في ديوان شرفات… وقصائد ل ريمون شبلي
تلقّيت، أمسِ، بوافر غبطة وحبور، هديّة قيّمة، هي عبارة عن ديوان شعر يحمل الاسم شرفات… وقصائد، أصدره إصدارًا خاصًّا الشاعر ريمون شبلي. وكما ينمّ العنوان عن المضمون، كذلك تفعل صورة الغلاف التي يقف فيها الشاعر، بكامل أناقته المعهودة، معتليًا منبرًا، وهو يلقي شعره.
إنّه ديوان شعر مناسبات، ولِمَ لا؟ والمناسبات مُحفِّز على قول الشعر، منذ كان الشعر العربيّ، إلى جانب الخطابة، أداة تواصل، وجسر عبور، من نفس المُلهَم إلى نفوس السامعين. وكثيرة هي القصائد الروائع التي ابتكرها أصحابها، في مناسبات محدّدة، وبقيت على الدهر آياتٍ بيّنات. أليست قصيدة الحدث الحمراء للمتنبّي قصيدة مناسبة؟ وقصيدة فتح عمّوريّة لأبي تمّام؟ وقصيدة بنات الشاعر لعمر أبو ريشة في رثاء الأخطل؟ وقصائد كما الأعمدة لسعيد عقل؟ وغيرها وغيرها…
والشاعر ريمون شبلي، أمير منابر، نعرفه.
لم يبخلْ بشعره في مناسبات كثيرة؛ وعلى امتداد أكثر من ثلاثين سنة من العام 1995 إلى العام2017، دوّى حضوره اللافت، وإلقاؤه الرائع، على منابر تستحلي إطلالته ووقفته.
لقد وزّع ديوانه على شرفات ثلاث: شرفة الملتقيات، وشرفة التربويّات-1، وشرفة التربويّات-2.
شرفة الملتقيات
أقف عند الشرفة الأولى: شرفة الملتقيات الأدبيّة والثقافيّة والاجتماعيّة… وقد أحسن الشاعر دمج هذه الملتقيات في شرفة واحدة، لأنّ توزيع القصائد بطريقة أكاديميّة على ثلاث مجموعات منفصلة يكاد يكون مفتعَلاً في كثير منها. فمن يستطيع فصل الخيوط الأدبيّة عن تلك الثقافيّة وتلك الاجتماعيّة عندما تطالعه القصيدة الأولى شاعر الحداثة الأصيلة جورج غانم التي ألقاها شبلي لمناسبة مرور سنتين على رحيل جورج غانم المفاجئ؟ إنّها من عيون الشعر العربيّ في الرثاء، وقل في الوفاء، والتقدير، وحفظ الغيبة. وقد برع شبلي في نقل شعوره إلى السامعين، والقرّاء من بعد، وفي اختصار مسيرة الشاعر ولفت الأنظار إلى مدى تنوّع شعره إنسانيًّا ووطنيًّا وفنّيًّا، على أنّه نقطة تلاقِ للأصالة والحداثة، تتدفّق قيمًا، وتمثّل جيلاً يشهد تحوّلاً نحو العصر ورسوخ قدم في صخرة التراث، وقد ختمها مخاطبًا الراحل الباقي قائلاً:
تغيب…؟ لا! يستردّ الله حنطته/ويترك الشعر مصباحًا على العصر.
أمّا عروس الموطن الفرد التي ألقاها في صيدا، بعد مرور عام على مجزرة قانا، فإنسانيّة وطنيّة بامتياز. فيها يبدع شبلي في التعبير عن غضبه وغضبنا، ويعلي قيمة الشهادة، والتضامن الوطنيّ، على مزج موفّق ما بين الشعر العموديّ وشعر التفعيلة.
أمّا في القصيدة يجمعنا النعص بيوحنّا، فقد برع شبلي في الارتفاع عن محدوديّة المناسبة ليمزج ما بين الأرض والوطن والإيمان. يتأكّد لك ذلك إذا سمعته يصدح بقوله: ولا نبيع نعصنا/ولا نبيع لبنانْ. هنا يمرّ الله، كلّ مرّة، مباركًا: طوبى لمن له في النعص مرقدٌ لعنزةٍ/أو حفنة من الرمالْ/أو قطرة من مائه الزلالْ.
