أعيش الفصول الأربعة بتمامها وكمالها

(إهداء إلى من يقرأون ولا يقرأون)

ومن قبل إهداء موسيقيّ إلى الشّاعرة الرّقيقة الأنيقة زهور العربيّ الأديبة الغالية الحبيبة التي كتبت إليّ تعليقًا في”المثقف” الغرّاء فقرأته مليّاً، ورفعته مكاناً عليّاً، لما فيه من الصّدق الوجداني والشّاعرية المرهفة، قالت:

” أو تعيش الفصول الأربعة؟

وتتأقلم مع الصقيع

الأرعن

وتعانق الصباحات بزهو

وتشهد ميلاد شمسها الجديد

وتتناثر كحبات النّدى طربًا

على خدّ الورد وشوكه العنيد

وتكون للثّرى مثل النبيذ

تسكره،

وتسافر مع موجة الأحلام

تأسرها،

وتبني للسّعادة ديارًا

وتسكنها،

وتشهر في وجه الأقدار

حرفك،

وبحبر أقلامك،

تبلسم جرحك؟

ألله عليك أيّها القابض على الزّمن بكفيك

لتعيش فصوله وتستعبده.

هههههههههههههه

بكل الحب والتقدير.

وبعد أن رددت عليها بقصيدة قلت:

قصيدتك كونشرتو

ثمّ أردفت قائلا:

ألكونشرتو لون من ألوان التّأليف في الموسيقى الغربيّة، نشأ واستقام على طريقة تأليف الصّوناتا،(Sonata) وهي المعزوفة التي توضع لآلة مفردة (Solo)مثل البيانو أو الكمنجا أو التشيللو، أو لآلتين تتجاوبان، أو لثلاث آلات وتسمى Trio-Sonata والإيطاليّون هم مبتكرو هذا اللون من التّأليف في عصر الباروك (Baroque) على امتداد قرنين من الزّمان من سنة 1550 – 1750 وعصر الباروك يعني عصر الزّخرفة والتّحلية والتّأنّق والفخامة في المباني والنّحت والرّسم وسائر الفنون ومنها الموسيقى.. وكان لتطوّر آلة الفيولينة (الكمنجا) كآلة صادحة رقيقة شادية تتمتع بقدرات هائلة في التّعبير تأثير كبير على تطوّر أشكال التّأليف الموسيقي الغربيّ، إذ بلغ إتقان العزف عليها مرتبة من التّقدم والرّقيّ ممّا دفع بالموسيقيّين في القرن السّابع عشر إلى التوسّع والتّفنن في طرق الانتفاع بهذه الآلة الجميلة وحدها أو مجتمعة بغيرها من الآلات الوتريّة في الأوركسترا.

يُبنى الكونشرتو عادة على ثلاث حركات موسيقيّة ونادرًا على أربع، الحركة الأولى تكون سريعة والثّانية بطيئة، والثّالثة سريعة مرحة، والكونشرتو على نوعين:

الكونشرتو الكبير:(Concerto-Grosso)

وفيه تقوم بمهمة العزف مجموعة كبيرة من الآلات الوتريّة، وتقابلها مجموعة صغيرة، والمجموعتان تتشاركان وتتباريان في العزف، لان كلمة كونشرتو باللغة الإيطالية مستمدة من فعل المشاركة والمباراة..

وفي الكونشرتو غروسّو تستهلّ الحركة الأولى بلحن بسيط واضح تقدمه المجموعة الاوركسترا الكبيرة، ثم يتلوه جزء انفرادي فتقدّم المجموعة الصّغرى (الكونشرتينو) لحنًا آخر، وهكذا تتطوّر الأدوار بين المجموعتين ويتداخل العزف بينهما ثمّ ينفصل إلى العزف الانفراديّ للمجموعة الصّغيرة، وتتمّ العمليّة من عرض إلى نشر، وإعادة عرض وتلخيص كما هو الحال في الصّوناتا، وهو ما يشبه مع الفارق الكبير قالبًا معروفاً في الموسيقى الشّرقية يدعى ” التّحميلة ” فهي الأخرى تُبني على التّناوب والتّجاوب بين عزف المجموعة وعزف التّقاسيم الانفراديّة لكلّ عازف على حدة مع تحوّل المقامات.

