“شرفاتٌ… وقصائدُ!” مساحةٌ من الإطلالاتِ على إشعاعاتٍ فيها من الحبِّ بكلِّ وجوهِه.
سأتكلّمُ، في هذه المناسبة، على حبِّ الوطنِ والأرضِ عندَ ريمون شبلي، خصوصًا أنّ حديثَنَا عن هذا الكتابِ يأتي في هذا الوقتِ الانتخابيّ. وكما عاهدْتُ نفسي سابقًا لن أخوضَ غمارَ السياسةِ بلْ سأجولُ في آفاقِ العاطفةِ، والرؤيةِ، والمصيرِ، والأخلاقِ، والمبادئِ، والثّوابت. وانطلاقًا من هذه المعاني، أرى أنّ الشِّعرَ، إذا أحسنَ إبرازَها وضخَّها في النفوسِ، يكونُ قادرًا على تغييرِ الواقع.
في حِقَبٍ تاريخيّةٍ من لبنانَ جاء إلى السّلطةِ رجالٌ أدباءُ، وحافظوا على إرثِ لبنانَ الحضاريِّ والثقافيّ. وعلى صعيدِ الممارسةِ السياسيّةِ تَحلَّوا بروحِ التجرّدِ من الأنانيّةِ والفرديّةِ، وعمِلوا على ترسيخِ الوَحدةِ الوطنيّةِ بمواقفَ ومشاريعَ تَشهَدُ لهم إلى اليوم. وقاموا بلبنانَ الاستقلالِ، بلبنانَ الحرّيّةِ، بلبنانَ الرّسالةِ، وقالوا: “إنّهُ وطنٌ نهائيٌّ لجميعِ أبنائهِ. “ورَسَموا حدودَهُ وحافظوا على كلِّ حبّةِ ترابٍ من أرضِه. توالتِ العهودُ واضمحلَّ دورُ الأدبِ والشِّعرِ والفنِّ في النفوسِ والعقولِ، وتمَّ تهميشُ أهلِ القلمِ والرأيِ الحرِّ. وقامت فوضى الاستئثارِ بالسُّلطةِ والتّجديفِ والتّعامي على المبادئِ الوطنيّةِ الكبرى، والقِيَمِ الإنسانيّةِ الحقيقيّةِ، التي هي ضمانةُ التّواصلِ الزّمنيِّ بينَ الماضي والحاضرِ والمستقبلِ.
ألصّحيحُ أنّ الشِّعرَ هو، قبلَ كلِّ شيءٍ، تجربةٌ نفسيّةٌ لها أبعادُها الوجدانيّةُ والشّعوريّةُ، وهذا ما يحصُلُ عمومًا مع الشّعراءِ. ريمون شبلي شاعرٌ مشى دروبَ العنفوانِ حتّى يَخُطَّ لبنانَ الجمالَ، لبنانَ الكنوزَ الطبيعيّةَ والبشريّةَ والأثريّةَ، لبنانَ الأرضَ والإنسانَ والوجودَ؛
لا وجودَ لنا إذا خَسِرْنا أرضَنَا..
لا وجودَ لنا إذا خسِرنا إنسانَنَا..
هذه المعادلةُ هي التي تصنَعُ الأوطانَ.
وأتى ريمون شبلي من هنا ومن موهِبَةٍ مداها الأُفُقُ البعيدُ، وأملى علينا الشّعرَ كخليطٍ من زمانٍ ومكانٍ يشدُّنا إلى جذورٍ تأصّلَتْ في هذه الأرضِ الطيّبةِ، وكلُّهُ ثقةٌ بأنَّ “جولةَ الباطلِ لساعةٍ، وجولةَ الحقِّ إلى قيامِ الساعةِ.”