شرفة التربويّات-1
وأقف عند الشرفة الثانية: شرفة التربويّات-1، التي خصّصها شبلي ليطلّ منها على تكريم مُربّين خدموا حتّى التقاعد. في هذا القسم خمس عشرة قصيدة، كان من حسن حظّي أن أستمع إليها في أوقاتها، من فم الشاعر مباشرة، وقد كانت تزيّن حفلات التكريم الذي يُعتبر، في حدّ ذاته، مناسبة ذهبيّة للتركيز على القيم العليا التي يجسّدها المعلّم، على الصعد التربويّة والإنسانيّة والوطنيّة، جميعًا. ولقد أبدع شبلي في التنويع، وفي ابتكار المطالع الفخمة التي تذكّر بعيون الشعر العربيّ، وإليكم هذا المطلع الذي نوّع فيه وأبدع، من القصيدة من ذا نغنّي؟:
يقف الزمان هنيهةً عند المساءْ/أم زوق تغويه ويحلولي اللقاء؟/تبختري بثوبك الممشوقْ/يا بلدة السلام يا زوقْ/وأنتِ بسمة بريئةْ/وأنت كلْمة مضيئةْ/ونجمة معشوقةْ/في وطني المعشوقْ!.
ولعلّ من أروع ما قاله في المعلّم هذا البيت من القصيدة يريحها منتصرًا: وزّعت عمرك تعليمًا وتربية/تلمّه الآن جيلًا يعتلي جيلا. أجل، فالمعلّم زارع، بذاره في بيادر الآخرين تشهد على رسالته، متى كان، فعلاً لا قولاً، رسول عطاء وقيمة مضافة.
شرفة التربويّات-2
وأقف عند الشرفة الثالثة: شرفة التربويّات-2، وهي مخصّصة لاحتفالات تخريج الصفوف النهائيّة. وقد اختار شبلي لهذه الشرفة اثنتي عشرة قصيدة، ألقى معظمها في المدرّج الرومانيّ- القصر البلديّ- زوق مكايل، الذي أغراه بمداه الرحب ودلالته الثريّة، ففخّم المطالع، ونوّع المقاربات، فلم يقع في التكرار، على رغم تشابه المواقف، وشنّف الآذان بإلقائه الرائع.
أختار من هذه الشرفة، عشوائيًّا، ما قاله في القصيدة خذوا وزيدوا ص 228: يزهو وقد صار عنوانًا وتقليدا!/ يا ثانويّة، علّي الكأس والجيدا/في كلّ أيّارَ يبكي أهلهم فرحًا/ومثلُهم نحن..أضحى دمعُنا عيدا.
أيّها الشاعر، ديوانك شرفات وقصائد يبقى شاهدًا على مناسبات كثيرة، ومودّات لا تنقطع، وأنت شاعر مبدع، على أنّك، وقبل كلّ قبل، إنسان رائع يحفظ الودّ، ويعلي القيم، ويؤصّل الأصالة؛ لذا، جاءت قصائدك من فيض ما يختزن قلبك. مبروك هذا الديوان، وعلى أمل أن نرى أخوة له تضيفها إلى ما سبق.
وتبقى ليت!… ليتك أرفقت الديوان بأفلام تسجيليّة، فشعرك ليُقرأ، وليُسمع ويُشاهَد. ويبقى عتب!… لقد أكرمتني في هذا الديوان، أكثر من مرّة. وسبق لك أن نشرت، في كتابك هل الذي صدر في العام 2004، قصيدة ألقيتها لمناسبة ندوة توقيع روايتي الأولى غابة الضباب. لكنّني، مع ذلك، عتبت عليك لأنّك لم تنشر ما خصصتني به يوم إحالتي إلى التقاعد، على أنّني أعتزّ بما قلته أيّ اعتزاز، وهو لسان حالي اليوم، قلت: ما بيننا يا شربل متأصّل لا يذبلُ..: بيني وبينك كلْمة أدبيّةٌ،/وصداقة عشرين عامًا حبّرتْ/ما مرّ بين حروفِ كلّ منهما/إلاّ طيوب مودّة..كم أثمرتْ.
سلمتْ يداك…