“شرفاتٌ… وقصائدُ” لريمون شبلي في ميزان الشعر والنقد

لمناسبة صدور كتاب “شرفات… وقصائد” للشاعر والناثر ريمون شبلي، نظمت الحركة الثقافية أنطلياس ندوة شارك فيها الشعراء ريمون عازار، إيناس مخايل، الناقد أنطوان جان يزبك، الأديب عماد يونس فغالي، قدم لها وأدارها الأب بشارة إيليا واختتمها الشاعر ريمون شبلي  بفصيدة  وكلمة شكر في ما يلي نصوص الكلمات:

الأب بشارة  إيليا

لكلِّ إنسانٍ شرفةٌ يُطِلُّ مِنْ خلالِها على لحظاتٍ عبرتْ يسترجِعُها فتكونُ الأقوى والأجملَ بحيثُ أنها تصبحُ هي وحدَها المحورَ.

أما شرفاتُ وقصائدُ للأستاذِ الصديقِ والشاعرِ المصطفى ريمون شبلي فشرفاتٌ صارت تخصُهُ ولا تخصُ مَنْ قالَ فيهم أو لهم، بلْ كلُ راقٍ نبيلٍ يطلُ ليتذوّقَ الشعرَ الجميلَ ويستعيدَ الزمنَ الجميل.

المولودُ الثامن عشر، سُمِّيَ بشرفاتٍ وليسَ بشرفةٍ، لأنه يُطلُ على محطاتٍ ثقافيةٍ تربويةٍ إجتماعيةٍ لا تغيبُ عنها ومنها الوقفاتُ الوطنيةُ الثقافيةُ الروحانيةُ وكلُّها مسكوبةٌ في أبياتٍ أدبيةٍ تخترقُ القلبَ بسهامِ الحبِ والفكرِ بومضاتٍ فلسفيةٍ بمعاييرَ قيميةٍ رهيفة ٍ

كأني بهِ راهبًا متأكسمًا، كاهنًا واعظًا شغوفًا باللهِ وبإنجيلِهِ، يتأملُ الكلمةَ، يكتبُ الكلمةَ ليصبحَ في أي محطةٍ ومن أي شرفةٍ، ملكَ الكلمةِ شعرًا ونثرًا.

لم أستعدْ ما قالَهُ في شرفاتِهِ الرائعةِ، ولا ما قيلَ فيهِ وهو فيضٌ من غيضٍ، بل أستنجدُ واستعينُ من رئيسي وعزيزي، الأمينِ على هذا الصرحِ الروحي ورئيسِ الحركةِ الثقافيةِ في أنطلياس الأباتي أنطوان راجح: “لا يعيشُ شبلي على قيدِ التدوينِ وحسب، بل على قيدِ الوفاءِ أيضًا، وفاءٍ يتجلّى في إطلالاتِهِ الوجوديةِ الإيمانية، الشاكرةِ والمشجّعةِ. ويعيشُ كذلك على قيدِ الحوارِ بحيثُ نشعرُ بخطبِهِ تحاكينا لنكتشفَ فيها خلاصةً لأفكارِنا، مع إضافاتٍ أدبيّةٍ نوعيةٍ عليها”.

نعم إنّنا اليومَ لا نكرمُ شبلي بل نكرّمُ نفوسنا بما كتبَ، ونستعيدُ إطلالاتِ رجالٍ كتِبَ فيهم ونظمَ. ونقولُ لمنْ عنا رحلَ ولمن في مسيرةِ الفكرِ يجاهدُ إن لم تهتمَ الدولةُ فاعفُ فإنّنا اليومَ نعيدُ تكريمَكم من خلالِ شرفاتٍ وقصائد ريمون شبلي.

وهو من قال في المعلم “من مثله” أما أنا فأقول:

من مثلُكَ

تمتهنُ البطولة

سلاحُكَ ثقافةٌ وقيمٌ

تذوبُ في أيّامِكَ

تذوبُ في أعوامِكَ

لا تنطفي آلامُك

لا تنحني أحلامُك.

وبعدُ ايها العزيز ريمون وعلى الرغم من كثرة الثلجِ على هامتِكَ ونضارةِ فكرِكَ اسمح لنا بأن نحتفلَ اليوم بهذا الثامِنَ عشر ربيعًا.