إنّ تسمية كونشرتو غروسو ونسبتها تعودان إلى الموسيقى الإيطالي كوريللي وكان من مشاهير عصر الباروك.ومن مشاهير مؤلفي الكونشرتو هاندل وباخ وتيلمان من الألمان. وبورسيل من الإنجليز، وكوبران من الفرنسيّين.، وأمّا توريللي وألبينوني وفيفالدي (1675-1741) وسكارلاتي ومارشيللو) وتارتيني من الايطاليّين، فهم جميعًا انتبهوا الى ضرورة التّدوين الموسيقيّ منذ ثلاثة قرون..

وبالرّجوع ثانية إلى مسالة بلوغ صنعة الكمنجا أرقى درجات الإتقان كآلة موسيقية على أيدي أشهر صانعي الآلات الوتريّة الإيطاليّين، فإنّ لهذا الرّقي دورًا حاسمًا في تطوّر

الكونشرتو الكلاسيكيّ الإنفرادي ، بسبب الإمكانيّات المتاحة لعازف الكمنجا الماهر (الفرتيك) وهو العازف الماهر المرتجلVirtuosoالي ظهور الــ وهذا ممّا أدى إلى في النّوع الثّاني من الكونشرتو وهو الكلاسيكيّ الانفراديّ، وفيه يكون التّقابل والتّناوب والتّجاوب والتّباري ليس كما في الكونشرتو غروسو بين مجموعة كبيرة من الآلات ومجموعة صغيرة بل بين مجموعة وتريّة كبيرة وآلة مفردة مثل الكمنجا أو البيانو أو النّاي إلخ..

في الكونشرتو الكلاسيكيّ الانفراديّ تفتتح المجموعة الوتريّة عادة بجملة موسيقيّة لعرض المواضيع الرّئيسيّة للكونشرتو، وبعدها يأتي دور العازف الفرد (الصولو) ويحلّ في موضع Virtuosoفي موضع مركزيّ في الحلبة، وياخذ يصول ويجول بعزف منفرد بينما المجموعة بالمقابل تاخذ مركزًا ثانويّاً، فتردّ الصوت على العازف الفرد، والذي يكون طبعًا عازفًا ماهرًا يمتاز بالحركة السّريعة الرّشيقة، ويتمتع بمقدرة على الارتجال الفوري ، فعندما تسكت الآلات المقابلة تعطي له الحريّة في عرض مقدرته على العزف الفنّيّ السّريع، وكذلك تتاح له الفرصة لإظهار موهبته في الارتجال، (مثل اللواح الشّاطر” الفرتيك” الماهر في الدّبكات الشّرقيّة عندنا فإنّه ينفلت من رأس المجموعة ليندفع إلى وسط الحلقة ليضيف على حركات الدّبكة رقصات ارتجالية من عندياته، بينما حلقة الدّبكة تلزم مكانها لتضمن له الإيقاع بالتّصفيق بالأيدي ورقع الأرجل بالأرض حتى إذا فرغ من حركته عاد منتظماً في رأس الدّبكة لتتمّ الحركة الثّانية والثّالثة) الخ..

لعل من أقدم وأسطع الأمثلة على هذا النوع من الكونشرتو هو كونشرتو ” الفصول الأربعة ” للموسيقار الإيطالي أنطونيو فيفالدي، الذي بزغ نجمه في الربع الأخير من عصر الباروك. وإنّ هذا الكونشرتو هو موضوع حديث هذه الحلقة، ولكن قبل الدّخول في الحديث عنه تجدر الإشارة إلى أنّ موزارت (1756-1791) هو الذي أعطي الشّكل الفنّيّ المحكم للكونشرتو الكلاسيكيّ، وإنّ له خمسين كونشرتو من هذا النّوع. وأمّا بالنسبة لبيتهوفن (177 -1827) فإنّه طبع ما ألّفه من كونشرتو بطابعه الخاصّ، وقد أتاح للعازف الانفراديّ مهمّة خاصّة جليّة إلى حدّ التّعبير الرّومانسيّ الحالم، بينما مجموعة الآلات بالمقابل تباريه وتتصدّى له لأنّه أوغل في الأحلام، فتلحّ عليه بأن يعود إلى الواقع، وذلك في خمسة كونشرتوات للبيانو، وكونشرتو واحد للكمنجا وهو إنتاج له أهمية كبيرة في زمننا..

