برعاية رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور عدنان السيد حسين، نظمت كلية الأداب والعلوم الإنسانية مؤتمراً دوليا بعنوان “أدب السجون بين المشرق والمغرب”، في القاعة الكبرى في مبنى الإدارة المركزية – المتحف، بمشاركة باحثين من جامعات عربية ولبنانية ودولية واللجنة اللبنانية الوطنية لليونسكو.
بعد النشيد الوطني ونشيد الجامعة اللبنانية ألقت منظمة المؤتمر الدكتورة بادية مزبودي (كلية الأداب – الفرع الأول في الجامعة اللبنانية) كلمة رحبت فيها بالحضور والمشاركين في التنظيم، لافتة إلى أن “هذا اليوم الذي هو آخر أيام عاشوراء، يوم عزاء ورثاء في التاريخ الإسلامي، هو الذي يشهد، بمشيئة القدر، افتتاح أعمال هذا المؤتمر، ولعل في هذه المصادفة ما يذكرنا بأن الأحداث المأساوية التي تمر فيها هذه المنطقة من العالم، إنما تستخرج مادتها الأولية من تاريخها وحاضرها، وهي أحداث لا تؤذن بأيام أفضل”، لافتة إلى أن “الظروف الصعبة التي يجتازها الشرق الأوسط أوشكت أن تحدّ من انطلاقة مؤتمرنا، غير أننا اعتمدنا وجوب متابعة العمل، أيا كانت العواصف، لأن العاصفة إن أنذرت بالسيئ، إنما هي تنذر أيضا بأيام أفضل، ولا ينبغي للتهديدات بالحرب أن تحدّ من طموح الباحثين والجامعيين في موضوع بهذه الأهمية، تلك كانت نصيحة عميدة كلية الأداب والعلوم الإنسانية الأستاذ وفاء بري، وتمثلت هذه النصيحة بعدم إلغاء المؤتمر، لأننا في لبنان اعتدنا العيش بين نسبية الأمن”.
ولفتت إلى أن “يوم الخامس عشر من تشرين الثاني يصادف فيه “اليوم العالمي للأدباء الذين يكتبون من السجون” مشيرة إلى أن “فكرة المؤتمر انطلقت من مؤتمر عقد في العام 2012 في المغرب، في منطقة بني بلال، وشاء المنظمون لمؤتمر بيروت أن يكملوا مسيرة مؤتمر المغرب، وأن يسلطوا الضوء على الأدب المنسي، وهو أدب السجون، ورغم أن هذا الأدب يستحق من الباحثين الدراسة، نظراً إلى وفرة المؤلفات الصادرة حول هذا الموضوع، وهذه المرة الأولى التي يعقد فيها في لبنان وفي المشرق مؤتمر يتم فيه تناول أدب السجون، ونحن نأمل أن لا يكون المؤتمر الأخير”.
وانتقلت مزبودي الى تعريف أدب السجون، مشيرة إلى أنه “في الأساس سرد أتى به أولئك الذين عاشوا سنوات طويلة في السجن، حيث عاشوا الحرمان والافتقار إلى الحرية، وهذا الأدب ينطوي على روايات ودواوين شعرية وأفلام وثائقية ودرامية وريبورتاجات وقصص مصورة، ذلك أن كل الدول العربية ودول ما كان يسمى بالعالم الثالث، تعرف منذ زمن ليس بقصير فورة في الكتابات التي تتناول موضوع السجون، ويعود السبب في هذه الوفرة إلى السياق الجغرافي الذي تمتاز به هذه المنطقة”.
تضيف: “منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت في المنطقة أنظمة سياسية، اتضح بعد وقت قليل من تسلمها لمقاليد السلطة أنها أنظمة بوليسية، هدفها قمع أولئك الذين يمتازون بشجاعة قصوى بين مواطنيها، لذلك عمدت هذه الأنظمة إلى إنشاء السجون حيث يتخلص الممسكون بالسلطة من الذين يزعجونهم ويشكلون التهديد البالغ لأنظمتهم ولديمومتها. وفي هذه السجون رمت الأنظمة البوليسية بالمفكرين والأدباء دون أن تعطيهم فرصة الدفاع عن أنفسهم، وبالتالي بات السجن سجناً للمفكرين، وفي موازاة ذلك تعمد إسرائيل إلى وضع الفلسطينيين في المعتقلات والسجون لفترة طويلة الأمد تصل إلى مدى الحياة، إضافة إلى أحكام تتخطى المئة عام، كما تخضعهم لكثير من التعذيب والإهانات، ولا يسعنا أن ننسى أن مجيء الأميركيين إلى العراق لم يحدث أي فرق، بل ساهم في جعل الأمور أكثر سوءًا مما كانت، إذ كانوا هم من أنشأوا سجنين متميزين: سجن أبو غريب وسجن غواتنامو”.
