إيمان بعيد عن الفهم الذاتي والتجزيئي، وإلى خطاب ديني أمين على رسالة هذا الدين لا أن يحوله إلى أداة في خدمة مصالح فئوية أو للغلبة على الآخر..

كما أدعو إلى تحرير الدين من الطائفية والمذهبية ومن كل فهم عصبوي ينطوي على كراهية للآخر إلى درجة تكفيره.. وإلى بذل الجهود لاستعادة الجماعات الدينية من طوائف ومذاهب لاستعادة إيمانها وإنسانيتها وأخلاقيتها..

البروفيسور جوليو تشيبوللوني 

شرف عظيم لي دعوتكم إيَّاي إلى حضور هذا الحدث الثقافي؛ وأنا أشكر الأستاذ مصطفى جوني والمنظِّمين على هذا.

ويؤسفني عدم القدرة على التحدث بلغتكم الجميلةِ الثريَّة، وعدم القدرة على فهم الخطوط العديدة والقوالب الجميلة التي تجعل من أبجديَّتكم “هندسةً إلهية”، أو كما يقول ابن مقلة: “كلمات الله مُنزلة بتناسُبٍ إلهي”.

إن القراءة المتأنية للأحداث المعاصرة تقودنا إلى التفكير في الأسباب العميقة التي تدعمها وتغذيها. واحدٌ من هذه الأسباب، وله وزنٌ حاسم، يأتي من الواقع الثقافي لتصور الآخر المختلف عن الجماعة، والذي يستقي من الإرث التاريخي دعمه وتغذيته. من الحقائق التاريخية تُستَمدُّ أسباب وذرائع العيش في سلام والتعايش في سعادة، أو في الحرب وفي التهالك المستمر الذي يجلب الخوف والشك.

ويواجه موضوع هذه المحاضرة مادةً واسعةً من الدراسة والبحث، مِن مِثل الأنثروبولوجيا والفلسفات اللاحقة والنظريات اللاهوتية، وجذور ممارسة التسامح وممارسة التعصب، ومفاهيم الثقافات والحضارات، وقيمة التاريخ والتأريخ، وما إلى ذلك.

وفي الوقت المُتاح لي، ولِضرورة ترك مساحة من الوقت للحوار، ممَّا سيُثري كلماتي قطعًا، لا بُدَّ لي من أركِّزَ على بعض عناوين:

1- الإيمانُ يَحتَوي –  فليسَ هناك تعصُّبٌ بِاسم الله

2- الدين يُقصي –  ففي جميع الأديان ثمَّةَ خطرٌ من التعصُّب ومن ممارسته

3- “حتَّى ولَو بطريقة أخرى”، “من أجل الصالح العام”؟

4- مُعتَرِضو الضمير والنقد الذاتي

5- البديل: المؤمنون العدول منتشرون بين الأمم

المقدمة

تسكن الكلمة في منتصف الطريق بين ناطقها وسامعها، ولذلك وَدَدتُ لو كان ما نقوله اليوم هو “كلماتنا”. اسمحوا لي أن أبدأ بتوضيحٍ، وبسؤالين مثيرَين للنقاش.

من السهل إدراك حقيقة أنه من قبيل الصدفة البحت لأي مسيحي أنه لو كان قد ولد في مكة المكرمة لأصبح “على نحوٍ طبيعي” مسلمًا، وأن المسلم لو كان قد ولد في روما لأصبح “على نحوٍ طبيعي” كاثوليكيًّا، أو ولد في نيودلهي لأصبح هندوسيًّا، وإن هو ولد من أبوَين يهوديَّين لأصبح يهوديًّا.

ونسأل: ما الفارقُ بين يهودي يَقتل، أو مسيحي يَقتل، أو مسلم يَقتل؟ لا فارقَ، فالثلاثةُ مُجرمون. وبالمِثل، إذا كان على اليهودي أو المسيحي أو المسلم أن يختار صديقًا يمنحه الثقة المطلقة من بين أبناء دينه، ولكنَّ هذا الصَّديقَ بلا شرف، أو أن يختار صديقًا من أبناء دين مختلف عن دينه، ولكنَّه شريف، فمن عساه يختار؟  من المؤكد أنه سيختار الشخصَ الشريف.