هذا الدّيوانُ “شُرُفاتٌ… وقصائدُ!”، في بعضِ ما تضمَّنهُ قصائدُ وطنيَّةٌ تبثُّ روحَ حبِّ الأرضِ. فالأرضُ، بالنسبةِ إلى ريمون شبلي، شوقٌ، وحبٌّ وخِصبٌ وقوتٌ. كتبَ ذلكَ بعزّةِ نفسِه الأبيَّةِ التي لم ولن تنالَ منها التلوُّثاتُ غيرُ الوطنيّةِ القائمةُ على الطّائفيّةِ والتّفرقةِ والمصلحةِ والغُشِّ والفسادِ. في قصيدة “أرضي الرَّفشُ والحُفَرُ”، يقولُ:
“ونحنُ نَبْني بأيدينا تَقَهْقُرَنَا،
وغَيرُنا يَغْتَني مِنَّا… ويَزْدَهِرُ” (ص 209)
لبنانُ التّلاقي والتّآخي مرَّتْ عليهِ مآسٍ وحروبٌ، وكانَ، في كلِّ مَرَّةٍ، ينفُضُ جناحَيهِ من الرّمادِ، وتتكرّرُ أسطُورَةُ طائرِ الفينيق. فلكلِّ بَطلٍ قاومَ وواجهَ الظُّلمَ والاحتلالَ والإلغاء، ولكلِّ جنديٍّ لبنانيٍّ، أدّى ريمون شبلي التحيّةَ بحبٍّ وفخرٍ وإيمانٍ بلبنانَ وأبطالِهِ وجيشِهِ. قال:
“والشّعبُ يهتِفُ: لا حريّةَ انْتَصَرَتْ
من دونِ جيشٍ، ولا أمنٌ ولا أمَلُ…
ولْيطْمَئِنَّ غدٌ.. لنْ ينحَنيْ وطَني
والجيشُ، في كلِّ شِبْرٍ مِنهُ، يَشْتَعِلُ” (ص 31-32)
أشارَ الشّاعرُ، في جَولاتِهِ في هذا الدّيوان، إلى زمنِ جدودِنا الذينَ اسْتنطقوا الصّخرَ بالحقِّ حتّى يشهَدَ بمرورِ من زرَعوا وتعِبوا. نحن اليومَ نحصُدُ بقاءَنا وإن كان يوجَدُ منْ يستخِفُّ بالأمانةِ، فما زالتِ الأصواتُ المـُشابِهَةُ صوتَ ريمون شبلي صارخةً في برّيّةِ هذا الوطنِ. وأتينا اليومَ نُطِلُّ، من شُرفاتِه، على ماضٍ جميلٍ نخافُ على مُستقبَلٍ قد يشَوِّهُهُ حاضرٌ نعيشُهُ، حاضرٌ مُؤسفٌ، مؤذٍ، مُمِلٌّ. وإذا كانت حُجّةُ هذا الحاضرِ، كما قالَ الشّاعرُ الفرنسيُّ لافونتين: “حُجّةُ الأقوى هي الفُضلَى”، فما أتعسَها قوّةً أو حُجّةً تقومُ على المفاسِدِ والمحسوبيّاتِ والخضوعِ والاسْتِزْلامِ والاستعبادِ!
ما يُخيفُنا هو الاستهتارُ بمَن هم أهلُ الفكرِ والعلمِ والمعرِفةِ واستبعادُهم عن مراكزِ القرارِ وتركُها للمدّعِين الجُهَّال.
ونسمعُ ريمون شبلي، بصرختِهِ الدالّةِ على حرّيتِهِ في النّهجِ والتفكيرِ والاعتقاد، يقولُ:
“واهْتِفْ: أنا ابْنُ بلادٍ لا انْتهاءَ لهَا
حقيقةً، طابَ فيها الحقُّ والخيْرُ” (ص 77)
أَ لَـمْ يَقُلْ جُبران: “رُبَّما أفضلُ شكلٍ من أشكالِ القِتالِ هو رسْمُ الصورةِ وكتابةُ الشّعرِ.”