كما نشهد في الفترة الرومانسيّة فنّانين لامعين أعطوا في فنّ تأليف الكونشرتو أعمالاً لها سحرها، ومنهم مندلسون وشومان وبراهمز من الألمان، وشوبان البولوني وليسْتْ الهنغاريّ وتشايكوفسكي الرّوسيّ.

ويظلّ الكونشرتو يشهد التّركيز على الفيرتشؤوز (العازف الماهر) وتظلّ الفرتزة (الفَرْتكة) مطلباً فنياً عند الكثيرين كما هي الحال عند باغانيني الإيطالي وهو من أشهر عازفي الكمان، وكذلك عند المحدثين من الرّومانسيين المغالين أمثال رافيل الفرنسيّ وريجر الألماني وسترافنسكي وبروكوفييف الرّوسيّين وخاشاتوريان الأرمنيّ..

وبعد هذا العرض الموجز السريع لظاهرة الكونشرتو بنوعيه في الموسيقى الغربيّة أرى أن أدخل في الموضوع العيني الذي حمل عنوان هذا الحديث وهو كونشيرتو الفصول الأربعة(Four Seasons) الحامل اسم La Stravaganza فأقول:

إنّ تغيّر فصول السّنة كان قد أوحى إلى عدد من الموسيقيّين الغربيّين أعمالاً ذات نهج تأليفي آخر، وذات قيمة فنيّة كبرى، ومنهم باتيست لولي 1632 – باريس 1687 م) وهو مؤلف موسيقي فرنسيّ من أصل إيطالي. فإنّ له متتابعات راقصة تمثّل الفصول الأربعة، ويكون الطّقس في كلّ فصل هو الشّخصيّة المركزية، وكذلك أليساندرو إسكرلاتي، وهو إيطاليّ في سيرانادا (معزوفة غنائية مسائية) تحكي عن الفصول الأربعة وجوبتر، أما لويس لامير الفرنسيّ فله مجموعة أناشيد، وليس معروفًا إذا كان لامير هذا قد اطّلع على كونشرتو الفصول الأربعة لفيفالدي أو لا، وحتّى هيندمت الألمانيّ وهو من المتأخرين فقد ألّف في الأمزجة الأربعة ولكن يظل كونشرتو فيفالدي ” الفصول الأربعة ” هو أشهرها، ويعتبر أوّل محاولة جادّة في الموسيقى التّصويريّة أو ذات البرنامج كما يسمّونها. وله غيره اثنا عشر كونشرتو لآلة الكمنجا، وقد كان عازفاً ماهرًا لهذه الآلة، اشتهر بدقة عزفه ونقائه وجماليّته، وكان مجيدًا في خلق انسجام كامل بين الأدوات الوترية.

قدّم فيفالدي لكونشرتو الفصول الأربعة بأربع سونيتات شعريّة واحدة لكل فصل وهي كالأتي:

Spring

تغريد عصافير مرحة على وشوشات وغنج السّواقي، وشقع مزاريب الأسطحة والعيون، وهمس النّسمات المداعبة، وبرق يتبعه رعد وعاصفة ، والعصافير لا تأتلي في تغريدها مع حفيف الأوراق في الحقل المزهر، والرّاعي المتعب يكسر نعسته على كتف صخرة، بينما كلبه الأمين باسط ذراعيه على مقربة، وعلى نغمات مزمار القصب ترقص الحوريّات والرّعاة رقصات إجلالاً للرّبيع

Summer

الفلاحون يسيرون الهوينا والقطعان ترتع تحت أشعة الشّمس اللاهبة وطائر الوقواق الجبلي يشهق واليمامة الرّؤوم تهدر وطائر الشّويكي يُنَقْوِد حَبّ العنَّاب ويسقسق، ونسمات بحرية تهبّ رُخاء، وفجأة تعترضها رياح شماليّة عاصفة والرّاعي الصّغير دامع العينين، ولسان حاله وهو مذعور يقول:

شمالي يا هوا الديرة شمالي

على اللي بلادهن صارت شمالي

أنا لارافق الغيم الشّمالي

ندى واسكبْ على دروب الحباب

يا لها من رياح نكباء ، لا ترحم إنّها تتصارع ـ فتقلق راحة الرّاعي الصّغير الخائف، وإنّ خوفه في محلّه فالسّماء مغبرّة تعلوها كدرة، وغيوم حمراء نارية، بينما الزّوبعة تلعب برؤوس السنابل لعبة ” لفّتتك ما لفّتتك!!