ريمون عازار: “باقة من أزهار الربيع”

هل شاهدتم حجرا” ، ترمونه في وسَط بحيرة هادئة ، كيف يحدث دوائر دوائر، لا تنتهي حتى الضفاف ، كذلك فعلت كلمة الأهداء في خاطري ، عندما  أعادني بها الشاعرُ الصديق ريمون شبلي ، الى زمن الشعر الجميل ، الى لقائنا الأول ، في دارة شاعر الثريا الملهم , شاعر الدوحة الغانمية الباسقة ، جورج غانم ، الذي غادرنا وهو في أوْجِ الإبداع ، فترك فراغا” مدوّيا” في عالم الشعر والنثر ، وجرحا” عميقا” عصيا” على الشفاء ، وكأني بريمون شبلي ، يدعونا اليوم، الى ان نرفع كأس الكلمة ، ونشرب نخب هذا الشاعر الغرّيد .

ومنذ ذلك اللقاء ، ترسخت الصداقة، توالت دواوين ريمون شبلي ، حتى تجاوزت العَشَرة ، وتنوّعت كتبه النثرية القلائد، حتى بلغت الثمانية ، وجاء كلُّ منها تخطيا” يرتفع به ، من قمة عالية الى قمة أعلى ، ويَعِدُنا بالمزيد من الجنى الزاخر ، وما كان ريمون شبلي الا الوعدَ الصادقَ الأمين .

وها هو اليوم ، يقدم لنا ديواناً فريدا” ، يحتوي على سيل من القصائد الجواهر ، يكرم بها عددا” وافرا” من أساتذة التعليم ، الذين نذروا عمرهم ، كشمعة تذوب، لتضيء دروب الأجيال الطالعة ، وتهديهم سَواء السبيل، في عصر صاخب ، تداخلت فيه المسالك والشعاب ، وكثرتِ المطبات والأفخاخ التي تتربص بالنشء ، فكان هذا الديوانُ صرخةً مدوية ،تهَيِبُ بالمعلِّم أنْ يكون رسولا” حقا” ، لا أنْ يكادَ يكون رسولا” . وبدا هذا الديوان كدائرة معارف ، نرجع اليه ، كلما شئنا ان نتوج معلما” مثالا” ، بأكليلٍ من الغار ، عندما يدعوه التقاعدُ، الى أن يلقيَ عصاه ويستريح . فنأخذُ منه المخزون السخيَّ من الكلام المأثور ، والصِيَغَ البيانية البليغة ، والكثيرَ من الأوسمة ، التي نَزين بها صدور هؤلاء الجنود المجهولين، ونجد فيه لكل حالة لبوسَها ، فلا نحتارُ في الإِختيار .

وهذا ما يقال ايضا” في حفلات تخرّج الطلاب ، التي كان فيها ريمون شبلي النجمَ الساطع والكلمة الملكة ، الهادية ، التي تنير النشء في معارج الإبداع والنجاح والفلاح ، فإذا دعينا الى الحوار مع الأجيال الطالعة ، فما علينا الا ان نقرأ عليهم ، ما ورد في ديوان ” شرفات وقصائد ” .

وبعد ، هل نحن امام قصائدَ مناسبات ؟

لا والف لا ، فالمناسبة تصبح بين يدي ريمون شبلي ، الشرارةَ التي ينطلق بها الشاعر ، من الخاص الى العام ، ومن المحدود الى اللا محدود ، ومن القَبَس الى  النور المطلق .

فإذا تكلم على معلِّم بهيّ ، فلكي يتكلم عن المعلِّم المثال ، واذا تحدث في مناسبة وطنية ، فلكي يرقى بها الى الوطن بكلِّ أبعاده ، واذا توجه الى فئة من المتخرجين ، فليرسم الطريق امام افواج منهم ، في أي زمان واي مكان .

ويا ايها الكرام ، هل منا من يرى في ديوان ” كما الأعمدة ” ، لشاعر العصر سعيد عقل ، انه مجموعة من قصائد المناسبات ؟  وَهُوَ الديوان الذي قلِّما يُسْتَشْهَدُ بروائع هذا الشاعر الخالد ، الا ويكون الاستشهاد، في الغالب، مأخوذا” من قصائد ” كما الأعمدة ” ؟

فهنيئا” لك الابداعُ ايها الشاعر الدائم الإشعاع .