وذكرت “أن أدب السجون ليس وليد هذا العصر، على عكس ما يمكن للبعض أن يتصور، ذلك أن كتاباً عرباً أفذاذاً من أمثال ابن خلدون، الشاعر أبي فراس الحمداني وابن رشد، عرفوا أيضاً تجربة السجن وتحدثوا عنها، وفي ظل هذا الوضع الذي يأتينا من الماضي ويجدد نفسه في الحاضر شهد المفكر قسوة في المعاملة من قبل الأنظمة التي ارست التعذيب بشكل مبرمج، إذ يكثر عدد المفكرين في السجون، حيث يلقى بعضهم الموت ولا يخرج منهم إلا العدد الضئيل جداً، مع ذلك فإن هذه السجون تنجب الكلمات التي تشق لها درباً بين قضبان السجن، حيث تتحرر من مراقبة السجانين لتشهد على بربرية الإنسان، وهذه النصوص خرجت من السجن أولا في المغرب، ودانت ما كان يمارس في السجون هناك من قمع وعمليات تعذيب تهين الإنسان وتدحض كرامته، ولعل أفضل الأمثلة على هذا النتاج الأدبي الذي يولد في السجن هو مؤلف شعري بعنوان “الف ليلة وليلة” صدر في العام 1982، وقع عليه سجناء سياسيون في سجن قنيطرة ووصل هذا الديوان إلى ألمانيا حيث تم تجميعه بإيعاز من هنريش بول الذي حاز جائزة نوبل للآداب، وكانت القصائد تكتب على وريقات صغيرة تمر من يد إلى يد حتى تصل الى خارج السجن”.
ولفتت إلى أن “سجن أبو غريب الشهير في بغداد لا يحتاج إلى أي تعليق أو تعريف، ويكثر المناهضون اليوم لهذا السجن الذين يدعون إلى إقفاله وغيره من السجون المماثلة، كما أقفل معتقل الخيام الذي عمدت إسرائيل عام 2006 الى قصفه سعياً منها إلى إخفاء أي أثر لما كانت ترتكبه من جرائم ضد السجناء اللبنانيين والفلسطينيين المعتقلين فيه”.
وختمت مزبودي: “الهدف من هذا المؤتمر مساءلة هذه النصوص الروائية والشعرية والصور (الفن التشكيلي الذي يتناول هذا الموضوع) لكي يصل الباحثون إلى استنباط القواسم المشتركة بين كل هذه الأنواع الأدبية التي تتناول الموضوع عينه والحوافز وراءه، وكيفية تنظيم هذه المؤلفات الأدبية التي غالباً ما تكون شهادات حية، مستذكرة قولا للمعتقل الفلسطيني حسام بدران” خير جليس في السجن كتاب، ولكن أفضل وسيلة للتخفيف عن النفس والتعبير عما يجول في نفسك هو القلم والكتابة” من هنا كان الاهتمام بهذا النوع من الأدب المبدع الذي يولد من معاناة الأسير”.
درويش
ثم ألقت الأمينة العامة للجنة الوطنية اللبنانية للتربية والعلوم والثقافة في الأونيسكو الدكتورة زهيدة درويش كلمة لفتت فيها إلى أن “الموضوع المقترح في هذا المؤتمر اعتبر في السابق نوعاً بسيطاً في الأدب، لا يتمتع بأهمية قصوى، في حين أن أدب السجون نوع من الباحثين والمحللين الإنكباب عليه لدراسته، لأنه يبرز أكثر فأكثر على الساحة الثقافية وإن كان بروزه حديث العهد، ولعل هذا البروز المتنامي لأدب السجون في مجتمعاتنا يعود إلى أسباب تجد جذورها في قمع حرية الرأي والحرية الشخصية والحرية العامة، وكان لأدب السجون أن عاش فترة طويلة منسياً، فحان الوقت لأن يستنبط من أعماق السجن وأن يطرح على الملأ، ويبحث في كل تفاصيله لما يحمله من رسالة إنسانية تتخطى الحدود”.
وأشارت إلى “أن الملفت في هذا المؤتمر أنه ينعقد في بيروت في هذه الحقبة من تاريخ المجتمعات العربية، سواء كانت في إفريقيا الشمالية، أي المغرب، أو في المشرق. تلك المنطقة التي تعيش اليوم تحولات جذرية”، مشيدة بالدور”الذي لطالما لعبته العاصمة بيروت لاحتضانها لكل الثوار ضد قمع السلطات السياسية القائمة في بلادهم، ولعل أفضل تعبير عن الربيع العربي الذي نشهده ما يكمن في هذه الطفرة لأدب السجون وكثرة الأصوات التي تتحدث عن معاناة السجون”.
