نال مكسيم غوركي ( 1868 – 1936) شهرة عالمية في اوائل القرن العشرين ، وهو لما يزل شابا في حوالي الثلاثين من عمره وأصبح واحداٌ من الكتّاب الأكثر مقروئية في روسيا والعالم.
وفي العهد السوفيتي اطلق اسمه على المدن والشوارع والمصانع والجامعات والمكتبات والمسارح والمتنزهات وحتى بعض السفن والطائرات، ربما يتبادر الى الذهن اسماء بوشكين وجوجل وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف. حقا كان هؤلاء الأدباء هم الأكثر شهرةً وأسماهم مكانةً في الادب الروسي، ولكن لم تطلق اسماؤهم على المدن، ولم يتم اقامة تماثيل لهم، ولم تدرّس أعمالهم في المدارس والجامعات،عندما كانوا على قيد الحياة .
اذكر جيدا عندما كنت ادرس في موسكو، في الستينات من القرن الفائت، كان الشارع الرئيسي في قلب العاصمة، وبارك الثقافة الرحب البديع ، ومسرحان اثنان، ومعهد الأدب العالمي، ومحطة مترو، تحمل اسم غوركي ، وينتصب تمثاله شامخاً أمام محطة قطار “بيلاروسكايا”. أما اليوم، فإننا لا نجد في موسكو شيئاً يذكرنا بالكاتب العظيم، ولا حتى زقاقا ضيقاً يحمل اسمه. فمنذ عهد البريسترويكا حاول العديد من النقاد الروس الجدد، العاملين في خدمة دور النشر والإشهار التجارية النيل من مكانة غوركي الرفيعة على خارطة الأدب الروسي والعالمي، والبحث عما يزعم من ازدواجية شخصيته أو غموضها، وعن اسراره الشخصية الموهومة، انسجاما مع التوجه السياسي العام في البلاد.
وفي الوقت نفسه أخذ غوركي يستعيد مكانته السابقة في الغرب بظهور العديد من البحوث العلمية عن حياته الحافلة بالإنجازات الإبداعية والأحداث المثيرة. كيف يمكن تفسير هذا التناقض بين النظرتين الروسية والغربية الى غوركي وتراثه؟
لم تكن شهرة غوركي مصطنعة أبداً، ولا نتيجة للدعاية السوفيتية، وانما جاءت على نحو طبيعي وسريع بعد خطواته الأولى في المجال الأدبي في العهد القيصري. فقد نشر النقاد والباحثون خلال العقد الاول فقط من نشاطه الادبي (1892- 1902) ما يقرب من 2000 مقال وبحث عن اعماله. لم يكتب مثل هذا العدد من البحوث عن اي كاتب روسي آخر خلال تلك الفترة . وكان محل اعجاب وتقدير كبار الأدباء وبضمنهم تشيخوف وكورولينكو وليونيد اندرييف وبلوك وتسفيتايفا، والنخب المثقفة والقراء العاديين على حد سواء.
انتخاب مكسيم غوركي عضوا في أكاديمية العلوم الروسية عام 1902، أثار حفيظة القيصر نيكولاي الثاني وأمر الأكاديمية بالغاء هذا الانتخاب. وقدم انطون تشيخوف وفلاديمير كورولنكو استقالتهما من الأكاديمية احتجاجا على ذلك .فقد كان تشيخوف يقدّر عالياً موهبة غوركي، وقال في احدى رسائله عام 1902: ” إن غوركي موهبة كبيرة وحقيقية، وهو مصنوع من عجينة الفن” .
وقال في رسالة أخرى مؤرخة في عام 1903: ” غوركي كاتب كبير. وهو أول من كتب بازدراء واشمئزاز عن (البورجوازية الصغيرة) في روسيا والعالم، في وقت كان فيه المجتمع مهيئا للاحتجاج. سيأتي زمن تنسى فيه أعمال غوركي، ولكنه هو نفسه من غير المرجح ان ينسى حتى بعد ألف عام “.
غوركي كاتب استثنائي وجاء “في الوقت المناسب” تماما، ولا اقصد بذلك شعبيته الواسعة، بل ان اعماله عبّرت عن تناقضات الواقع وعن هموم الكادحين والتطلعات الانسانية والآمال الدفينة للشعب الروسي في العصر الذي عاش فيه، وهذا العصر هو الذي مجّد غوركي واكسبه شعبية هائلة .
