احتفلت الحركة الثقافية أنطلياس، ضمن المهرجان اللبناني للكتاب، بمئوية المفكر والفليسوف شبلي الشميل، ونظمت ندوة شارك فيها فارس يواكيم، د. أسمهان عيد الياس، كرم الحلو، قدم لها وأدارها د. عصام خليفة. في ما يلي نص الكلمات:
د. عصام خليفة
في البلدة التي انجبت كبار المثقفين والفنانين، كفرشيما، ولد شبلي شميّل سنة 1850، في أسرة مثقفة. أخوه الأكبر وليم كان مدرّساً مولعاً بالفلسفة والعلوم الطبيعية، وأخوه الثاني أمين كان محامياً.
توسم فيه والده إبراهيم ملامح الذكاء فأرسله الى الكلية الأميركية ببيروت. تخصص في الطب وتخرّج عام 1871. ارسله والده الى باريس لمزيد من التخصص حيث اقام فيها مدة سنتين انتقل بعدهما الى الاستانة حيث قدم امتحاناً في الطب فكان في طليعة الناجحين.
عاد إلى وطنه، وما لبث ان انتقل الى مصر وهو في سن الخامسة والعشرين من عمره. اقام في طنطا عشر سنوات يمارس الطب، ويكتب المقالات العلمية. في هذه الأثناء اعتنق شبلي مذهب داروين وراح يبث مبادئه بين قراء العربية ثم نقل الى العربية كتاب “شرح بخنر على مذهب داروين” ووضع له مقدمة ونشره عام 1884.
عام 1885 انتقل شميّل الى القاهرة واستقر فيها وأصدر في 15 شباط 1885 مجلة الشفاء. تصاعد الجدل بين الطبيب الدارويني شارك فيها أشهر حملة الأقلام في مصر والبلاد العربية. قارعهم الحجة بالحجة وكان قوي البيان شجاعاً بارع الأسلوب. وهكذا ذاع صيته في الطب والمجتمع والصحافة وكان في طليعة من حملوا راية التفكير العلمي الحر وتناولت مقالاته الفلسفة والطبيعة والشعر والسياسة والقانون وحقوق المرأة والاجتماع وقضية الحرب والسلام وموضوعات أخرى عديدة. اما أهمّ الصحف والمجلات التي كتب فيها (مصر الفتاة، سركيس، المقتطف، المقطم، المؤيّد، البصير، المشير، الأطباء، الوطن، الهلال، الجريدة إضافة الى الشفاء وغيرها…)
شبلي شميّل العالِم، المناضل والمفكر الاجتماعي رفع شعاراً أساسياً: “الحقيقة ان تقال لا ان تُعلم”. في مواقفه وابحاثه تجلّت النزعة التحررية النقدية بأكمل مظاهرها. قال عنه رئيف خوري: “انه كان فلتة زمانه في قبول النظريات الجديدة في العلم والسياسة واعتناقها اعتناقاً مدركاً واعياً” (الفكر العربي الحديث، بيروت، 1943، ص 108).
صحيح انه قال “دين الانسان الحق هو العلم” (مجموعة شميّل، ص 320)، وان الدين من حيث هو عقيدة يفرضها رجال معنيون، يقود الانسان الى الجمود والشفاء. “وعلى الدين ان لا يقف معترضاً في سبيل العلم وان لا يشتبك معه في خصام مضر للاثنين معاً، ولا يستطيع الدين ان يثبت فيه” (فلسفة النشؤ والارتقاء، ص 270) ويضيف في كتابه (فلسفة النشؤ والارتقاء، ص 57): “فدينا التوحيد السائدان اليوم هما دين الانجيل ودين القرآن. الأول يعلمنا التساهل الى حد ان ينسى الانسان نفسه في مصلحة قريبه أي أخيه. والثاني يجعل الفقير شريك الغني فيما له اذ يفرض عليه نصيباً منه… وكلاهما فيهما من الحِكم الرائعة والآداب العالية ما يجعلهما في مبدأ هما الاجتماعي مطابقين لرأي أعظم الفلاسفة المصلحين الاجتماعيين اليوم”. ويستطرد (ص 33) “فنرى مما تقدم ان الدين نفسه ليس العقبة الحقيقية في سبيل العمران بل رجال الدين أنفسهم”.
على الصعيد السياسي كان شميّل يرفض الحكم الملكي المطلق رفضاً قاطعاً، وجميع الشرائع الاستبدادية، التيوقراطية أو الاوتوقراطية، ويرفض حتى الحكم الملكي المقيّد، ويؤيد الحكم الانتخابي، لأنه يفسح المجال للتعبير عن الإرادة العامة ومصلحة الجمهور. فهو يؤيد النزعة الليبرالية في انتخاب الحاكم والنزعة الاشتراكية في تعيين وظائف الحكم. ولم يكن اشتراكياً بالمعنى الماركسي للكلمة. وكان يفضل استعمال كلمة اجتماعية عوضاً عن كلمة اشتراكية. هو إصلاحي تطوري ولا يقول بالثورة منهجاً رئيسياً لتغيير المجرى الاجتماعي. أعظم وسائط الارتقاء بالنشؤ – يقول – انما هو الاتفاق الذي لا يقرر شيئاً إلاّ تدريجاً وبعد ان يتم التراضي عليه. (د. ناصيف نصّار، نحو مجتمع جديد، دار النهار، 1970، ص 45 -46).
إلاّ أنه في كتابات أخرى يرى ان الثورة المنتظرة والتي لا بد منها هي ثورة تنصر الشعوب فيها بعضها بعضاً والأمم بعضها ينصرون بعضهم على حكوماتهم لقلبهم وابدالها بما يكون اوفق لروح العصر واحفظ لمصلحة الجمهور (رفعت السعيد، المرجع السابق، ص 54). ولكنه في كل حال هو يدافع عن الحرية لكل الناس، لأعدائه ولأصدقائه على السواء.
وبالنسبة لخياراته السياسية فقد تطورت بين الإصلاح في الدولة العثمانية مروراً بالخيار السوري وصولاً الى الانتماء اللبناني حيث قام بتوقيع بعض المذكرات المقدمة من الاتحاد اللبناني. وله مقالات ملفتة (لبنان، لبنان، لبنان)، (لبنان سويسرا الشرق؟)، (لبنان الجميل ولبنان المشوّه ومطالب اللبنانيين النافعة).