وهنيئا” لنا ديوانُك الحادي عشر .

يا شاعر الومض ، والإشراق ، والفصاحة ، والعَفْويَّة الراقية . يا أديبا” من بين أولئك المتألقين، الذين يستحقون أنْ يُقال في تجلياتهم : إِنّ من البيان لَسِحرا ، ومن الشعر ما يعيش دهرا” .

ويا صديقي هل أفضلُ من ان اقول فيك شعرا” ، واكرِّمك بهذه الباقة من الأبيات الشّذّية ، اقطفها من أزهار الربيع الذي نحن فيه :

  معلمٌ أنتَ ، لا بلْ شاعرٌ سَطَعَــــــتْ

                        على ذُراهُ نَواصي الحقِّ والقِيَــــــــــــــــــــــــمِ

***

                        نَذَرْتَ عُمركَ لِلأَجيالِ تُنْشِئُهـــــــــــــــــــــــــــا

                        كالأرزِ يَنْمُو على الآكامِ والقِمَــــــــــــــــمِ

***

                        هدياً، يَصوغُ مِنَ الأَبناء أجْنِحَــــــــــــــــــــــــــةً

                        تَرْقى بلبنانَ تَيَّاهاً الى النُجُــــــــــــــــــــــــــــــــمِ .

***

                        هلْ كَرَّموكَ ؟ ألاَ قُلْ ؟ لَسْتُ أسأَلُهمْ

                        دِيوانُكَ المَجْدُ والتَكْريمُ، فَابْتَسِمِ.

عماد  يونس فغالي: “مألوفات… لم يألفْها الناس!”

منذ زمن نازك الملائكة وعبد الوهّاب البيّاتي وبدر شاكر السيّاب، والشعر في مسلكٍ من حداثة. تطوّره تفلّتٌ من منظومةٍ حكمت الفكرَ الأدبيّ بوزنٍ وقافية، حدّدا المفهوم الشعريّ، ليتكوّنَ الهويّة الحصريّة للقصيدة العربيّة وشاعر لغة الضاد!

تفلُّتٌ أخذ يمتدّ ويتمدّد في مفهوم الحداثة، ليملكَ سعيدًا في مساحةٍ كم توسّعت! وفي هذا المسار، محطّاتٌ مرّ بها النظْم، لتبقى الصورة الشعريّة على امتداد السياق، في المدى العربيّ بلادًا وزمانًا!

لكنّ حفاظًا على الشعر “العاموديّ” أو الكلاسيكيّ في اعتماد الأوزان الخليليّة، بقي ملَكةً، وقفًا على قادرين من أئمّةٍ، روَوا شعرَهم نظمَ بدعةٍ شعريّة، تمكّنوا من توفير العناصر الجماليّة في القالب الشعريّ الضيّق التفاعيل.

لمّا جئتُ “شرفات… وقصائد”، لم آتِ غربةً لا أدركها. في الواقع، جئتُ من حرَمٍ شعريٍّ أدبيّ استهواني في نتاجٍ سابق لريمون شبلي، إلى ارتشافاتٍ من جمال شرفات، كم يتوق متذوّق إلى جلسةٍ في رحاب قصائدها! قصائدُ اعتمدت أوزانًا خليليّة، تليق بها المنابر، في مهابتها الجليلة، الرابضة في معابد إعلاءات الشأن الإنسانيّ، للشخصيّات المقولة في تلك الأبيات!

وإن تراخى الوزن في قصائدَ، فإلى منظومةٍ، تسمّت “التفعيلة”. كتب ريمون شبلي القصيدة العاموديّة على الوزن الخليليّ الواحد، فكان كلاسيكيًّا. لكنّ تميّزًا في “شرفات… وقصائد”، أخرجه إلى فرادةٍ لا تشبه حتى حاله، في مكاناتٍ أخرى: داخلَ القصيدة الواحدة، الوزنُ الخليليّ والتفعيلة. قارب في فرادته الشاعرَ العراقيّ بدر شاكر السيّاب، فمسح قصيدته بجماليّة خاصّة تشهد له خلاّقًا، رسم في مألوفات، ما لم يألفْه الناس! طبعًا، تبقى هذه “الهويّة” الجديدة المستحدَثة، رهنَ قراءات النقّاد وآرائهم، فتلج عالمَ الشعر، آخذةً مكانها فيه، أو تنحى إلى مساحات الانتظار!

