طيور أيلول إلى الأعلى
أحبت زحلة اميلي نصرالله عصفورة العودة مع “طيور ايلول”، و زهرة “شجرة الدفلى”، ورهينة “تلك الذكريات”، الباهرة في “الإقلاع عكس الزمن”، تأتي من نقاوة البياض “على بساط الثلج”بحكايات تبهج قلوب الاطفال. وعرفها العالم النموذج الأبهى عن “نساء رائدات” من الشرق والغرب.
اميلي نصرالله، الاديبة والكاتبة الروائية والقصصية بامتياز، ظلت تفاخر بانها كاتبة صحافية أولا، وجدت نفسها بالصدفة بين محابر الباحثين عن المتاعب، دون ان تلوث أناملها وكلماتها بأي لطخة. وقامت بتواضعها البنفسجي بما لا يجرؤ عليه الكثيرون، في تحقيقات صحافية تتطلب الكثير من المغامرة، وباحاديث مع الذين يصعب الوصول اليهم.
أجمل روايات وقصص املي نصرالله تحكي وتحاكي املي نصرالله، تقرأها في كل كلمة كتبتها وتكتبها، وبخاصة فيما لم تنجزه واودعته الجامعة اليسوعية. عاشت كتاباتها بطيبتها العفوية وصدقها الشفاف، في بيتها السعيد وبكلمات مشرقة.
كانت زحله تفرح بها وتهلل لها كلما أطلت مع طيور ايلول، تواكبها في التحليق نحو الأعالي، نحو الحق والخير والجمال. وهي محملة باغمار زيتون الجنوب ومطيبة بعبق الوزال وأريج الصعتر، في كلمات ملكات، بهوى جنوبي… كم يؤلم زحلة اليوم ان تجدها تستبق وصول طيور ايلول في تحليقها وحيدة نحو الأعلى. وتترك لها ان تلقي لأحبائها ، من الأعالي، ما حملتها من نقاوة القرية، ونقاء الفِكر، من نفحَ الصعتر البرّي وأزاهيرَ ربيعٍ كلماتها الحُلوة بألوان الطيبة والصدق في كل مجالات الحياة، بالأمل عند الضيق وبابتسامة الرضى عند تحقيق حلم، ونشوة الانتصار عند تحقيق هدف.
برعت اميلي نصرالله في الصحافة، فاضفت عليها نفحة نسوية ناعمة بجرأة واخلاص وامانة، فصارت القلم الأحب الى القلب والاجدر بالاحترام لدى كبار الكتاب الذين آذروا بداياتها فصارت عنوان فخرهم والتباهي. ولكن بدعها لمع مع اول رواية كتبتها، وكانت تكتب هي نفسها في كل ما تكتب، فصارت اديبة كبيرة، وهي بعد صبية في رونق نضارتها، وفيض عطائها. ترجمت كتبها الى أكثر اللغات العالمية، وتألقت على المنابر تحاضر في ارفع المنتديات الجامعية والثقافية، وفي الصحافة بالاحاديث والمقالات الفكرية التقدمية والادبية الراقية والثقافية الجامعة والانسانية المنفتحة. كتابات تميزت بعمق النظرة الى شؤون الحياة ومعاناة الناس، في المدن الصاخبة كما في القرى البعيدة المهملة حيث العيش كفاف اليوم بعرق الجبين والتواء الظهر وعزة النفس من معين كنز قناعة لا يفنى… وتسعى الى اضفاء دفء القلب حتى في الكهوف المدنقة في صقيع كندا.
هذه القروية البريئة التي اقتحمت ميادين الحياة، مزودة برعاية حب امها وتوصيات عطف أهلها وكل أهل القرية، كانت أحرص منهم جميعا على ذاتها، لا لتكون عند حسن ظنهم بها، بل لتحقق ذاتها، بالتفوق كل يوم على ذاتها. انها في كل كتاباتها هي نفسها، بطلة رواياتها، وكلماتها تحكي صدق أحاسيسها وقلمها ياخذ مداده من عروقها.
في حياتها الشخصية هي اعظم منها في كل رواياتها، تُعطي من قلبها الكبير في بيتها ومع عائلتها والاصدقاء، أكثر مما تعطي بقلمها الغزير وكلماتها البليغة.
عندما مرض شريك حياتها كانت الى جانبه الملاك الحارس، تكتم ألمه في أعماق المها، وتخفي شعورها العميق الذي تكشف بخفر في كتابها المختلف عن رواياتها، كتابها الشعري “همسات”، فاذا بها أكثر من أديبة ومن كاتبة ومن محاضرة ومحدثة ثقافية، انها شاعرة، وشاعرة حُبّ كبير. كانت تحمل جيناته منذ اول حرف كتبنه، وهي تبوح به اليوم همساً، فيدوي بأعلى صوت. “أحسّت انها حرة”، وانه يمكنها ان تعلن انها انتصرت، بالحديث عن وجه طالع من ألف ليلة سهاد، حاولت عبثا اختراق اقنعته لتبلغه لهيب أشواقها، ولكنه في حبه لها لم تعوزه في مخاطبتها كلمات، فنظراته تبقى كتابها السرمدي، تقرأ فيها أعمق الاشارات وأدق الرموز.