1- الإيمانُ يَحتَوي –  فليسَ هناك تعصُّبٌ بِاسم الله

الإيمان يشير في الغالب إلى الانضمام إلى مشروع يأتي من “خارجنا، ويشير إلى العلوي/ إلى الله في سياق الخير الشامل، من حيث أن جميع الخلق هم من عمل يديه، ومن ثَمَّ، لا وُجودَ لتعصُّبٍ في ما هو من عمل يدَي الله.  إننا نجد في سفر استير أنَّ الله وبَّخ الملائكة الذين صفقوا لسقوط المصريين في البحر، حيث ابتلعهم البحر الأحمر، قائلا: “ما سقط هو عمل يدي وأنتم ترغبون في غناء أغنية المجد؟” وعلاوة على ذلك فالإيمان يعود إلى “مجموعة من الأشياء التي ينبغي أن نؤمن بها”، وهي ترتكزُ على نحوٍ حاسم إلى “وحي كلمة الله”، وجمعُها “كلمات الله”.

يبدو الإيمان مثل اليقين في الضمان الإيماني، والذي يسمح بالإيمان بكلمات الآخر. هذا، والإيمانُ يقاس بتاريخ الإيمان.  وإبراهيم، أبو المؤمنين، هو الأُنموذجُ، لأنه في اختبار الطاعة ترك نفسه بإيمان كامل بالله “ضد أي أمل”. ومن هنا، وللأهمية المطلقة، ينطوي الإيمان على الالتزام الكامل به، ليمتدَّ إلى كلِّ لحظات الوجود.

والإيمان في متناول الجميع، بما يتجاوز الثقافات وينفتح على الحضارة والأخلاقيات العالمية، حول مُثُلٍ عُليا مركزية.

الإيمان، بمعناه الأعم، يدل على تلك الأشكال من المعرفة التي لا يمكن أن تكون مضمونة لا بالمتابعة الإمبريقية ولا بالعمليات العقلانية. وبين أوصاف أخرى ممكنة، يُقصدُ بالدين أنه “نظام اتفاقي من المعتقدات والممارسات لها الصلة بأشياء مقدسة”. ومن هنا كانت الحاجة لتمييز هذه “الأشياء المقدسة” عن المواقف التي تحيل إليها، باختبار هذه “المعتقدات والممارسات”، وباعتبارها حقائق تتطور في التاريخ. وأخيرًا، إن الإيمان أيضًا يُقاس بجَدليته في إطار عملية الإيمان التي تطرح نفسها باعتبارها ثقةً في الله والتزامًا شخصيًّا يُظهر حقيقة “معرفة الله” في جميع مراحل الحياة. إن المعنى الذي نجده في الإنجيل هو معنى متميز: فالمسيح قد عثر على الإيمان الأكبر في قائد المائة الروماني الذي، على الرغم من تعدُّد الآلهة التي كان يعبدُها، كان مُتَديِّنًا.

ومن ثَمَّ، فإن الإيمان هو، بمعنى ما، الفرضيةُ المضادة للحقيقة المطلقة للديانات الفردية، حيث إنه عموميُّ الطابع، وشاملٌ بالكامل، ومهيَّأٌ للتعايش السلمي. وأما الأديان فهي على العكس من ذلك، إِذْ، نظرا لأنها نظام ثقافي له خصوصيته بالضرورة، فإنَّها تفرض ترسيما للحدود بين ما هو داخل وما هو خارج هذه الثقافة، وبالتَّالي، فهي تصلح لمناورة الإقصاء والتشدد والخضوع الثقافي.

ويستند الإيمان على العلاقة والاحتواء. ونستطيع أن نقول إنه في البدء كانت العلاقة، ولم تكن الوحدة ولا الإقصاء. والعلاقة احتواء وشمول تجعل منا بشرًا.