وقد سألت استاذنا د. ناصيف نصّار قبل أيام عن رأيه بشبلي شميّل فأجابني فوراً انه، بين كل المثقفين اللبنانيين في عصر النهضة، الأقرب الى لقب الفيلسوف.
يبقى أن نؤكد، بمناسبة مئوية وفاته، ان شبلي شميّل هو مفكر عملاق، ورائد عبقري دافع بشجاعة عن العلم والحرية، وصارع طوال حياته من اجل ثقافة تتفق مع الحداثة. وان امثاله من المفكرين يبقون نبراساً لشعبنا مع تتابع الأيام.
فارس يواكيم
عندما يُذكر شبلي شميّل يردُ إلى الأذهان مسلسل صوَرٍ فيه أولاً رجل العلم، معرّف قراء العربية بفكر دارون وواضع مصطلح “النشوء والارتقاء”. تليه صورة المفكّر السياسي المدافع عن العلمانية والداعي إلى الاشتراكية. وربما ظهرت صورة الطبيب والطب دراسته ومهنته. لكن ندر أن ظهرت صورة الشاعر، إذ بقيت في الظل ولم تنل نصيبها من الأضواء الكافية.
بيد أن شبلي شميّل شاعر، وذو أسلوب يميّزه عن سواه. وإنْ كان هو لا يتحمس لفكرة الانتساب إلى الشعراء، بل يتجنبها. لم ينشر قصائده في ديوان، ولم يجمع أحدٌ بعد رحيله تلك القصائد المتوزعة على صحف ومجلات زمانه. بعضها قصائد كاملة، وبعضها مقطعات أو قصائد قصيرة، وبعضها أبياتٌ كان ينظمها ويضمنها مقالاته العلمية ليشرح بالشعر فكرة أو ليدعمها، أو ليدوّن خاطرة. ولم يكن يَخفى عليه أن الشعر، خصوصاً في عصره هو، كان اللون الأدبي الأثير لدى القراء العرب. ومن هذه الشذرات قوله: “زرتُ بعلبك سنة 1870 فوقفت مبهوتاً من عظمتها ودقّة صناعتها، فكتبتُ على أحد حجارتها البيتين الآتيين:
المرء يسعى أن يسير إلى الأمام وليس يُحمد أن يسير القهقرى
أما أنا لما رأيتُ بَعْلَبَكاً فوددتُ لو أني أسير إلى الورا
وشبلي شميّل صاحب آراء نقدية مهمّة في جوهر الشعر كتبها في مقالات قبل مئة سنة ونيف، نستشف منها رؤية حداثية ما زالت صالحة في عصرنا. كتب في مقال يشرح نظرته إلى دور الشعر، قال: “يظهر أن الشعر لم يكن في كل العصور كما صار في بعض الأزمنة صناعةَ الذين لا صناعة لهم غير التزلّف للحكام، واستنداء أكفّ أصحاب المال (…) ولا صناعة المتباكين لاستعطاف الحسان وهنّ يقابلنهم بالإعراض (…) ولا صناعة مَنْ أذهلهم الترف فظنّوا الحياة خبالاً أو خيالاً، وما ظنوا ذلك لو عضّهم الجوع عضّة جامدة. ولا صناعة مًنْ إذا “ما خلا بأرضٍ طلب الحربَ وحده والنزالا” فقام يفلّ الجيوش بقنابل الكلام وهو يحفر في الأرض ليختبئ، بل كان صناعة الذين يعظّمون مفخرةً ليُقتَدى بها، ويصفون مظلمة ليُنتَبَه إليها، ويضربون الباطل لينصروا حقيقة، ويدوّنون حكاية ليعَوِّل التاريخ عليها”.
أما في الشكل فكان شميّل يقدم المعنى على المبنى مع تقديره التام لجمال الأسلوب. وفي مقال آخر كتب يقول: “أنت تستطيع أن تترجم شعر هوغو وموسّيه وروستان وتستفيد من ذلك غرضاً اجتماعياً وبحثا أدبياً أخلاقياً وعبرة تاريخية. لكنك لا تستطيع أن تترجم شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري ولا أن تستخلص منه شيئا من ذلك غير بعض الحكم والأمثال مشتتة في تلك الأدغال، لا رابط ينسقها. ولماذا؟ لأن هوغو أطلّ على العالم أجمع، فنظر إلى الحقائق، وبما له من قوة الخيال وحسن السبك ربطها وكساها من شعره حلّة مهيبة رهيبة. (…) فلو عُني المتنبي وأقرانه بالأمور نظيرهم وقصدوا فيه إلى مرامي اجتماعية عالية أكان خانهم خيالهم؟ أو لا كانوا فاقوا شعراء الإفرنج في دقة الوصف وقوة التصوّر وسعة الخيال؟”. هنا أيضا تكلم شبلي شميّل بلسان حداثي معاصر. فالشعر، خالياً من المعاني السامية، كلامٌ له رنينٌ آني لا يخلد. وهذه مشكلة الكثير من القصائد العربية العمودية، العصيّة على الترجمة الجميلة، لأنك إذا أفرغتها من المحسنات والبديع وزخارف اللفظ غدَتْ خالية الوفاض. وليست الترجمة وحدها هي المعيار الذي يكشف الغثّ من السمين، بل إن مثل هذه القصائد لو صاغها ناظمها نثراً لبَدَتْ هزيلة القيمة.
فكيف نظر شميل إلى الشعر شعرا؟ رأيه في الشعر ودوره فيه سرده في مطوَّلة عنوانها “التحول في الشعر” جاء فيها:
ليس لي في الشعر مطلبْ إنما لي فيه مذهبْ
تارةً أرغبُ في النظم وطوراً عنه أرغبْ
لست بالشاعر لكن علَّ حكمي فيه أصوبْ
هو للنفس حياةٌ ولكرب النفس مسربْ
وهو إما رقّ أشجى وإذا ما اشتدَّ ألهبْ
وله الزُهرة توحي وبه المريخ يغضب
فإذا الطفل المفدّى ينصل السهم ويضربْ
وإذا فولكان في نيرانه يطفو ويرسُبْ
هو للشكوى من الظلم إذا ظلمٌ تغلَّبْ
إنْ يُصِبْ منّا قعيداً كالجسم المكهرَبْ
يصعق الظلاّمَ حتى ليس للظلاّم مهربْ
يصف البؤس ويصمي مَن لداءِ البؤس سبَّبْ (..)