وريمون شاعرُنا حَمَلَ القلمَ سيفَ حقٍّ، وسُلطةَ عدلٍ وجبهةَ رفضٍ وتمرَّدَ على كلِّ الواقعِ الظالمِ، وظهرَ ذلكَ جَلِيًّا في قصيدة “كفى”:
“لُفُّوا على الوطنِ الآتي سواعِدَكُم
مشدودَةً، والقلوبَ الحُمْرَ، والشَّغَفا
وأَيْقِظُوا الضَّوءَ في أعماقِكُم.. فغدًا
عَضُّ الأصابِعِ لا يستَرجِعُ السَّلَفا” (ص 214)
هاجسُ ريمون شبلي أن يبنِيَ أرضًا بَنَتْهُ، أرضًا تفاعَلَ معها وتفاعلَت معهُ، أعطاها وأعطَتْهُ. هذه الأرضُ أكرَمَتْهُ بموهبةٍ جُبِلَتْ مع تكوينِهِ، كَبُرَت مع تَوقِهِ إلى الحياةِ والحريّةِ. كَتَبَ ما كَتَبَ؛ تلاعَبَ بالنّارِ والنّورِ لتأتيَ كلماتُهُ مرآةً حقيقيّةً لمعاناةٍ تقذِفُ بنا إلى الهاويةِ إذا لم نتدارَكْها، هي بيعُ الأراضي، قال:
“هذي بلادُكَ… صُنْهَا صخرةً، وصدى
حرّيّةٍ قدَّسَتْها الكِلْمَةُ الأُولى!” (ص 155)
بَطَلُ ريمون شبلي في شِعرِهِ يَحمِلُ قِيَمَ الحنينِ والذّاكرةِ؛ أَ ليسَ مِنَ الأقوالِ: “مَنْ كانَ بلا حنينٍ فهوَ بلا ذاكرةٍ”. والذاكرةُ هي التّاريخُ والبقاءُ والاستمراريّةُ.
ويُطالِعُنا بقولِهِ عن بلدَتِهِ “ساقية المسك”:
” ساقيةُ المسكِ تنامُ في حنيني
تنامُ في عينيَّ، في يقيني…” (ص 37)
نحنُ نقولُ: ما أنتُم فاعِلونَ بأرضٍ أَحَبَّتْنَا، أطعَمَتْنَا، وحَضَنَتْنا ؟ كيف لكُم أنْ تُهِينوا مصدَرَ وجودِنا وبَتُوليّةَ أُمِّنا ونظافةَ دمِنَا ؟ نحنُ وريمون شبلي وكلَّ الأحرارِ الأصيلينَ من عروقٍ تغلي بالشهامةِ والمروءةِ والإنسانيّةِ والحرّيَّةِ والتضحيةِ والعطاءِ نقولُ: باللهِ عليكُم، أَزيحُوا عنّا مداميكَ الجهْلِ والتخلّفِ والغباءِ، فلبنانُ هو النّبوغُ، هو الإبداعُ، هو البطولةُ. في قصيدة “أَخْبِرْني عنِ الآنَا” يقولُ:
“فمَنْ يَـبِـِعْ أرضَهُ، “يوضَاسُ” سيِّدُهُ !
ولَعْنَةُ الدّهرِ لا تنسَاهُ أزمَانَا…
ألأرضُ نحنُ، ونحنُ الأرضُ…! واحِدةٌ
هُوِيَّتانا ؟ ارْتَفِعْ، تَرْفَعْ لها الشّانا” (ص 226).