عندما كان غوركي في المهجر في مدينة كابري الإيطالية كان يدعو الى ثورة اشتراكية انسانية، والى احترام الأديان لا محاربتها، كما كان ينادي بذلك لينين. وكان هذا مبعث خلاف شديد بين الصديقين لينين وغوركي. ولكن الخلاف بينهما لم يصل الى حد القطيعة ذلك لأن كلاً منهما كان بحاجة الى الآخر. كان الحزب البلشفي بحاجة الى سلطة غوركي المعنوية الكبيرة في روسيا وأوروبا، وعلاقاته الواسعة مع خيرة الأدباء الغربيين. وكان غوركي بدوره يعتقد ان الحزب البلشقي هو الحزب الوحيد القادر على احداث التغيير في المجتمع الروسي .
ورغم أن غوركي لم يكن عضواً في الحزب البلشفي، الا أنه قدّم للحزب مساعدات مالية كبيرة من دخله الشخصي، تقدّر بمئات ألوف الروبلات. وكان هذا مبلغاً ضخماً في ذلك الحين. في وقت كان الحزب يمر فيه بفترة عصيبة في العهد القيصري، وكان الكاتب يتوقع أن تحقق الثورة آمال الجماهير العريضة، ولكنه أصيب بخيبة أمل. فبدلا من الحرية والمساواة وصيانة الكرامة الإنسانية وصوغ انسان جديد لا يعرف الأنانية ونزعة التملك ويعمل من اجل اسعاد الشعب، رأى في ثورة اكتوبر1917 “تمردا روسيا شرسا لا يعرف الرحمة ولا معنى له”.
وبين عامي 1917 –1918 نشر غوركي في صحيفة (نوفايا جيزن) التي كان يصدرها سلسلة مقالات تحت عنوان “أفكار في غير أوانها” ينتقد فيها البلاشفة نقداً لاذعاً. واطلق على البلاشفة اسماء من قبيل: “المتعصبون العميان” و”المغامرون”، وأدان بشدة العنف الفوضوي والقتل المجاني، والاعتقالات التي لا معنى لها. ودعا المثقفين الى توعية الشعب، كطريق وحيد للخلاص من العنف اللامبرر. وقد جمع غوركي هذه المقالات في كتاب صدرعام 1918 . ولم تظهر طبعة جديدة منه، الا في عام 1990.
ورغم الوضع الاقتصادي المتردي واصل غوركي عمله التنويري في تأسيس دور نشر تتولى ترجمة ونشر “الأدب العالمي”. النفوذ المعنوي الهائل للكاتب انقذ عشرات الأدباء والعلماء المبدعين من الإعدام ومئات غيرهم من الاعتقال أو النفي. ولكن محاولاته كانت تصطدم احياناً بعناد السلطة، فقد أخفق في انقاذ الشاعر “غوميلوف” زوج الشاعرة “آنّا أخماتوفا” من الإعدام، ولم ينجح في اقناع السلطة بالسماح للشاعر العظيم الكساندر بلوك بالسفر الى ألمانيا للعلاج . وكانت نهاية بلوك المفجعة – الموت مرضا وجوعا – مؤلمة للكاتب الإنساني .
الموقف الذي اتخذه الكاتب في السنوات التي تلت ثورة اكتوبر، وخاصة دفاعه المستميت عن الأدباء والعلماء المضطهدين، أثار استياء البلاشفة وفي مقدمتهم لينين الذي نصح غوركي عام 1921 بالسفر الى الخارج للمعالجة الطبية. وأضاف مازحاً: “وبعكسه سنرحلك”. وادرك غوركي معنى “نصيحة” لينين وغادر البلاد على اثرها .
وكان غوركي يعتزم العودة في غضون بضعة أشهر، ولكن الأمور جرت على نحو مختلف وتأخرت عودته أكثر من عشر سنوات .
عاش في البداية في المانيا. وفي عام 1924 سافر الى ايطاليا واستقر في بلدة (سورينتو) الجنوبية المشمسة .