هاكم ما أقول في قصيدة “من ذا يغنّي؟”:

يقف الزمانُ هنيهةً عند المساء                   أم “زوق” تغويه ويحلو لي اللقاء؟”

تبختري بثوبكِ الممشوق

يا بلدة السلامِ يا “زوق”…

ليعود إلى البحر الكامل:

الله يا شعرُ، ائتلقْ، طِبْ وانفتحْ                   ضوءًا على دنيا ورؤيا أنبياء!

في هذه، لم يُبقِ ريمون شبلي ذاته في قوقعة الكلاسيكيّة، ولم يخرجْ كمِن فانوسٍ سحريّ، لكنّه طعّم الوزن الخليليّ للقصيدة التقليديّة، بتركيبةٍ تفعيليّة شبه جديدة، وذلك في القصيدة الواحدة. ليتبدّى لي، أنا على الأقلّ، فنّانًا يعتمد، لا الوزنَ وحسْب، بل الإيقاعَ هذه المرّة، لتكون قصيدتُه نشيدًا يغنّيه ولو إلقاءً!

في القالب الخليليّ، تمكّن شاعرنا أن يحفظ جماليا صورته بلاغةَ فنّان، فيرسو بيراعه في ميناء الملهمين! في قصيدة “ورد وفلسفة”، التي كرّم بها الأديبَ إيلي مارون خليل، قولةٌ شعريّة:

يُغني الوجودَ ويبني في الخلودِ له                ولاسمكَ الحيّ، ركنًا يشبه الشهُبا

“ولاسمكَ الحيّ”، أي ولاسمكَ إيلي، في إشارةٍ إلى مار الياس الحيّ.

يتابع قصيدته فيصل إلى البيت القائل: “قرأتُكَ ابنَ من استكفى بخورنةٍ…”

في دلالةٍ إلى المكرّم، وهو ابنُ كاهنٍ أكفى نفسه بالكهنوت.

في قصيدة “عرس الشعر”، ومنذ العنوان، احتفالٌ بالشعر، مهرجان. يقول:

“عرسُ الربيع تغنّي الأرضُ بهجتَها…”

فتستحيلُ الطبيعةُ “بمن” فيها من عناصر، كفي احتفال، تزدهي بالألوان والأصوات الطائرة، تُنشد الفرح بالحياة وتشيع الانشراحَ في القلوب!

طبعًا، هذا غيضٌ من فيض، يؤكّد تمتّعَ الشاعر بالحسّ الصوَريّ الذي يُضفي على القصيدة، بتنوّع نمطها الأدبيّ، نفحةَ الإبداع الذي يرقى بالقارئ إلى تذوّق لذيذ الأدب والفكر السامي!

“شرفاتٌ… وقصائد!”

شرفاتٌ على مفترق الدروب من حياة ناسٍ صرفوا عمرَهم عطاءً وبذلاً! شرفاتٌ على محطّاتٍ من ثقافةٍ، رفعت جماعاتٍ ووحدانًا، إلى مصافٍ من إنسانٍ في ملئه! شرفاتٌ على واحاتٍ اجتماعيّة أوسعت لأشخاص، تعبيراتٍ وتفاعلات، أهدوا في تلاقياتهم من مخزونٍ ملأ مساحاتِ تواجدهم، عطرَ مروراتهم فضائلَ وقيمًا!

لكلّ هذه الشرفات، على علوّها، قصائدُ من نبعةٍ صافية، تنثر فوحَ نسيماتٍ عبيريّة، تسقي عذبَ شعرٍ من هدي أحبّاء، لهم في قلب الشاعر مكانات! رقيقُ مشاعره سكْبٌ في أبيات، زيّن بها زوايا شرفاتهم، حيث حلا له أن يلتقيهم في ميناءاتٍ تتلألأ بألقهم!

شكرًا ريمون شبلي، لهذه الواحة الخصبة بوفور الفنّ الشعريّ الأصيل، الذي تدفقُ به بحرَ أدبنا، طامعين دومًا بمزيد!