إنّ الذي يبيعُ أرضَهُ يبيعُ ضميرَهُ، يَبيعُ شَرَفَهُ. وجَعُكَ أيُّها الشّاعرُ هو وجَعُ الصِّدقِ أمامَ الباطلِ، وجعُ العدلِ أمام الظُّلمِ، وجَعُ الغِنى أمام الفَقْرِ. وأنتَ تُتَوِّجُ شِعْرَكَ ببطولةٍ فيها من تراثِ بلدَتِكَ وتقاليدِها. جرَّحَكَ ما تتعرَّضُ لهُ من خيانةٍ وعدمِ إخلاصٍ لمن تَعِبَ في صونِها والحفاظِ عليها. وفي دعائِكَ إلى مجابَهَةِ من يريدُ أن يجعَلنا أغرابًا في وطنِنا:
“مواطنينَ وأغرابًا هنا، وهنا…
كفى! فهَلْ مِنْ حُمَيَّا جيشِنَا أنْدَى؟
دَعُوا لَهُ ما لَهُ؛ ولْتَسْتَعِدْ يَدُهُ
شوقَ السِّلاحِ إليها، ولْيَضَعْ حَدَّا…” (ص 222)
وفي مكانٍ آخرَ تقولُ:
“تجتاحُني ضَرَبَاتُ الرّيحِ.. آخُذُها
بأضلُعي.. أضلُعي تَهْزا بمَنْ ضَرَبا” (ص 69)
تَمرُّ الرّيحُ من شُرُفاتِكَ صديقي، وتبقى قصائِدُكَ ثابتةً قويّةً عميقةً لا تهزُّها العواصفُ التي هبّتْ عليها من كلِّ صوب، وتبقى مبادئُكَ الوطنيّةُ صُلبةً راسخةً رسوخَ الأرزِ وخلودَهُ، وواضحةً وضوحَ سماءِ لبنانَ. أمّا ثوابِتُكَ في حبِّ الأرضِ والالتزامِ بها والانتماءِ إليها، فتعيشُها في كلمةٍ تكونُ هِدايةً لجِيلٍ أعمَتْهُ المصالِحُ وحبُّ المالِ والمظاهرِ الفارغةِ. يقولُ فيكتور هوغو: “في الأيامِ الحالكةِ الصّعبةِ يُهَيِّءُ الشّاعرُ الأيّامَ الأفضلَ والأحسنَ. والشّعرُ هو النّجمةُ التي تقودُ ملوكًا ورعاةً نحوَ الله.”
ريمون شبلي ابْنُ بيئةِ صلاةٍ وخشوعٍ وحنانٍ وانْتماء. ولبنانُهُ هو لبنَانُنا، لبنانُ الحريَّةُ والرسوليَّةُ والإبداعُ والتّراثُ والحضارةُ والتّاريخُ، وبدا ذلكَ واضحًا في قولِهِ:
“حَذَارِ! سمائي خشوعٌ وحبٌّ
يُصَلّي المسيحُ بها والرّسولُ” (ص 136)
لم يبخُلِ الشاعرُ لا بالمعنى ولا بالشّكل، فأَتَتِ المعاني الوطنيّةُ متجلّيّةً بمفرداتٍ متنوّعةٍ ما بين الرِّقَّةِ والقسوَةِ، والقبولِ والرّفضِ، والحبِّ والحربِ. وهو يحدِّدُ إيمانَهُ ورفضَهُ قائلًا:
“ولا نبيعُ نَعْصَنَا
ولا نبيعُ لبنانْ…
هنا يمرُّ اللهُ، كلَّ مرَّةٍ، مُبارِكًا…” (ص 28)
ويُشدِّدُ ريمون شبلي على ولائِهِ للُبنانَ القداسةِ والرّسالةِ، يقولُ:
“لا ينتهي ولنْ
هذا الوطنْ
ومريمُ البتولْ
أيقونَةٌ في عُنْقِهِ، ووردةٌ في قلبِهِ
بلا ذُبُولْ” (ص 38)
هذه هي الهُويَّةُ اللّبنانيّةُ المدموغةُ بتضحياتِ الأبطالِ والشهداءِ والقدّيسينَ والمبدعينَ. فلا مكانَ للفُجَّار التُّجَّارِ مُتسَوِّلي المظاهرِ والقشورِ، ولن نتركَ لبنانَ لَهُمْ:
همُ الأغرابُ ونحنُ الأبناءُ،
همُ الشرُّ ونحنُ الخيرُ،
همُ اللا ونحن النّعَمْ.
وأُنهي بكلامِ ريمون شبلي:
“أقولْ:/ غدًا وطني يستردُّ مَداهُ/ صَداهُ/ شَذاهُ الجميلْ/
يصيرُ شتاءُ الزّمانِ ربيعَ هواءْ/ وضوءٍ وماءْ/
ربيعَ سلامٍ وحرّيَّةٍ وارْتقاءْ…” (ص 204)
****
(*) ألفيت في الندوة حول كتاب “شرفاتٌ… وقصائدُ!” للشاعر ريمون شبلي في الحركة الثقافية- أنطلياس.