عندما توفي لينين عام 1924 طلب غوركي أن توضع على النعش نيابة عنه باقة ورد كتب عليها “وداعاً يا صديقي”. ثم شرع بكتابة مذكراته عن لينين تحت عنوان “الإنسان الكبير” وخضعت المذكرات لرقابة شديدة في روسيا قبل ان تنشر في عام 1924. ورد في المذكرات الكثير من التفاصيل المؤثرة. وطيلة اقامته في الخارج (في ايطاليا اكثر الوقت) لم ينضم الى المهاجرين الروس، ولم يهاجم النظام السوفيتي، بل أخذ موقفاً ايجابياً من التحولات الجديدة ومحاولات البلاشفة لتحديث نواحي الحياة في روسيا. لذلك لم يفقد شعبيته في روسيا ولم تعتبره السلطة السوفيتية من المنشقين، بل بالعكس وجهت اليه دعوات كثيرة من منظمات ثقافية ومهنية للعودة الى البلاد. وجاء غوركي في زيارة الى روسيا عام 1929 لجس النبض والاطلاع على الأوضاع العامة فيها. وقوبل بحفاوة شديدة واحتفلت البلاد بالذكرى الستين لمولده بحماس كبير، واطلق اسمه على الفرع الادبي لجامعة موسكو وانتخب عضوا في الاكاديمية الشيوعية وما الى ذلك من مظاهر الترحيب والتقدير.
خلال هذه السنوات عمل على استكمال الثلاثية المستوحاة من سيرته الذاتية “الطفولة” و”في معترك الحياة” و”جامعاتي”، كما كتب رواية “قضية أرتامونوف” (1925)، ومسرحية “إغور بوليشيف وآخرون” (1932).
حاولت السلطة السوفيتية استمالته واغراءه للعودة الى الوطن. وقد زار غوركي روسيا ثلاث مرات في أعوام ( 1928، 1929، 1831)، و نظمت السلطة له خلالها جولات الى مواقع انشاء المشاريع الجديدة، ولكنه لم يزر قط معسكر الاعتقال في جزر”سولوفيتسكي”. كما زعم لاحقاً الكسندر سولجنيتسن في روايته “أرخبيل غولاغ”. وهذه الفرية وأكاذيب مفبركة أخرى شاعت على أقلام سماسرة (النقد) الأدبي العاملين في خدمة دور النشر والإشهار التجارية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، من أجل تشويه سمعة غوركي . ولا مجال هنا للخوض في كل الأوهام والأساطير التي تنسج اليوم لإبعاد الجيل الجديد من الاطلاع على أدب غوركي الإنساني ..
وفي يونيو 1933 عاد بشكل نهائي وقام بالاشراف على اصدار سلسلة من الكتب بعنوان “مكتبة الشاعر”، ومجلتين “إنجازاتنا” و”الدراسات الأدبية”. ساهم غوركي في الأعمال التحضيرية للمؤتمر التأسيسي لاتحاد الكتّاب السوفييت الذي انعقد في عام 1934. وضعت السلطة السوفيتية على الكاتب العالمي آمالاً كبيرة بوصفه شخصية قادرة على لمّ شتات التيارات الأدبية العديدة وتوحيدها في منظمة واحدة. في حين أن الكاتب نفسه كان بعيداً عن التفكير في السيطرة الشاملة على النشاط الأدبي .
كانت علاقة غوركي مع ستالين معقدة، ولم يثر الزعيم الجديد إعجابه الذي شعر به ازاء لينين، وفي الوقت نفسه ، من الواضح أن غوركي بدوره لم يحقق آمال ستالين ..
خصصت الحكومة السوفيتية قصرا لغوركي في موسكو كان يعود الى احد النبلاء الذين استولى البلاشفة على ممتلكاتهم، كما خصص له منزل صيفي للاستجمام على ساحل شبه جزيرة القرم. استغرب العديد من الناس الفخامة والرفاهية التي احيط به الكاتب البروليتاري ولكن المنازل الفاخرة كانت في الحقيقة “قفصاً ذهبياً “.
كان غوركي في العهد القيصري تحت مراقبة الشرطة، ولكن كان بإمكانه التواصل مع الجميع، والاحتجاج عبر الصحافة ونشر كتبه ومجلاته. اما في العهد السوفيتي، فإن اقرب اصدقائه لم يكن بوسعهم زيارته دون الحصول على موافقة امنية مسبقة، وقد احيط قصره بحراسة مشددة ومنع الناس من الأقتراب منه كمنطقة محرمة .