يصف الحبّ ويرقى ذروة الحبّ “المرتَّبْ”
يَجْرُدُ الجوهر إمّا جاز للتجريد مذهب
يعبد المعنى لذاتٍ لا صفاتٍ في مشَبَّبْ
فإذا في الكون جمالٌ يتقصّاهُ ويعجبْ
في نواح الورق يلقاهُ وفي الصخر المصلَّبْ
ويراه في هيولاهُ كطيب في مطيّبْ
لكنه لا يحبّذ الشعر الذي على نهج:
حاديَ العيس كما في عهد قيسٍ والمهلّبْ
نتغنّى بسليمى وعلى الأطلال ننحبْ
نتباهى بعظامٍ ليس فيها اليوم مسحبْ
شاعر الزلفى أضعت الشعر في زيدٍ وزينبْ
تقف العمر كأنّ الشعر مدحٌ وتشبّبْ
وجبينٌ في ترابٍ وفؤادٌ في تلهّبْ
ومقالٌ حسنهُ ما ان فيه القول أغربْ
بئسما الشعر غدا أعذبُهُ ما كان أكذَبْ
وقد انفردت مي زيادة في الكلام على شبلي شميل الشاعر في مقال نشرته عام 1913، قالت: “طبيبنا شاعر رغم إرادته. لقد وجدت في بعض قصائده شيئاً غير البحر والسجع والرويّ. وجدت تعبيرات جميلة وخيالات فخمة تتهادى بين أجرام المادة. أجل، وجدت قوة شعرية، لا أقول غزلية، في تلك النفس التي تدّعي احتقار الفنون. قوة من القوى الأولية أخفتها الحياة تحت طيات الاختبار الكثيفة، وحجبتها كبرياء العلم وتعصبه وراء أستار المادة الضخمة. هذا الساخر بالشعراء يعلم الشعراء التحوّل في الشعر. هذا المادي يسكر لأنين العيدان ولا يلبث أن يئنّ مع الأوتار منشداً:
فيا نوح الحمـــــام على هديـــــــــل بكينا معْه كل صَدٍ شريـــــدِ فما أحناك من صوت شجـــــيّ ومـــــا أوفـــــاه منِ خـــــلٍ ودودِ”
وأضافت مي : “بقولي إن الدكتور شميل شاعر لا أعني أنك تجد في قصائده رقة شوقي الذائبة أو عذوبة الخليل الجارحة أو دلال ولي الدين يكن المعذَّب. لا، الدكتور شميل بعيد عن هذه النغمات لسبب رئيسي وهو أنه يكتب بفكره فقط. ويندر جداً أن تسمع عواطفه متكلمة لأنّ شعره كنثره ينحدر من دماغه”.
وقد أصابت ميّ في توصيفها بأنه يكتب بفكره. ومع تأكيدها على الطابع العلمي لشعره إلا أنها رأت عكس ما يعتقده كثيرون “فهذا النوع من الشعر يزيد في ثروة اللغة وجمالها”. وأقول: صحيحٌ أنه في شعر شبلي شميل يتفوق المضمون على الشكل، ويطغى الفكر لكنه لا يطمس الأسلوب الذي يشي ببلاغة شميل الأدبية، وبتملكه من اللغة العربية. بل إنه وهو يستدعي مفرداته من قاموسه العلمي، يلبسها رداء الأدب. وحين نشر قصيدته “صدى النفوس” في مجلة “الهلال” وأعاد نشرها في “المقتطف” قدّم لها برأي علمي في الحياة، وفيه قوله “كل القوى الموجودة في الإنسان موجودة في سائر ما دونه من الكائنات، والاختلاف بينها اختلاف نسبة وارتقاء في التركيب، وأنها كلها تفعل لغاية واحدة، هي حفظ الذات، أي أنها من أصل طبيعي واحد. حب الذات هذا الذي ترقى بنا من أدنى إلى أعلى”. وحين صاغ هذا المعنى شعرا أوضحه ببيان بديع، وبرابط متين بين العلم والأدب، فالجاذبية التي تشدّ الأجرام الفلكية أحدها إلى الأخرى، هي ذاتها الجاذبية التي تحدد الحب الإنساني:
لولا الهـوى وبديع الشـوق يـهـديهِ ما صحّ في الكون معنى من معانيه ولا سـرى النجـم في العـليـاء وانـتـظمت لـه المـواقــع تــقـصـيـه وتـدنــيــــــــه شوق تكامل من أدنــــى الوجــــــــود إلى أعلى فأعلى إلى أعلى أعاليـــــــــــــــه حتى تـنــــاهى وقـلــــــــب المـــــــــــرء تلهبـــه نار من الحب يذكيها وتذكيــــــــــــــــــه
وفي خلاصة مقالها استشهدت مي بأبيات كتبها شبلي الشميل لتثبت شاعريته، وقالت: “وتعثر في قصائده على مثل هذا الوصف الجميل”:
حبــــــــــــــــــــــــــــــذا زهر الربــــــــــــــــــــــــــــــى من كل صـــــــــــــــــــــــــــــاف ومخضّب مثل فجــــــــــــــــــــر مستطــــــــــــــــــــــــــــــــير أو كأفـــــــــــــــــــــــــق قد تلهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب يتهــــــــــــــــــــــــــــــادى في نسيــــــــــــــــــــــــــــــم كتهادي الطفـــــــــــــــــــــــــل يلعــــــــــــــــــــــــــــب والنــــــــــــــــــــــــــــــدى من فوقــــــــــــــــــــــــــــــــــه حيران كالدمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع تصعّب قلق مـمّـــــــــا يعـــــــــاني قـلــــــــق القلـــــــــــــــــــــــــــــــب المعذًب
وأيّدها عباس محمود العقاد فيما ذهبت إليه. قال: “قرأت فيما روته الآنسة مي من نظم شميّل شعرا (…) فعلمت أنه قد ظلم شاعريته كما ظلم سائر الشعراء (…) ومن يستطيع أن يضرب على هذا الوتر ولو مرّة واحدة في حياته فقد كان قادراً ولا شك أن يعيد النغمة مراراً، وأن يكون أشعر مما كان لو راض قريحته على معاني الشعر وعباراته لولا شدة تعصبه للعلم”. كما أيّد جبران خليل جبران رأي مي الإيجابي في شبلي الأديب. كتب لها في إحدى رسائله يقول: “أنا معجب مثلك بالدكتور شميّل، فهو واحد من القليلين الذين أنبتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة في الشرق الأدنى، وعندي أن الشرقيين يحتاجون إلى أمثال الدكتور شميل حاجة ماسة كردّ فعل للتأثير الذي أوجده الصوفيون والمتعبدون في القطرين مصر وسوريا”.