2- الدين يُقصي –  ففي جميع الأديان ثمَّةَ خطرٌ من التعصُّب ومن ممارسته

تعبر الأديان عن ثقافات، وتتأثر بحكم تكوينها بالخصوصية والإقليمية، إن لم تكن بالمحلية.  وكل دين يحصي أعضاءه أو أتباعه، ويهيِّئ لهم نظامًا ثقافيًّا قوامه “نحن” و”الآخرون”، و”الداخل” و”الخارج”، ومن ثم يُشرِّع نظام الحواجز التحفُّظيَّة ويمنع عن نفسه التأثُّر بالغير. والحواجز التي يمكن فتحها أو تجاوزها هي فقط حواجز المصلحة الخاصة بكل مجموعة دينية أو للاستعمار أو التوسع. وفي حين أن ثقافة الإيمان تنطوي على الحاجة للتبادل والتخصيب المستمر، فإن ثقافة الأديان بما تشمل من مسلَّمات تفرض الانغلاق، والحذر، وصيغة المختلِف عنَّا، والذي يتحوَّل بعد ذلك عدوًّا، لأنه عدوُّ إلهنا. ومع أنها عملية صبيانية مثيرة للشفقة، غير أن الملايين من أصحاب الدين الواحد ينضَوون تحتها.

ولكن، عندما يثبت أن الإيمان حقيقة مختلفة عن الدين، يصبح من الممكن قراءة الأديان على أنها شأنٌ ثقافي. من الصحيح التأكيدُ على أن الدين يتم وضعه بصورة مباشرة داخل الثقافات، ولهذا يُعتبر ظاهرة توسطية ومتغيرة بالنسبة إلى الخبرة الجوهرية للمؤمن، والذي يُعَدُّ كذلك، أي يُعَدُّ مؤمِنًا، ليس بفعل الدين وإنما بدافع انتمائه للإرادة الأساسية والمؤسسة لحياته وَفقًا لقواعد العدل التي تشترك فيها الأديان الثلاثة.

ومن الناس مَن يقصد بالدين مجموعة من المعتقدات وطقوس العبادة التي تعبِّر عن علاقة الإنسان بالمقدس وبالإله. وتعتمد هذه العلاقة في الأساس على الخلفية الثقافية التي يكوِّنُها منذ لحظة ولادته، ففي مرحلة نموه المبكرة. ومن الواضح أن الأنساق الثقافية الخاصة تؤثِّر في “التعبير” عن التدين وتفرزه وَفقًا لخصائص تجسُّدها، في كل ثقافة على حدة.

الدين مختلفٌ عن الإيمان، والحقيقة أنه يوجد دينيُّون بلا إيمان، دينيُّون مُلحدون، بلا إيمان.  ويسجلُ لنا التاريخ دينيِّين ومجرمين في الوقت عينِه. وعلى العكس من الإيمان، يحيلُ الدين إلى مجموعة من الصيغ والطقوس والمعتقدات وأشكال العبادة.

“الأخلاقيات الخاصة”، مع التصورات المختلفة للخير والشر، تسقط في الخاص مرجعًا عامًا للأخلاق والقيم المشتركة التي تتقاسمها أو التي يمكن أن تتقاسمها البشرية جمعاء.

عندما قارنتُ بين رسائل صلاح الدين والبابا إينوسنت الثالث اكتشفتُ نتيجة صادمة جدًّا، وفي الوقت نفسه مثيرة للاضطراب: فكلاهما استخدم الكلمات نفسها واللغة نفسها لإضفاء الشرعية والترويج للحرب المقدسة: الجهاد والحرب الصليبية.