في عام 1934، توفي ابنه الحبيب مكسيم، بشكل غير متوقع – كان السبب الرسمي المعلن للوفاة هو الالتهاب الرئوي المزمن، ولكن العديد من افراد عائلته، بمن فيهم غوركي نفسه، لم يصدقوا ذلك، وأيقنوا أن موته كان مدبرا. وان هذا تحذير للكاتب الذي رفض كتابة رواية عن ستالين أو سيرته الذاتية .
ومنذ بداية عام 1935، كان غوركي قيد الإقامة الجبرية عمليا بذريعة “ضمان سلامة الكاتب البروليتاري العظيم ” ..
وكان هذا العزل تمهيدا لقتله. وفي عام 1935 طلب غوركي السماح له بالسفر الى المانيا أو ايطاليا للعلاج ولكن ستالين رفض ذلك بشدة .
من قتل غوركي ؟
في 6 يونيو 1936 اعلنت الحكومة السوفيتية تردي صحة غوركي منذ بداية الشهر، ولكن التقارير اليومية الصادرة عن الحالة الصحية للكاتب كانت سخيفة ومشوشة ومتناقضة وحافلة بالثغرات والكذب الصريح من اجل تهيئة الرأي العام لقبول فرضية الوفاة الطبيعية للكاتب الشهير، التي اعلنت في 18 يونيو 1936.
تم تشريح جثة غوركي على عجل فور مفارقته الحياة، وعلى طاولة الطعام في بيته الريفي. تم استخراج الأحشاء وخياطة الجثة بخشونة، ورمي دماغ المتوفي في دلو وتمّ نقله الى معهد الدماغ في موسكو. تقرير التشريح يشير الى ان الوفاة نجمت عن التهاب حاد في الفص السفلي من الرئة اليسرى. تم حرق ما تبقى من الجثة وحفظ رمادها. كان ستالين في مقدمة من شارك في مراسم جنازة الكاتب وحمل نعشه، وقد تم دفن الرماد في جدار الكرملين على خلاف وصية غوركي بدفنه بجوار ضريح إبنه في مقبرة “نوفي ديفيتشه” في موسكو .
في مارس عام 1938 اتهمت الحكومة السوفيتية رسميا اعداء الشعب – الجناح التروتسكي داخل الحزب – بقتل غوركي. حيث جرت محاكمتهم والحكم عليهم بالاعدام. مرافعة المدعي العام السوفيتي خلال المحاكمة تضمنت تفاصيل (اعترافات) المتهمين وتحليلا للأسباب التي دفعت المتهمين الى قتل غوركي ووصفا لطريقة القتل .
المدعي العام كان متناقضا في مرافعته حول كيفية قتل الكاتب، فقد قال مرة انه قد تم تسميمه، ومرة اخرى قال ان الطريقة الخاطئة المتعمدة، التي عولج بها هي التي سببت المضاعفات وادت الى وفاة الكاتب. وأشار الى خلاصة تقرير خبراء دون أن يسميهم بان غوركي مات نتيجة حقنه بجرعة كبيرة من المورفين وفي النهاية تم اعدام عدد من الذين كانت لهم علاقة بمعالجة الكاتب – ثلاثة قياديين في جهاز المخابرات بضمنهم رئيس الجهاز يهوذا واثنين من الاطباء المعالجين .
بعد وفاة الكاتب بدأ البحث عن أرشيفه الإيطالي. وكان يتضمن مراسلاته السرية المتبادلة مع عدد من قادة الحزب والأدباء البارزين المعارضين لستالين، الذين تمت تصفيتهم. كان الارشيف يقلق ستالين فقد كان هناك رسائل من بوخارين، وريكوف، وكامينيف وآخرين من قادة الجناح التروتسكي في الحزب .
ماريا بودبيرغ سكرتيرة الكاتب في سورينتو بايطاليا، التي كانت امراة قريبة من غوركي بكل المعاني، جلبت هذا الارشيف الى موسكو بتكليف من جهاز المخابرات. وخلال تشييع جنازة غوركي كانت تسير وراء ستالين مباشرة.
وظل لغز موت غوركي غامضا الى نهاية القرن العشرين عندما تم نشر الوثائق السرية ذات العلاقة بغوركي المحفوظة في ارشيف الرئاسة السوفيتية .