وقلق جبران مردّه إلى انتشار الفكر الأصولي والخوف من أن يطغى التعصب على التديّن. ولعله وجد في شعر شميل ما يشفي الغليل:
لا يصلح الإنسان مجتمعا ما دام فيه الدينُ والوطنُ
ولم يزُلْ من علمه خطلٌ يضيع فيه العقلُ والزمنُ
محلّقاً في الغيب مُخْتَبَلاً كأنما الغيب له عَطَنُ
ويهمل الأرضَ وما كنزت الأرض وإنما الأرضُ له سَكَنُ
وعلمه إن لم يكن عملاً يرتاضُ فيه العقل والبدنُ
يستخرج الأسرار ما خفيت وتصدق العينَ بها الأذنُ (…)
موطنُه العالمُ أجمعهُ ودينه السلام لا الفتنُ
أو في أبياته التالية التي ينتصر فيها للعقل والرجاحة على العاطفة والأهواء:
فؤادك ما بين المنيّة والمنى يسائل أم ما في حجاك من الظما
إذا ما ترامى العقلُ يجلو حقائقاً شكا القلبُ أن الغبن في ذلك الجلا
وما الغبن إلاّ أن يرى القلب هائماً وتخفى على العقل الحقائق في الدنى(..)
ولو أنت أعملت الرويّة لا الهوى لأدركت أن الدين لا صوت بل صدى
كان شبلي شميّل يساريا صريحاً مؤمنا بالاشتراكية، وعلمانيا مناديا بفصل الدين عن الدولة. بيد أنه شدّد على حرية المعتقد ونظر بسلبية واستنكار إلى رجال الدين، قائلا: “الدين ليس العقبة الحقيقية في سبيل العمران، بل رجال الدين أنفسهم”. وسأل هؤلاء: “أين رأيتم في أديانكم ما يسمح لكم بأن تزرعوا في رؤوس أتباعكم الجاهلين، التفريق بين الناس إلى حدّ التباغض والتقاتل؟”. ونظم قصيدة قال فيها:
ليس يدري مقاصد الله عبدٌ إن للهِ في الخليقة سرَا
خاضت الناس في الظنون ولكن صاحبُ البيت بالذي فيه أدرى
لكنه رغم علمانيته وتأييده لحرية المعتقد في آن معا، ورغم احترامه الكبير للدين الإسلامي وقد عبّر عنه غير مرّة، فقد رفض الخضوع للسلطنة العثمانية لمجرد كون اسطمبول مركز الخلافة، وكان مناصرا للمنحى العروبي المناهض للعثمانيين. وهذا ما دفعه إلى الردّ على أحمد شوقي حين نظم أمير الشعراء قصيدة يبكي فيها انحسار العثمانيين عن مقدونيا التي تحررت منهم سنة 1913. كان شوقي استهل قصيدته بالأبيات التالية:
يا أخت أندلس عليك سلامُ هوَت الخلافةُ عنك والإسلامُ
نزل الهلال عن السماء فليتها طُوِيَتْ وعمّ العالمين ظلامُ (..)
جرحان تمضي الأمتان عليهما هذا يسيل وذاك لا يلتامُ
وجاءت معارضة شبلي شميّل على الوزن والقافية ذاتهما:
كلاّ وربّك ما هوى الإسلامُ لم يهوَ إلاّ الغاشم الظّلامُ
يا أيها العرب الأباة إلى متى طال البلا فلتنتخِ الأقوام
يا أرض سوريا الجميلة بلّغي بيروت عنّي ولتهبّ الشام
ولأرز لبنانٍ تُساق تحيتي وعليك يا أرض العراق سلام (..)
هبّوا فكم نؤتم لهول مظالم فيكم أتاها الترك لما قاموا (..)
نزلوا نزول الكارثات فزلزلت أرضٌ وخيّم في العقول قتام
تركوا المداين والحقول كأنها ما رادها ناسٌ ولا أنعام(..)
(ما للبناء على السيوف دوام) كلا ولا يرث الحسام حسام
يرث البلاد اليوم علم قد رسا وله السيوف جميعها خدّام (..)
وكان في رصيد شبلي شميّل ما يحميه من هجمة أصولية عليه. في هذا المضمار كان درعه قصيدته في النبي العربي الكريم “الحق أن يُقال”:
دع ْ من محمـد في سـُدى قرآنه ما قـد نـحـاه للـحمـة الغـايات ِ
إنـي وإنْ أكُ قد كـفـرت بديـنـه هـل أكـفـرنَّ بـمـحـكم الآيات؟
أو ما حوت في ناصع الألفاظ من حـكـَم ٍ روادع للهوى وعظات؟
وشـرائـع لـو أنهم عـقـلوا بـهـا ما قـيـّدوا الـعـمـران بالـعـاداتِ
نـعـْمَ الـمـدبـّرُ والـحكـيـم وإنــّه ربُّ الفصاحة مصطفى الكلمات
رجـُلِ الحجا رجل السياسة والدّها بطلٌ حليفُ النصر في الغارات
بـبـلاغة الـقـرآن قد غـلب النهى وبـسـيـفـه أنحى على الـهـامات
من دونه الأبطال في كل الورى مـِنْ سـابـقٍ، أو لاحـقٍ، أو آت ِ
وفي كتاب “شعراء النصارى العرب والإسلام” الذي نشرته مؤسسة البابطين في الكويت، حُذف البيت الثاني من القصيدة، إما سهوا وإما لتأويل معناه. من جهتي لا أعتقد أن الشاعر هنا بتعبير “الكفر” يقصد “الإنكار”، بل هو يقصد – والناس تعلم أن شبلي شميل مسيحي – أنه وإن لم يكن على ملة المسلمين، أو ليس معتنقا دينهم، إلا أنه لا يقوى على عدم تبني “محكم الآيات” القرآنية، “وما حوت في ناصع الألفاظ من حكم….” مما أتى الشاعر على ذكره في الأبيات التالية في إطار إعجابه بتعاليم القرآن الكريم.