وتوقفت عند أبلغ تعبير عن معاناة السجين، ووجدت هذا التعبير في شعر المناضلة المغربية سعيدة فيبهي التي توفاها الله في السجن عن عمر 25 سنة بعد إضرابها عن الطعام لمدة 35 يوماً، حيث عبرت في شعرها عن كسر جدار الصمت وأنسنة وحدتها لكي تتمكن من التصدي لأولئك الذين يعملون على جعل فكرها فكراً صدأ”.
وتقول: “رغم جمود وبرودة السجن تبقى في داخلها نار تتدفأ بها وتمدها بالقوة لتكسر الأقفال وتخرج نحو الحرية وترتمي في أحضانها”، مشيرة إلى أن “اقدم من كتب في أدب السجون الأديب المغربي عبداللطيف الأعبي الذي أمضى 8 سنوات في السجن، خرج بعدها لينشر في العام 1980 مؤلفا يعبر فيه عن سيرته الذاتية، ويشهد لإرادة البقاء على قيد الحياة ولأرادة المقاومة ضد كل ما يطال الإنسان في كرامته سعياً لتجريده منها. كما أن الأدباء الذين كتبوا في موضوع أدب السجون لا يقتصرون فقط على المغرب العربي، بل هنالك الكثير الذين ينتمون إلى المشرق العربي ومنهم: سامي الكيلاني، عزت الغزاوي، فاضل يونس، عائشة عودة، جبريل الراجوب، والشاعران سميح القاسم وتوفيق زياد والشاعر الكبير محمود درويش الذين عاشوا تجربة السجن، وساهموا في إدانة الظلم في شعر لا يزال حاضراً في وجدان الإنسان العربي حتى اليوم”.
دوفينييه
وتحدثت المديرة المنتدبة للسياسة العلمية في المنظمة الجامعية الفرنكوفونية سيلفي دوفينييه، معتبرة أن “مكتب الشرق لأوسط في المنظمة الجامعية الفرنكوفونية التي تمثلها، يساهم في كل عام بأكثر من 25 تظاهرة علمية وثقافية في الشرق الأوسط، وهذه المساهمة إنما هي إناء للتبادل بين الباحثين والمدرسين والأساتذة الجامعيين أولا، كما يؤمن المكتب للأعمال البحثية وجوداً في المجتمع من خلال نشرها على الموقع الإلكتروني الخاص بمكتب الشرق”، معبرة عن سعادتها “بهذا الحدث ذات البعد الدولي الذي يؤكد عليه حضور مشاركين أجانب، سواء من إيطاليا وفرنسا أو من دول المغرب العربي، أي الجزائر، المغرب وتونس”.
كذلك توجهت بالتحية إلى الطلاب اللبنانيين الحاضرين في المؤتمر، خصوصاً طلاب طرابلس الذين جاءوا من جامعة “الجنان” الجامعة اللبنانية وجامعة البلمند، وقالت: “مقاربة أدب السجون إنما تقتضي أن يكون العمل عمل فريق، لأن هذا الأدب في دراسته يقتضي أن يطبق عليه المنهج البيني الذي يشرك الاختصاصات المختلفة، أي علم النفس، علم الإجتماع، علم السياسة والأداب، إضافة إلى كل الأخلاقيات التي ينبغي على الباحث أن يؤمن بها، وهذا المنهج البيني المعتمد في مقاربة موضوع المؤتمر إنما يزيل الحدود بين مختلف العلوم ويجمعها حول موضوع إنساني له أهمية جذرية”.
الخطيب
وتحدث مدير كلية الأداب والعلوم الإنسانية – لفرع الأول الدكتور نبيل الخطيب فقال: “يصادف موعد انعقاد مؤتمر أدب السجون مع احتفال لبنان بذكرى كربلاء، وكان صرخة معتقل في السجون الإسرائيلية، جزء من صرخة الحسين في كربلاء، ضد الظلم والغدر. نلتقي اليوم، في رحاب الجامعة اللبنانية الوطنية الأم، لنناقش موضوعاً أدبيا، يحمل إلى جانب مضمونه العلمي، مضموناً وطنياً، قومياً، إنسانياً، يرفض الظلم والتسلط والاحتلال، مضموناً عبقاً برائحة النضال وبأريج الوفاء، وعزة الانتماء إلى الوطن، وإلى الأمة العربية، وإلى قضية الإنسان”.