وقد توصلت ” لجنة اعادة الاعتبار الى أولئك الذين تعرضوا للقمع بطريقة غير مشروعة في عهد ستالين” الى براءة بعض الأطباء المعالجين لغوركي من التهم الموجهة اليهم، ولكن اللجنة لم تبرئ يهوذا والمختبر البايولوجي السري التابع لجهاز المخابرات. تم حقن الكاتب المريض بمصل دم ملوث بالبكتريا، تم جلبه من المختبر المذكور ، وهو مصل لم يكن خطيراً بالنسبة الى الأصحاء، ولكنه كان قاتلاً بالنسبة الى رجل مسن مصاب بمرض السل المزمن منذ سنوات عديدة .
كتب رجل الأمن المسؤول عن حماية قصر غوركي قي مذكراته يقول: “ان العديد من الأطباء أبدوا استعدادهم لمعاجة الكاتب المريض، ولكن طلباتهم رفضت كلها. وأن الأمبولة التي أرسلها القنصل الروسي في باريس وزعم أنه اكتشاف جديد وباهر بشفاء المريض. ولكن هذا المصل هو الذي أدى الى تفاقم حالة غوركي الصحية وموته”.
ترى لمصلحة من كان ازالة غوركي؟ هل قام يهودا بهذا العمل بناءً على أوامر ستالين أم من دون علم الأخير؟ يزعم بعض الباحثين أن المعارضة التروتسكية داخل الحزب البلشفي هي التي قامت بتصفية غوركي، ولكن ذلك يناقض الواقع، ذلك لأن قادة التروتسكيين الذين تمت ادانتهم والحكم عليهم بالإعدام كانوا من أصدقاء غوركي مثل كامينيف الذي انقذه غوركي من النفي قبل ذلك بسنوات. ونرى أن السبب الحقيقي لتصفية غوركي وازالته هو التمهيد للحملات القمعية الشهيرة والمحاكمات الصورية بين عامي 1937 -1838 التي كان ستالين يستعد عن طريقها إلى تصفية المعارضة لحكمه الدكتاتوري المطلق سواء داخل الحزب أو في أوساط المثقفين . ويقول تقرير رسمي أعده جهاز المخابرات بناء على طلب خروشوف بعد وفاة ستالين، ورفعت السرية عنه في سنوات البريسترويكا: “أن معدل عدد المعدومين بتهمة معارضة النظام بلغ خلال عامي 1937-1938 حوالى الف شخص يومياً”. ولا شك أن السلطة المعنوية الهائلة للكاتب الإنساني العظيم كانت ستقف عائقا امام ستالين لتنفيذ مخططه الدموي، نظراً لمعارضة الكاتب الشديدة لكل أنواع العنف اللامبرر .
كان ستالين يحاول استغلال اسم الكاتب وهيبته ونفوذه المعنوي الهائل لكسب الرأي العام، وليس كشخص له رأيه الخاص في ما يجري في البلاد. لقد ظل غوركي لمدة اربعين عاما سلطة اخلاقية حتى بالنسبة لأولئك الذين كرهوا حلفاءه السياسيين .
كانت اعمال غوركي قوة دافعة لحركات التحرر في العالم بأسره، وخاصة في البلدان التي كانت شعوبها ترزخ تحت أنظمة حكم رجعية ومنها العراق. وحتى اليوم نجد أن ثمة مئات العراقيين الذين يحملون أسماء بعض أبطال روايات غوركي مثل بافل وإيفان وغيرهما.
رشح غوركي خمس مرات لنيل جائزة نوبل في الاداب. وكان من ضمن المرشحين لنيلها عام 1933 ولكن الجائزة ذهبت ذلك العام الى الكاتب الروسي ايفان بونين – والأخير كاتب كبير بلا شك ويستحق الجائزة عن جدارة – ولكن العديد من الكتاب والشعراء الروس كانوا يرون ان غوركي احق من بونين لنيل الجائزة. وكتبت الشاعرة العظيمة مارينا تسفيتايفا تقول: “أنا لا أحتج، ولكني فقط غير موافقة، لأن غوركي كاتب اهم من بونين، وأكثر إنسانية، وأكثر فرادة، وأكثر ضرورة. غوركي هو عصر بكامله، وبونين هو نهاية عصر. ولكن هذه هي السياسة، لأن ملك السويد لا يمكن أن يمنح الجائزة إلى كاتب بروليتاري “.