ومن الوجوه الأخرى في قصائد شبلي شميل، ما نظمه في أحوال البلاد. وفي عصره كانت صحيفتان تصدران في القاهرة: “الأهرام” و”المقطم”. وناشرو هذه وتلك لبنانيون. وحدث أن استعر الخلاف بينهما وتبادلا المناوشات الإعلامية. وكانت “المقطم” تميل إلى السياسة البريطانية و”الأهرام” ذات ميول فرنسية. وكان شبلي شميّل على علاقة جيدة بالطرفين. أصحاب “الأهرام” آل تقلا، أبناء بلدته كفرشيما، وأصحاب “المقطم” فارس نمر ويعقوب صرّوف وشاهين مكاريوس مثله تخرجوا في “الكلية السورية الإنجيلية” (الجامعة الأميركية) فنظم قصيدة من أبياتها:
في مصر قامت ثورة بين المقطم والهرمْ
من عهد عادٍ ما سمعنا مثلها بين الأمم
وتساقط الأشلاء واصـ واصطبغت واصطبغتْ ـطبغت مياه النيل دم (..)
حربٌ ولكن نارها بردٌ لإيقاظ الهمم
وتنبهت من بعد طول رقادها تلك الرممْ
وبرغم جديّة العالِم وصرامته، لم يكن شبلي شميّل متجهما. يحكي عنه الذين عاصروه أنه كان ظريفاً ميّالا إلى السخرية. وله في هذا المجال قصيدة نظمها بعدما أصابته نوبة ربو. كتب الطبيب الشاعر الأديب:
في نوبة من النوبْ أعدّها شرّ النوبْ
صحوت من نومي مذ عوراً على صوت النوبْ
لكنما أنغامها ليس بها داعي الطرب
فيها صفيرٌ وصريرٌ وصليل وصخبْ
خرخرة حشرجة وكلّ أصوات العجبْ
وفوق صدري جبل يهوي به ثم يثبْ
ومن جبيني عرق منحدر مثل الصبب
والأنف مفتوح الكوى مصفّراً لا عن غضبْ
يجدُّ في سَحْبِ الهوا وكم يعاني من تعبْ
إضافة إلى ظرف الساخر ودقة الطبيب في تشخيص المرض، لفت نظري أيضا الأديب المتبحر في بلاغة اللغة. في البيتين الأولين استعمل مفردة “النوب” ثلاث مرات: الأولى بمعنى “المرّة”، والثانية جمع “نائبة” والثالثة اسم آلة موسيقية. كأنما نحن بصدد فن العتابا في الشعر العامي اللبناني. (وفي اللهجة العامية أيضا : دقّوا له النوبة”).
وإذا كان الموت لم يشغل باله كطبيب، فقد اهتم به من وجهة نظر المفكر العلمي وبصياغة الأديب. من مقالة عنوانها “تأثير العلم الطبيعي في الأديان” كتب يقول: “فكرة البقاء بعد الموت لم ترد في بال الإنسان في أول الأمر، أو كانت غير معيّنة، ولم تنشأ فيه إلا بعد ذلك بزمن طويل، فارتسمت له حينئذ مرارة الموت ودفعته إلى محبة الذات”.
ونظم كأنه يضع نص وصيّته يقول:
ادفنوني في القبة الزرقاءِ إنْ قدرتم، فذاك أقصى رجائي
متم تمفذاك أقصى رجائي لا بقبرٍ في الأرض… لا كان قبرٌ
ضيّق النقب ضيق الأرجاءِ أودعوني المنطاد ينقل جسمي
أودعوني المنطاد ينقل جسمي في فسيح الخلا وصافي الهواءِ
ولْأنَلْ في المماتِ ما لم أنلْهُ في حياتي من بعد طول العناء
في الختام أشير إلى أن شبلي شميل كان معجبا بشاعر عربي كبير. ومَن استعرض انتماءات شبلي شميل العلمية والفكرية، لن يتعجب إذا سمعه يقول: “لا شك أن أبا العلاء المعرّي هو فيلسوف الشعراء قاطبة، وأكثر شعراء العرب علماً وأرجحهم عقلاً، وهو الوحيد بينهم الذي ترفّعت نفسه عن تلك الدنايات ومال عقله عن سفساف القول إلى الحقائق ومحاربة الضلال”.
وقد صاغ شبلي شميل معارضة شعرية لقصيدة أبي العلاء الشهيرة “هذا جناه أبي عليّ وما جنيتُ على أحد” بالأبيات الثلاثة الآتية:
فلو ارتضيتُ بما جناهُ أبي عليَّ وما انفردْ
لم أشكُ إلا دهرَنا وبذاك تعزية الولدْ
لكن جنيتُ أنا عليَّ وما جنيتُ على أحدْ
… وكان شبلي شميّل جريئا في تناول الموضوعات التي تلامس المحرمات، وكان عصره جريئا مثله. أحبَّهُ البعض وعارضه البعض الآخر، لكن لم يعتدِ عليه أحدْ !
الدكتورة اسمهان عيد الياس
في الأول من كانون الثاني، من العام 1917، رحل ذاك العبقري، وبقي فكره متوهّجاً. هو المتعدد المواهب، في الطب والفلسفة والأدب والشعر. وهو اول من استحق، عن جدارة، لقب عالم وفيلسوف في هذا الشرق[1].
حمل نبراس العلم والحرية والعدل. أعلى شأن العقل. شدد على قيم التسامح والشجاعة والصدق، والتزم بها. هو الذي يعدُّ “الأجرأ والأعلى صوتاً والأكثر جدلاً في عصره”[2]. إنه الرائد النهضوي الكبير شبلي شميّل. من اقواله:
“كن شديد التسامح مع من يخالفك في رأيك، فإن لم يكن رأيه كل الصواب، فلا تكن أنت كل الخطأ بتشبثك. وأقل ما في اطلاق حريّة الفكر والقول، تربيّة الطبع على الشجاعة والصدق، وبئس الناس اذا قسروا على الجبن والكذب”[3].
كم نحن بحاجة الى استعادة هذا الفكر التنويري، وهذه القيم، في هذا العصر الذي يفتقد الى العقلانيّة والقيم الانسانية، والوطنيّة الصادقة.