” همسات ” قصيدة واحدة ، قصيدة حياة جميلة وغنية بكل مراحلها. أغنية عاشقة بوَلَهٍ ونقاء. لا تسأل عن اسم الحبيب، فوجهه المحبب امامنا في كل كلمة. “تسألوني هل أحببته؟ فادرتُ وجهي حتى لا ترشح أسراري من أعماق عيني… وعَبرك تتحوّل كلماتي الى فراشات ملوّنة . ويخرج اسمك من أعماق اللاوعي .
بهمسات كانت تخاطب رفيق حياة دخل قلبها وعقلها وكانت ملء قلبه وعقله. منحها سر كيمياء الحُب والنجاح ومنحته سر سحر الكلمة الجميلة ورونق قول الشعر. تفاخر به : زوجي ويفاخر بها: انا زوجها. كنا اثنين انتَ وانا، نتواصل نتفارق، واليوم ادركت …
ماذا أدركت؟ شأن كبار العباقرة في شعر الحب، يقول شاتوبريان: تتجلى عبقرياتهم وتظهر روائعهم عندما يشعرون بشمسٍ تغيب. وتغيب شمس فيليب، وكأنها شعرت عندئذ بان شمسها بدأت تميل نحو الغروب,
بقي لها قلمها والذكريات، فانصرفت تكتب عن “الزمن الجميل” وتزينه برسوم كأنه حكايا للأطفال. لطفولة طاهرة لم تبرح نفسها. لحظات توقف العمر، تخلده حباً ، يصفه بول فاليري ” بالعشق الولهان والنقي”… يُحفظ لاوقات الفرح ، لمن اعطوا كل هذا الحب.
طيور ايلول ستظل تحلق في كل السماوات، تنقل وتنشر كتبك بكل اللغات. ومحفوظاتها الأدبية الثرية، اودعتها اميلي نصرالله، حرم المكتبة الشرقية في الجامعة اليسوعية، احلتها مكانها المُميز في قلب أهراءت المعرفة العريقة التي راكمت منذ 140 سنة جنى الفكر الانساني، من مختلف بيادر الأدب والعلم والفن والقانون في العالم، مخطوطات ومؤلفات، ترجمات وشروحات.
في احتفالية تقديم محفوظاتها الى هذه المكتبة العريقة، ابنة الاربعين بعد المئة، جاراها رئيس الجامعة في القول: “ان الكتابة تكون تكريما للارض وللمرأة، وهي لا تستقيم الا ان صارت من لحم الكاتب ودمه”، واعتبر انك بدخولك هذه المكتبة تمنحينها فتوّة جديدة، وقال : ” ان هدفنا ان ننسخ الكترونيا هذه المحفوظات ونضعها على موقع المكتبة الألكتروني ليستفيد منها القاصي والداني، وكل من يريد استفادة علمية للوصول الى استخراج الفائدة القصوى منها”. وهو بذلك يعبر عن سروره الفائق ليس باغناء المكتبة الشرقية وحسب بعطاءات الاديبة الكبيرة اميلي نصرالله العديدة، ما نشر منها وما لم ينشر، وإنما تأكيده على ان دخول هذه الاديبة المميزة، أديبة العصر، المكتبة الشرقية العريقة ينفحها روحا جديدة تجعلها مكتبة عصرية، منفتحة على كل ابناء العصر، ويفيد منها أي دارس وباحث في العالم.
كانت هذه امنية رفاق القلم في زحلة، ان تنشأ مكتبة زحلية كبرى تضم كل ما كتب الزحليون، شعرا ونثرا، ادبا وسياسة، وما كتب عنهم وعن زحلة، وكل ما تركوا من آثار، لتكون مدينة النهر الجميل منارة أدبية عالية وعروس الشعر في الشرق. لا تزال الامنية قائمة، وستظل زحلة تنتظر، واجيالها الطالعة تجهد ليقوم هذا المركز الثقافي، فتعود اثار سعيد عقل المقيمة باكرام في جامعة سيدة اللويزة واثار اميلي نصرالله الغالية واثار كل المبدعين الزحليين، ليرتفعوا صرحا عاليا للثقافة، نباهي به العالم.
ايتها الأديبة الكبيرة، في كل مرة تأتي طيور ايلول وتمر من فوقنا، سننظر عاليا ونراها تكتب اسمك في سماء زحلة.
15 اذار 2018