3- “حتَّى ولَو بطريقة أخرى”، “من أجل الصالح العام”؟

ومن بين الأمثلة الأخرى، رسالة البابا غريغوري السابع التي وجهها عام 1076 / 468 هجرية إلى الناصر أمير الحماديين (1062-1082)، حاكم بجايا. في هذه الرسالة نجد معنى لا يقلُّّ في تفرُّده عن ندرته، ووَفقًا لهذا المعنى فإنه “حتى ولو بطريقة أخرى” فإن المسيحيين والمسلمين يسبِّحون الرب نفسه ويعبدونه: “لأن الله سبحانه وتعالى، الذي يريد أن يحفظ جميع البشر ولا يريد لأحدهم أن يهلك، أكثر ما يرضيه فينا، أن يحب المرء الآخرين، بعد حبه له، وأن لا ما يرضاه المرء لنفسه لا يرضاه لغيره. هذا الإحسان ينبغي علينا وعليكم على وجه الخصوص أن نمارسه تجاه الآخرين، فنحن الذين نؤمن ونعترف بإله واحد، وإن كان ذلك بطريقة أخرى. الله الذي نسبح بحمده ونعبده كل يوم، رب العالمين وملك هذه الدنيا”. إن المعنى غير العادي للبابا غريغوري السابع، في رسالة رسمية إلى أحد أمراء شمال إفريقيا، حتى قبل اندلاع الحروب المقدسة، الحروب الصليبية: “شاء الله” أو الجهاد “في سبيل الله”، تظل صفحة مضيئة في الدعوة إلى السلام والتعاون.

“إن أعمال الرحمة تتفق على المسيحيين وغير المسيحيين (المسلمين)”. ووَفقًا لإينوسنت الثالث، فإن أعمال الرحمة “لها منفعة مشتركة للمسيحيين ولغير المسيحيين”. وهو يُعرب عن أفكاره في الرسالة الأولى التي أرسلت إلى واحد من أهم أمراء المسلمين وهو أمير المؤمنين. الرسالة مؤرخة بتاريخ 8 مارس 1199 الموافق 8 جمادى الأولى 595 هجرية، والمتلَقِّي هو أبو عبد الله محمد الناصر أمير المؤمنين، أحدُ الأباطرة ورئيسُ الموحِّدين الذين كانوا يسيطرون على شماليِّ إفريقيا من تونس وحتى المحيط، وإسبانيا المسلمة كلِّها.

بيتُ القصيد من هذه الرسالة هي أعمال الرحمة التي طرحها إينوسنت الثالث كبرنامج دولي لخدمة الإنسانية صممها المعلم البروفنسالي يوحنَّا، وهو مؤسس طائفة المثلثين غير المسلحين، المخلصين للأسرى المسيحيين والمسلمين. فإنه، من بين أفعال الرحمة التي أوصى سيدنا يسوع المسيح بها على المؤمنين بالإنجيل، تُعَدُّ فديةُ الأسرى من الأمور الهامة”. ويسمح بتحرير الأسرى المسيحيين والمسلمين من طريق التبادل، بإلغاء القانون الساري الذي كان يحرِّم، إلى حدِّ الطرد من الكنيسة، كلَّ من كانت له علاقة تجارية أو استشارية مع المسلمين، على النحو الذي يقرره مجلس لاتيرانو الثالث (القانون 24)، والذي تمَّ تناوله مرة أخرى في مجلس لاتيرانو الرابع، وظلَّ ساريَ المفعول طيلة القرون التالية.

4- مُعتَرِضو الضمير والنقد الذاتي

شوَّهت استراتيجيَّات السلطة واستخدامُ القوة الغاشمة كلَّ ما هو مضيء في التوراة والإنجيل والقرآن، وعقّدت سهولة وبساطة الإعلان العالمي الجذري والشامل للسلام والأخوَّة من خلال الاختراع البشري للتشبث والتحيز والتذرع والتعصب. ومع ذلك، فعلى مدى تاريخ البشرية المؤمنة، تاريخ البشر من أصحاب القلب الصادق والنية الحسنة، ومع تجاوز الحدود الزائفة والمصطنعة للأديان، نجد أنبياء وزنادقة عزل إجماليون (يؤمنون بالتعددية) يرفضون العنف في اعتراض مبارك للضمير. مباركٌ هو بالطبع، أقولُ، لأنه نابع من وحدانية صحيحة، ربما كانت مرفوضة، بل وملعونة من جانب القوى الدينية الدينوية. وقبل وقت طويل من التنويرية أو عصر التنوير، وجدنا أناسًا يبتعدون علنًا عن التوجيهات المركزية الثقيلة الصارمة لمراكز السلطة. ومن بين الاقتباسات الممكنة الأخرى تلك التي يمكننا أن ننقلها عن أنبياء معاصرين لزمن الحروب الصلييبية، زمن قداسة العداوة وقداسة الحروب وقداسة الشهداء بسبب الدين. وهي اقتباساتٌ لأناس يغنُّون بروح الشاعر وروح الحالم المتعطش للأمل، بعيدًا عن الضيق العقلي للسلطة المركزية، بل وحتى السلطة الدينية، للتعصب المعلن والحرب التي يروج لها.