أضاف: “أدب السجون بين المشرق والمغرب، أدب النضال الذي ولد ويولد في عتمة الزنازين، وخلف الأبواب الغليظة والقضبان الحديدية، والجدران الأسمنتية المسلحة. الأدب الذي يخرج من رحم الوجع اليومي، من عمق أحقية القضية النضالية، التي سببت الألم الأساس، يخرج من المعاناة النفسية ومن القهر الذاتي. أدب السجون الذي عبر ويعبر عن مرارة التعذيب وآلام التنكيل وهموم الأسير، وتوقه الى الحرية والى النور والى ضوء الشمس. هذا الأدب يستحق منا الدرس والنقاش وتناول قضاياه كي يزداد استبصارنا بها، وكي يزداد بحثنا في كيفية خدمة القضايا هذه، طالما هي عادلة”.
تابع: “درس الأدب هذا، لا يخدم الجانب العلمي فيه وحسب، بل يخدم قضية هذا الأدب، ويعمق احساسنا بها وتضامننا معها. أدب السجون يكتسب خصوصية من حقيقة أحداثه، التي تتأرجح بين الواقعية والخيال، لتسلط الضوء على معاناة الإنسان المحتجز دون إرادته. نحن نعلم أن ما كتبه الأسرى الفلسطينيون رفد الأدب الفلسطيني، بدوافع المناهضة للاحتلال واكتسب خصوصية الثورة وعنف الإبداع وطهارة الانتماء”.
وختم الخطيب: “ادب السجون له قيمة وثائقية، اجتماعية ونضالية، صرخة وجع عبرت عن قضية ناهضت الظلم، هو ظاهرة لافتة في الأدب العربي، ظاهرة القبض على الحجر. الجامعة اللبنانية تنظم الملتقى هذا، لتساهم في تثبيت حرية الفكر، وحرية النقد، ونقد النقد التفكير بالأمور كما هي، بالمعنى الأنطولوجي الوجودي لحرية الفكر، الأمر الذي يقتضي التحرر من حالة التقليد، والمحاكاة والصد المتبادل، يهمنا خلق دينامية ثقافية تفاعلية”.
السيد حسين
وفي الختام، تحدث رئيس الجامعة الدكتور عدنان السيد حسين مرحباً بالحضور والمشاركين من إيطاليا وفرنسا بشكل خاص، مهنئاً المحاضرين العرب بتحررهم من “السجن الكبير الذي فرضه عليهم الاستعمار”، متحسراً على “وضعنا العربي لأننا لا نزال في سجن كبير، سجن يبتعد بنا عن الإنسانية والحرية”، مستذكراً “إخوة لنا يعانون من هذا السجن الكبير بفعل ما يمارس فيه من إملاءات وقهر ثقافي واجتماعي وعنصرية عرقية وغيرها، إضافة إلى تمييز بين المرأة والرجل”، متوقفا عند السجن الإسرائيلي “الذي لا يحرك إلا الفلسطينيين وبعضا من العرب”، متسائلا “لماذا لا يحرك العالم برمته؟”.
وتوقف عند شرعة حقوق الإنسان “لا سيما عند ما تنص عليه في ديباجيتها او افتتاحيتها من إقرار لحق الشعوب في تقرير المصير”، رابطاً بين السجن والإبداع الأدبي، وقال: “ان السجن الكبير هو الذي أطلق شعر محمود درويش، فأتت كلمته وكلمة غيره ممن عاشوا تجربة السجن في الداخل الإسرائيلي والخارج العربي كلمة حرة لمواجهة هذه السجون، غير أن للحرية ضوابط ترتضيها ضمن القوانين المرعية، ولكن إن خيرت بين القبول بالحرية على تناقضاتها دون ضوابط والسجن، لفضلت هذه الحرية على السجن”، مشيداً “بدور كلية الأداب والعلوم الإنسانية التي تعد الأقدم بين كليات الجامعة اللبنانية إلى جانب كلية الحقوق والعلوم السياسية”، لافتاً إلى “أن الجامعة اللبنانية استطاعت أن تخرج خلال 50 عاماً الآلاف من حملة الإجازات من كل المناطق اللبنانية، من بيروت إلى البقاع والجنوب والشمال والجبل، وهي بذلك تعكس صورة المجتمع اللبناني بتناقضاته وإيجابياته”، طالباً من أهل الجامعة “الدفاع عنها، وليس نقل الشارع ومشاكله إليها، لأن الجامعة وكلية الآداب خاصة، رغم الإضطرابات التي تؤرق الوطن، استطاعت أن تنأى بنفسها عن مشاكل الشارع، ولولا ذلك لما وجدنا هذا المؤتمر اليوم، ولا الحلقات الدراسية المتعاقبة وورش العمل وإعادة تأهيل البرامج والمناهج”.
ولفت السيد حسين إلى أن “المساجين اليوم هم أكثر فهماً لأهمية الوطن وقيمه منا نحن الطلقاء”، موكلا للجامعة اللبنانية وكلية الآداب الإنسانية “حمل الراية في تقدم الثقافة الوطنية والإنسانية في لبنان”.