Autumn

يحتفل الفلاحون بالحصايد على أنغام القصايد.. يعلو التّرنّم بالأغاني والأناشيد، ويشتدّ الرّقص، إنّهم يشربون..يثملون ويتركون الرّقص، ويركنون إلى سبات عميق.. يطلع الفجر، ويخرج الصّياد بأدواته يحمل قرناً وبندقيّة، وكلبه يجري ويلهث.. الطّريدة مذعورة تسمع النفخ من قرن الصّياد فتهرع إلى الجوّ… يتلوها على التوّ إطلاق نار.. عبثًا… تحاول الهروب.. إلى أين تسرع ؟ والموت أسرع! تخرّ عاثرة الحظّ وتلفظ أنفاسها بين براثن المنية.

Winter

برد قارس.. ندف ثلج وقشعريرة تنخر العظم، وريح صرصر تقص المسمار، تجعلك ترقع قدميك بالأرض كأنك في دبكة، أسنانك تقضقض، وأنت مرتعد الفرائص، تلزم جانب الموقدة والرّيح تخبط على باب بيتك وشبابيكه وجدرانه، وعندما تخرج مستوضحاً الجلبة تمشي بحذر لئلا تنزلق قدمك على الجليد.. ها أنت تعثر فتقوم وتجري فتسمع تشقق الجليد تحت قدميك.. وفي الليل تُصيخ السّمع إلى ريح زعزع شرقيّة تصطرع مع ريح شماليّة عاتية..

يعلن فيفالدي بهذا الكلام على الملأ أنه يريد التّصوير ، فكان له ما أراد وقد تمكّن بفصوله الأربعة من خلق موازنة بين ما يقتضيه التّصوير من وصف دقيق ومن حفاظ على شكل موسيقيّ فيه تشدّد وتقيّد بالقاعدة للغاية، وهي أنّ حيويّة التّصوير تتيح للعازف الانفرادي ّالفيرتؤوز الفرتيك البارع أن يتقن الفرتزة في الكونشرتو، وبواسطتها يحصل فيفالدي على تأثير عزفيّ فيه تلوين وتنويع من مجموعة وترية عاديّة تعتمد على التّناوب والتّجاوب والتّقابل مع آلة مفردة ليصل باستغلال التّباين الصّوتي للآلات إلى أقصى الحدود.

أعتقد بأن سماع كونشرتو الفصول الأربعة لفيفالدي نافع وخاصة لطلاّب المدارس العربيّة عندما يقرأون على معلّمهم قصيدة ” إرادة الحياة ” لأبي القاسم الشّابّي، فإنّ وصف الشّتاء فيها وكذلك وصف الرّبيع يشابهان وصف فيفالدي لهما: هذا بالنغمات وذاك بالكلمات،. وإنّني أعتقد أيضًا بان تشغيل هذه المقطوعة الموسيقيّة على مكبّر صوت في ساحة المدرسة لمدّة ربع ساعة أثناء انتظام الصّفوف فيها، ثمّ في الفرصة الأولى خلال شهر لهو خير من ألف شهر من سماع وعظة الصّباح من قبل مدير المدرسة بصوته الأجش يكررها عليهم بتهديد ووعيد كل يوم بلا رحمة. فلنجربْ ذلك

فلعلنا نستفيد، وإلا فلا نخسر شيئا.

وفي الحلقة القادمة سأكتب تخربتي لمّا حكيت لطلابي في المدرسة الثانوية عن الفصول الأربعة لفيفالدي ماذا لقيت من مدير المدرسة من مكافأة. والسلام.

اترك رد