إن القدرة على النقد الذاتي هي من بين أعلى علامات الذكاء البشري. والمقارنة الآن مع “الآخر” تسمح بالإثراء غير العادي لعمليات النمو الفردي والجماعي، تمامًا كما يلاحَظُ ثراء الدم بعد تغييره من خلال الخلط والتهجين لتعزيز قوة الدم البشري. إن المجموعة الضيقة المغلقة، حتى ولَو كانت بين الفراعنة وفي أسرة الفراعنة، تنتج وحوشًا، لأنها ليست منفتحة على التغيير.

وإنني، عندما تعاملت مع آلاف الرسائل الخاصة بالباباوات، وجدت نفسي سعيدًا بتدوين ملاحظات حول عدد المرات التي واتَتِ الشجاعةُ فيها الباباوات لوصف وتعريف المسيحيين: إخوانهم في الدين واتباعهم، “هم أسوأ من المسلمين/ من الكفار”، وهذه مقارنة من بين مقارانات عديدة أخرى تحقيرية.  لقد بدا أن بعضًا من الأخوة في الدين أسوأ من الأعداء.

5- البديل: المؤمنون العدول منتشرون بين الأمم

ظلتِ البدائل طوال التاريخ موجودة وجودًا منيرًا، وأعني بالبدائل صُنَّاع السلام، خلف أسوار الأديان، هولاءِ الذين يتحمَّلون عواقب فِعلهم. إنهم بُناة السلام، وهم مختلفون عن دُعاة السلام.

طوال قرون التاريخ، وبخاصةٍ في عهد صلاح الدين الأيوبي والبابا إينوسنت الثالث (1187-1216 / 583-613 هجرية)، كان التعصب يتغذى على التقاعس عن العمل، كما كان هناك أيضا التسامح الذي يطرح بديلاً عن سياسة مراكز السلطة الدينية.

وبصرف النظر عن صَلَف تدين السلطة المركزية، فضلاً عن التعصب، كان هناك الحس السليم للمؤمنين، ولكل منهم ثقافته الدينية الخاصة، التي تنشد الأعمال الإنسانية والتضامن وخدمة الإنسانية كبديل للخدمة العسكرية، والتعايش مع “المختلِف” بدلاً من تهميشه والقضاء عليه بأي ثمن.

هؤلاء المؤمنون، كلٌّ بحَسَب إيمانه، ومن حدود أوسع من تلك التي تفرضها الحواجز الدينية، قد اتخذوا طريقًا آخرَ مخالفًا توجيهاتِ السلطات الدينية المركزية في الأديان السماوية الثلاثة. وثمَّةَ أكثر من حالة لأمثال هؤلاء، مِن مِثل فالدو ووالتر ماب واسحق ديللا ستيللا ورودولف النيجر وفولفرام فون ايزنباخ، وهم من المعترضين الذي ترك اعتراضهم الضميري أثر. ونستطيع أن نضع معهم حسين بن منصور الحلاج، وجلال الدين الرومي، ومحيي الدين بن عربي، وجودا البيو واسحق بن ميميون وجوفاني دي ماثا وفرانشيسكو الأسيزي.  لقد اتخذت هذه الشخصيات طريقًا آخرَ مختلِفًا ممَّا طُلب إليهم، أو فُرض عليهم، من قتل العدو الذي تبنته شعارات “شاء الله” أو “في سبيل الله”، ولكن اعتراضهم الضميري تحوَّل معارضةً وهرطقةً وصلت إلى حدِّ الانشقاق. وقد أعادوا تفسير الشعار حتى أصبح “الله لم يشأ” و”ليس هذا سبيل الله”.