يأتي شبلي شميّل (1850 ـ 1917)[4]، هذا الفيلسوف اللبنانيّ الفذ، من بلدة كفرشيما، في سلسلة ذهبية تضم كبار النهضوين أمثال “الشدياق وناصيف اليازجي وأديب اسحق ويعقوب صرّوف وجرجي زيدان. “إلا أنه لم ينهج نهجهم، اذ جعل الفلسفة وكده”[5]. وفكرة النشوء والارتقاء لم تفارقه، بل اتخذها نقطة انطلاق لفلسفته الماديّة وكتاباته الاصلاحية والسياسيّة. فجاءت في معظمها اصلاحية ـ ثوريّة، تعبر عما يجيش في فكر هذا الفيلسوف من قلق على الحريّة والمصير.
ولما كانت مداخلتي في هذه النَدوة تتناول “الفكر السياسي عند شبلي شميّل”، فسأعرض الموضوع كما استنتجته من بعض مقالاته التي نُشرت في “المقتطف” و”الأهرام” و”المقطم” و”لسان الحال” وغيرها. وقد جمع هذه المقالات وحققها الدكتور اسعد رزّوق، في كتاب حمل عنوان: “الدكتور شبلي شميّل: كتابات سياسيّة واصلاحيّة”[6].
كيف تجلى هذا الفكر؟ وما هي قيمته؟
إنّ المطّلع على كتابات شميّل من خلال هذه المقالات يلاحظ أنه لم يكن مفكراً سياسياً، بقدر ما كان مصلحاً اجتماعياً. لأن غالبية مقالاته، كانت موجهة لأصلاح المجتمع الشرقي. فلم يكن هدفه إنشاء نظرية في السياسة، بل كان همه الاصلاح. وهو المطلع على التقدم الهائل الحاصل في الغرب، ويؤلمه، بالمقابل، ما حلّ بالشرق من انحطاط على الصعدين الاجتماعيّ والسياسيّ. فكانت هذه المسألة همّه الأكبر.
كما نلاحظ أنّ مقالات شميّل في السياسة اتسمت بجرأة نادرة، وصراحة غير مألوفة في ذلك الزمان، وبراعة في التحليل غير معهودة خلال العهد الحميدي، حيث استشرى الفساد ولجأ السلطان عبد الحميد الى بث الجواسيس، واشتدت وطأة الظلم والاستبداد[7].
وقد تدرجت كتاباته في الاصلاح، من اصلاح الشرق بعامة، الى اصلاح وطنه لبنان. هذا الوطن الذي أحبه حباً شديداً، وتمنى أن تنقل رمّته اليه، الى مسقط رأسه في كفرشيما[8].
ـ كيف نقرأ شميّل مصلحاً سياسيّاً؟
لقد ادرك شميّل بثاقب نظره ما كان يحاك للسلطنة العثمانيّة من قبل الدول الغربيّة الطامحة الى الاستيلاء على مقدراتها، وقضم اراضيها بالتدريج، حتى ينتهي أمرها، وتسيطر عليها سيطرة كاملة. انبرى شميّل يدعو الى الاصلاح، وأخذ يفند الاسباب التي أدت الى انحطاط الشرق وتقهقره. فيقول:
1 ـ في اصلاح الشرق:
“أما الشرق فهو لفظة تعم بلاداً واسعة، تضم أمما وشعوباً وقبائل متباينة الاصول والفصول، مختلفة في الشكل وفي قابليات العقل، تجمعها اليوم جامعة واحدة، هي تراخي النظام وفساد الاحكام وانحطاط المدارك العقلية، وفساد المبادئ الأدبيّة، لا علم يحميها، فهي بحكم تنازع البقاء معرضة للذل والشقاء، تعمل لأسيادها أهل الغرب، وأسيادها بها يعبثون”[9].
ورأى شميّل في مقارنة بين حكومات الغرب وحكومات الشرق، أن سبب تفوق الأولى هو الحكم من خلال الشرائع، وسبب انحطاط الشرق ملوكه المطلقو السلطة، فيقول: “أما الفرق بين حكومات الغرب والشرق، فإن تلك تحكمها شرائعها وهذه تحكمها ملوك. فأماتت حكومات الشرق من أممه عواطف الشهامة والإقدام… وقوّت فيهم كل الصفات الهادمة لصروح الاجتماع بما أخمدت من قوى العقل باطفائها نور العلم… فلا عجب بعد ذلك اذا رأينا الغرب باسطاً فوق الشرق يديه طامحاً ببصره اليه مزمعاً أن يقبض عليه”[10].
2 ـ في اصلاح الأمة العثمانيّة (1896)
بعد أن فنّد شميّل مكامن الضعف في الشرق بعامة، انتقل الى اصلاح الأمة العثمانية في رسالة وجهها الى السلطان عبد الحميد بعنوان: “شكوى وآمال”[11]، يناشده فيها إصلاح الأمة، فيقول:
“ليس من ينكر أنّ الأمّة العثمانية قد تقهقرت جداً في حين أن الأمم الأخرى بلغت شأواً بعيداً في الرفعة… فما هو السبب الذي لأجله هي آخذة في الارتفاع ونحن آخذون في الانحطاط؟[12].
يجيب شميّل أنّ “سبب تأخرنا وتداعي الملك هو فقدان العلم والعدل والحريّة من المملكة. اركان ثلاثة من دونها لا يعتز ملك ولا تسود أمّة”[13].
فإذا سُلبت الحريّة من أمّة امتنع العدل، واذا امتنع العدل، يقع الظلم[14]. واذا انتفى العدل وساد الظلم، ينطفئ نور العلم. واذا كانت الامّة مؤلفة من اديان مختلفة فهناك الطامة الكبرى لأن الجهل يثير نار التعصب فيها وينسيها جامعتها الوطنيّة ويبعثها على تمزيق شملها بأيديها[15].
ويحدد شميّل الخطوط الرئيسيّة لاصلاح الأمة على النحو التالي:
1 ـ نشر العلم في البلاد باسلوب يقرّب بين طوائف الأمة حتى تصبح كلها قلباً واحداً في محبة الوطن والسلطان.
2 ـ النظر الى ابناء الوطن كأنهم شعب واحد بقطع النظر عن أديانهم ومذاهبهم.
3 ـ إقامة العدل بين الناس حتى يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات.
4 ـ صيانة وضبط مصالح الأمة[16].
5 ـ إطلاق الحرية للأمة لتنطق بالشكوى وتشير الى الاصلاح، من خلال اطلاق حرية الجرائد[17].