أنطوان يزبك

في يومٍ مكفهرٍّ جوُهُ والسيولُ على وشكِ الانهمار منَ السُحُبِ الكَبريتيَّة المتجمِّعة في السماء قَطَعَ الشيطانُ الطريق على الشاعر وانتهَرَه قائلاً: وَيحُك أينَ تَخرُج ٳحذر العاصفة فهي موشكة على الهبوب!

فما كان من الشاعر الا أن أجابه بعزم واقتدار: لا تحمل هما أنا العاصفة

والكلمة حِصني والأبياتُ ذخائري

والقَوافي مَزاميري والرَويُّ مُعَللي

والشأن شأني والميدان ميداني

وقصائدي حرزي الأمين بها أقصُفُ أمثالَكَ

ٳليكَ عَنّي يا ٳبليس شَرُّك انتهى وشِعري صَلاة تَقسيم والمَنابِرُ مَعابِد تَعزيم

وكلامي أيقونات رَصّعتُ بها غوالي المَصاغ الخُرافيّة المَشغولة من أندرِ معدن.

بِهذا الكلام وهذا الاندفاع جهّز ريمون شبلي قصائده في مَراتعٍ من ثقافةِ السخاء الأدبيّ ٬ من دون تقشّفٍ فكريٍّ ٬مِنها ما ألقيَ في ملتقيات أدبيّة ومنها ما قيل في تكريم المربّين وأخرى في حفلات تخرّج٬ ألقاها في مناسباتٍ من على المنابر فألهَبَ القلوب وما أعذبَها فصاحَةً حينَ يُعطي كلَّ ٳنسانٍ حَقّهُ٬ معيداً لَه بَقيّة مِن كرامة بعد سنوات التّضحية والعطاء في حقلِ التّربية. وأنا بدوري أستاذُ مدرسة أفتخر بمهنتي وأتشرّف بالأستاذ ريمون شبلي أصفّق لشعره وأهتف له كما لو كنت أصفّق لعاشقين على مقعد خشبّي ساعة الغروب حين تنام الشمس وتستفيق التنهدات فوق جسور من التواصل بين الحبّ والواقع٬ الشغف والشمس ٬الفرح والحقيقة.

في شُرفات وقصائد يعود ريمون من العاصفة الى هدوءِ القصائد التي قيلت في المناسبات وصخب الأمكنة والتكريمات ليحفظها شعرا في وعي المتلقيّ كي لا تصير المناسبات أثراً بعد عين٬ في واقعية الحالة وسورياليّة المناسبة التي تبدّل أحوال الناس وتأسُر انجازاتهم .

أيها الكرام ريمون شبلي يُلقي الشعر باحتراف٬ فيَنجَحُ في مداعبة خيال الحضور واطلاق الادرينالين من عقاله  ٬فتأتي كلماته مثل انبعاث عُطور الميترا ونبؤات عرّافات معبد دلفي ٬ حينها يصبح الشاعر رائياً متبصّراً يرى الى أحوال الوجود جمالية الشعر وقدسيّته كلّ ذلك مُتّحدٌ الى درجة الذوبان بالأحاسيس٬ التي سَترتقي وتفعلُ فِعلها في روع السّامعين وتحوّلهم الى مستمعين ذوّاقة من الدرجة الأولى.

ففي لحظة ٳتّحاد العقلِ بالمادة يَستطيع ريمون شبلي أن يُدخِلنا في رؤيا توراتيّة مذكّرا بنهيويّات عصور الكوارث مستحضرا المشاهد من لوحات جيروم بوش وجحيم دانتي في قالبٍ شعريٍ مَكين٬ وذلكَ بارزٌ في قصيدة الطاحونة الحمراء صفحة 47 التي ألقيت في محطة المنار المدمرة بعد توقف حرب تموز حيث يقول :