الخلاصة

من دون قواعدَ أخلاقيَّةٍ مُلزمةٍ عالميًّا، بل من دون مسلَّمات فرضتها “نماذج عالمية” مثل الديانات والقوميات، هناك مخاطرة تؤدي إلى أزمة قد تؤدي إلى الانهيار. إن الأخلاق، أو الإيمان بقيم عامة لا يحول دون القيم الخاصة، ولكنها تحوِّلها مشروعًا عالميًّا، لخير البشرية جمعاء، وليس لمجموعة واحدة دون سواها. وليس هناك نظام عالمي أو قانون للحياة بلا مُثُل عليا.

ولا يزال الرأي ساريًّا إلى اليوم في أن التسامح والحوار والتعايش السلمي، والحياة المشتركة المفتوحة على محاكاة أعمال العدالة والمساواة يمكن إعادة اكتشافها من خلال مبادئ الأخلاق العالمية، ويمكن تنفيذها كبديل للنمو الثقافي. وتنتمي هذه العملية، بطبيعة الحال، إلى مستوى الإيمان، أكثر مما تنتمي إلى مستوى الأديان، أو مستوى العلمانية بما تحمل من إمكانات منطقية، أو على مصالح الإلحاد الشرس الذي تبلغ شراسته حد الطائفية والتعصب. ومن المفيد للغاية أن نشير إلى أن ظاهرة المؤمنين العدول منتشرة بين الأمم بما يجاوز حدود أديانهم، وبما يستعيد معنى العالمية المشتركة لصالح العدل والسلام، من أجل إثراء مطمئن ومتبادل، يضفي الشرعية على حلم التعايش السلمي الأكثر قناعة والأكثر عالمية.

إن القراءة الحالية للأديان في العالم المعاصر يشعُّ منها بقوة الإرثُ التاريخي، وليس من النادر أن تكون وطأة تاريخ العلائق من صنع الأفكار المسبقة وذرائع العدوان وتعديات الحروب الدامية الصارخة. والقراءة السطحية لمفهوم “التدين” لدى الطرفين والتي تغذي تعديات الحروب في زمن الحروب الصليبية والجهاد، واللذَين يتشابهان على نحو فاضح في نظاميهما، تبدو نموذجًا وغواية حتى اليوم. ومن هنا يبدو من الضروري إعادة قراءة التاريخ، وقراءة التاريخ معًا، وإعادة كتابته معًا، لإعادة تصميم المستقبل معًا. خطورة التاريخ باعتباره “معلم الحياة” وخطورة التاريخ باعتباره “معلم الموت” تداهمنا اليوم، والأولى هي الأمل، فيما الثانية هي الكابوس!

وفي ضوء المستقبل على وجه الخصوص يتعلق الأمر باستعادة الإيمان بتجاوز الأديان وبما يلزمنا بأن ننخرط معًا في البناء المشترك. لقد كان المؤمنون موجودين، ولا يزالون، بما يتجاوز الدين الخاص بكل منهم. ومُعترضو الضمير، شخصياتٌ ناقدةٌ كلَّ أشكال الظلم واللجوء إلى العنف، وصانعةٌ السلامَ عن اقتناع، وهم بُناةُ سلام مختلفون عن دُعاة السلام.

في عصرنا الحالي (2018-/1439/40 هجرية) والذي سجل إحالات خاطئة ومسيئة تشرك الله في العنف والحرب، لا بد من التأكيد على بعض البراهين. فالبشر المنتصرون على بشر آخرين نجدُهم مُتعَبون مثل المهزومين، ولا يدرون إلى أي مدى هم فائزون. فليس في الله تعصُّب، والتعصُّب أمرٌ محضُ إنساني. والمستقبل على أي حال هو للحمائم وليس للصقور.

اترك رد