6 ـ تأليف مجلس يسمى مجلس الأمّة، تنتخب اعضاؤه، من الأمة على اختلاف الأديان والمنازع والمواطن ليتولى النظر في مصالح الأمة[18].
لم يكتفِ شميّل بالتوجه الى السلطان، وتحديد مكامن الفساد في السلطنة، وإيجاد الحلول لها. بل تجرأ على المطالبة بتجريد السلطان من السلطنة الروحيّة[19]. فلا اصلاح من دون الفصل بين السلطتين السياسيّة والدينيّة. فيقول: اذا ارادت الحكومة الحاضرة أن تصون المملكة العثمانيّة، عليها تجريد السلطان من السلطنة الروحيّة وحصر الخلافة في شخص آخر[20]. وبذلك يكون شميّل من الآوائل الذين بشروا بالعلمانيّة، وفصل الدين عن الدولة.
كما هاجم شميّل العصر الحميدي هجوماً عنيفاً، واتهمه بعصر الجاسوسية واللصوصية والفساد والظلم وقتل الأبرياء[21]، ودعا الى إصلاح القضاء[22].
3 ـ اصلاح لبنان
بعد مقالاته المتعددة في اصلاح الشرق والأمة العثمانية، يتوجه شميّل الى اللبنانيين، بمناسبة اعلان الدستور (1908)، منتقداً اياهم، بالقول “بينما الاتراك يفكرون كيف يغلون يد السلطان عن تعدي الدستور، نرى الناطقين “بالضاد” يفنون البخور حول اعتابه”[23].
ويذكرهم بواجباتهم تجاه وطنهم، يقول: “على اللبنانيين عموماً أن يحققوا المأثور عنهم من الذكاء والعلم والنشاط ويغتنموا هذه الفرصة لأصلاح خلل الحكومة ووضع نظامات الجبل التي توفر لهم المنافع… فحق الجبل أن يكون في بضع سنين جنة سوريا بل جنة المملكة العثمانيّة”[24].
يحذرهم (في العام 1912) من الاتكال على الدول العظمى لأنها لا تتحرك إلا لأجل مصالحها، ولا على الدولة العثمانيّة، لأنها تتعامل معهم كأعداء، بل أن يتكلوا على انفسهم. فيقول : على الأمة العثمانيّة عموماً، و”على اللبنانيين[25] خصوصاً، ان لا يعتمدوا في أمورهم إلا على انفسهم… وعليهم قبل كل شيء أن يعدلوا عن دس الاختلافات الدينيّة والمذهبيّة في شؤونهم السياسيّة، وجعلها ذريعة لحكامهم للضغط عليهم، وان ينظروا ما عليهم من الواجب نحو انفسهم ووطنهم وإلا فمصيرهم كمصير حكامهم معروف”[26].
كما نرى شميّل سنة 1912، يطالب في ثلاث مقالات له في جريدة الاهرام ، بعنوان: “لبنان. لبنان. لبنان”[27]. و”لبنان… سويسرا الشرق”؟ او “لبنان الجميل ولبنان المشوه”[28]، باستقلال لبنان واعطائه حقوقه البريّة والبحريّة، فيقول: الاضطراب لا يهدأ في لبنان إلا اذا اعطي حقوقه، ويرى أنّ “حقوق لبنان من البر، كل البقاع الخصيبة التي هي بمثابة حدود طبيعية له، ومن البحر: كل الشواطئ البحريّة الطبيعيّة المرتبطة من صيدا الى طرابلس ـ الشام. فلماذا لا تعطى له؟ فلا بد من اعطاء لبنان استقلاله التام وتحويله الى إمارة تحت سيادة الدولة، يوضع على رأسها أمير اجنبي لم يعرف نظام الاحكام الفاسدة في الدوائر الشرقيّة، ويضم اليه نخبة من اهل الخبرة من رجال اوروبا ومن اهل سويسرا لادخال الاصلاح المطلوب بالسرعة اللازمة ـ كما فعل محمد علي في مصر. ولا ريب عندي أن هذه البقعة اذا أديرت على هذه الصورة تصبح في وقت قريب اجمل من سويسرا نفسها وتدر الخير على ابنائها”[29].
ويدعو اللبنانيين الى أن يتحدوا بكل طوائفهم ليساهموا في اصلاح الحكم في لبنان. ويقول: “اتحدوا… واطلبوا جميعكم بصوت واحد… وكونوا يداً واحدة، في ايصال لبنان الى حدوده الطبيعية، واسترداد أراضيه المغصوبة وحقوقه التامة في حكم نفسه… حركوا همم اخوانكم في المهجر لينصروكم… وبغير هذه الخطة … لن تحصلوا شيئاً لا من حكومتكم ولا من الدول الأخرى”[30].
4 ـ في اصلاح الأمة السوريّة
كما توجه في العام 1915 الى الأمة السورية[31]. بخطاب لم يكن مغايراً كثيراً عما قبله، اي الخطاب الذي توجه به الى اللبنانيين.
فقال: “بعضنا يصبو الى الاستقلال التام وحجته أن الانسان أخلص لنفسه من سواه وهو قول حق. ولكن مثل هذا الاستقلال يحتاج قبل كل شيء الى قوة تدعمه، وتصد عنه كل اعتداء عليه من خارج. ونحن ليس عندنا قوة لا للحصول عليه ولا للاحتفاظ به”[32].
لهذا إقترح في بادئ الأمر أن يقبل السوريّون طوعاً، بسيطرة أجنبي يمتلك الكفاءة والخبرة والعلم ويساعده فريق متخصص. وبعدها يستلم الوطنيون الحكم بعد أن يكونوا قد تدربوا على الحكم وإدارة البلاد[33].
نستشف من هذه المقالات أن شميل وعلى الرغم من معارضته للسلطنة العثمانيّة ورغبته في الحريّة والاستقلال، لم يطالب بالخروج عنها بشكل نهائي. بالمقابل، نراه يهاجم المطالبين بالمركزية، ويعتبرهم “طبالين”. ويطالب باللامركزية الاداريّة، وهو من مؤسسي هذا الحزب[34].