تُمطِرُ التربَةُ أعمدة من حديدٍ ونار

تتشظّى دخاناً جحيمياً وغُبار

أنهرًا مِن لحودٍ واسعة

وركامًا يَمتدّ فوقَ الركام

ينقلنا هذا الشعر الى ما يشبه خراب هيروشيما ٬ لحظة الانفجار الذريّ الذي دمّر المدينة وانتصبَت عواميد الدّخان كما في أعتى دياميس الجحيم وتفصّدت اللّحود في لَحظة قياميّة ٬ لا تضاهى في هولها وحدّتها ٬ نار آكلة تَطحَن الحَجر وتَهدُّ أسس الحضارة في بربرية العصور الحديثة. ولكن من ناحية أخرى يستطيع ريمون أن يعود في تضاعيف شعره الى عذوبة الايمان وهدوء المعابد وتقوى الصلاة وحلاوة الدعوى الرهبانية والخدمة الكهنوتية كما في قصيدة :”في فرح الهيكل” صفحة  92 حيث يقول:

طوبى لمن لبى ندا الكهنوت خسرَ القشور وفازَ بالملكوت

وكأنه يكرّس بذلك كلام الربّ القائل:

في حشا أمك اخترتُكَ وهو يقصد الأب الأنطوني مارون الحايك٬

فيقول عنه :

مُذْ فَتّحَتْ شَفتيه الصَرخَةُ البِكرُ                                     خَطَّتْ لَهُ نِعمَةً بَيضا اليَدُ الخَيرُ

ناداه: دَعّ كلَّ شيءٍ واتَّبِعْ دَربي                                     مَشى ولَمْ يَلتَفِتْ :آتيكَ يا ربيّ

هكذا يُثبِت ريمون في شعرِهِ أنَّهُ ملمّ ليس بطبائع الأساتذة والأدباء فحسب٬ بل هو شاعر الايمان والقداسة والتّقوى بامتياز٬ وقصائدُه الروحيّة الايمانيّة خيرُ دليلٍ على ذلك.

يذهب أربابُ الشعرِ الى القولِ ٬ أنّ النجاحات المتميّزة في مجالات القصيدة الرحبة تنتمي في غالبيّتها الى شكل القصيدة وبلاغتها وحدّة نفاذها٬ لكن في الحقيقة أنَّ الشعرَ ليسَ سوى تجليات وابداعات٬ تخرجُ مُنعتقة من دخيلة الشاعر وتكوينه الثقافيّ والأدبيّ كما هو حال الخلق الأول من العدم الى الوجود ٬ متوجاً كل ذلك بالموهبة التي هي مرآة احساس الشاعر وشفافيّة نقاوته حين يدرك المضمون الذي يتعامل معه.

ذات يوم قالَ جورج شامي في مناسبة توقيع كتاب خوابي الثقافة للراحل جوزف مفرّج:

“أمّا الشعرُ هذا الذي نباهي به ونفاخر٬ فأظن أنّك تشاركني الرأي بأنّ بَعضَهُ بات موبؤًا بانفلونزا الطيور من كثرةِ ما غرّد مع أسراب مهاجرة أو لاجئة أو عابرة نقلت اليه الوباء٬ وأنّ أسوأ ما أصابه هو توسّل الاعجاب الاجتماعي٬ واؤلئك الشعراء الدخلاء الذين يكتبون لرفع العتب دون أن يقرأوا الشعر”.

أمّا شعر ريمون شبلي فهو نَقيضُ كُلُّ ذَلكَ ٬ ٳنَّهُ شِعرُ الخيرِ والبَركَة٬ يَستَحِقُّ القولُ فيهِ أنَّهُ مِن أبناء الأصول٬ نظيف لا يَشكو مِن أمراض أو عدوى٬ شعرٌ نقيّ نقاء الذهب والزيت القدسيّ الذي يشتعل في نوّارات المعابد ٬ ليس فيه أخلاط بل أنقى من ثلج صنين في تجلّيات عذبة وحضور شعريّ لقصائد مميّزة. شعرٌ مخمليٌّ كُلّهُ تربية وتعليم وصلاة وقداسة وشرف ونور٬ وفوقَ كلِّ ذلكَ شعرُ وفاءٍ قيلَ في أشخاصٍ من لحمٍ ودمّ  حملوا  على مناكبهم أثقال الحياة وعجنوا مع خبزهم عرق البذل والتعب فكانت لهم مع ريمون أثمن هديّة وهي القصيدة المشغولة بنفائس الكلمات ونوادر النزهات.

ريمون شبلي 

اترك رد