لكنّ المطالبة بالحريّة والاستقلال عن الدولة العثمانية، في ذلك الزمن، كانت تهمة تعرض صاحبها للاعدام. وهذا ما حصل عندما اصدر جمال باشا، في العام 1915 بياناً لتعقب “الجمعيّة الثوريّة العربيّة” والمجتمعة في مصر تحت اسم “حزب اللامركزيّة” يتهمهم بفصل البلاد السوريّة والعراقيّة عن الممالك العثمانية، ويصدر حكم الاعدام بحقهم. من بين هؤلاء الدكتور شبلي شميّل، ولكنه نجا من هذا الحكم لانه كان في مصر. أما الذين كانوا في بلاد الشام فكان مصيرهم إما النفي وإما الاعدام[35].
كما تبنى شميّل “الاشتراكيّة الصحيحة”[36] المبنية على العلوم الطبيعية، والتي ترتكز على قاعدتي “التكافؤ والتكافل”، وتحقق العدل والمساواة بين الافراد من خلال الاشتراك في العمل والمنفعة.
إنّ شميّل هذا الفيلسوف الاصلاحي، التنويري، رأى بثاقب نظره ما يمكن ان يؤول اليه مصير السلطنة العثمانيّة ان لم يتحقق الاصلاح، فتنبأ لها بالزوال. كما نبه من اطماع الدول الغربيّة في السلطنة وسيطرتها على مقدراتها. ولكن نشوب الحرب العالميّة الكبرى التي امتدت نارها الى سوريا ولبنان وحصدت مئات القتلى من الجوع والحرب، حطمت آمال شميّل بالاصلاح، وهو القائل: “هذه الحرب الجنونيّة، اسأمتني حتى اسقمتني”. فشعر حينها أن جلّ ما يمكن فعله، هو توجيه نداء الى المهاجرين، لارسال المال، الى “سورية المعذبة الجائعة” لانقاذها من براثن الجوع والموت. و”افتتح الاكتتاب بخمسة غروش”[37]. وبعدها لم يطل أمد حياته، بل فارق الحياة ولم يرَ نهاية الحرب، ولا بزوغ فجر الاستقلال.
في الختام نقول إنّ هذه الآراء الجريئة التي جاهر بها شميّل في الإصلاح، لو لم يكن مقيماً في مصر، حيث تمتع “المهاجرون السوريّون” (الشوام) بقدر بارز من الحريّة في التعبير من خلال مواقعهم في ميدان الصحافة والنشر”[38]. لكان مصيره اما السجن وإما الاعدام.
أما أهميّة افكار شميّل الاصلاحية والسياسيّة، فتكمن في رؤيويتها، وراهنيتها. فمطالبته بنشر العلم والعدل والحريّة، واللامركزية، واصلاح القضاء، والابتعاد عن الانقسامات، ونبذ الطائفية البغيضة، وتدبير شؤوننا بانفسنا، وعدم الاتكال على الدول الاجنبيّة، أليست كلها مطالب لشعوبنا الشرقية في عصرنا الحاضر؟ ألا تستطيع ان تكون خريطة طريق لمشروع اصلاحي سياسي واجتماعي، ينقذ اهل الشرق مما يتخبطون به من أزمات وذل وتبعية؟
****
[1] ـ المرجع نفسه رقم 1 ، ص 18.
[2] ـ بختي، سليمان. الدكتور شبلي شميّل، رسالة في الهواء الأصفر والوقاية منه وعلاجه، ورسالة في المعاطس لأبن جلا، اعداد وتحقيق حسن شمص، بيروت، دار نلسن، طبعة أولى 2018. ص9.
[3] ـ شميّل، شبلي. فلسفة النشوء والإرتقاء، بيروت، دار مارون عبود، الطبعة الأولى، 1884، طبعة جديدة، 1983، ص1.
راجع ايضاً: شميل، شبلي. كتابات سياسيّة واصلاحية، جمع واعداد وتحقيق الدكتور اسعد رزق، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، ص5.
[4] ـ إن تاريخ ولادة شبلي شميّل غير متفق عليه: نرى مثلاً كتابه “فلسفة النشوء والأرتقاء” الذي صدر عن دار مارون عبود، أن تاريخ ولادته هو في العام 1860. أما كمال الحاج في “موجز الفلسفة اللبنانية”، ص488، هو في العام 1853. وعلي المحافظة في كتابه “الأتجاهات الفكريّة عند العرب”، هو في العام 1855 في الصفحة 104 وفي العام 1860 في الصفحة 237. وفي أعلام الزركلي3/227 هو في العام 1853. وفي كتاب حوادث وافكار، مذكرات الدكتور شبلي شميّل، جمع واعداد وتحقيق الدكتور اسعد رزّوق. يضع تاريخ ولادته في سنة 1850. والمقتطف يقول أنه “فات الستين” من العمر وهو الصديق العارف بالفيلسوف شبلي شميّل: المقتطف50 (1917) ص 109. فلا يمكن أن يكون تاريخ ولادته في العام 1860 ، على الأرجح أن يكون تاريخ ولادته بين عامي 1850 و 1853.
[5] ـ الحاج، كمال. موجز الفلسفة اللبنانيّة، جونية ـ لبنان، مطابع الكريم الحديثة، 1974، 489.
[6] ـ شميّل، شبلي. كتابات سياسيّة واصلاحيّة، جمع واعداد وتحقيق الدكتور اسعد رزق، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، ص5.
[7] ـ شميّل، شبلي. كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. ن. أعلاه، ص5.
[8] ـ شميّل، شبلي. 1909، راجع: كتابات سياسية واصلاحية، م. س. ص 116.
[9] ـ شميّل. شبلي. “إنحطاط الشرق الأدبي والعقلي”، المقتطف 23 (1899) 4.
[10] ـ شميّل، شبلي. م. ن. اعلاه، ص 7.
[11] ـ “شكوى وآمال”، رسالة لشميّل موجهة للسلطان عبد الحميد الثاني، نشرها في 20 أذار 1896، وأعادت صحيفة المقطم نشرها على حلقات في الاعداد التالية: 8، و11، و12، و13، و14، آب 1908. وذلك في اعقاب إعلان الدستور. راجع ايضاً: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، ، م. ن. ص 5 ـ 22.
[12] ـ شميّل، شبلي. “شكوى وآمال”، م. ن. اعلاه، ص 9 و10.
[13] ـ شميّل، شبلي. “شكوى وأمال”، م. ن. اعلاه، ص 10.
[14] ـ شميّل، شبلي. “شكوى وآمال”، م. ن. اعلاه، ص 11.
[15] ـ شميّل، شبلي. “شكوى وآمال”، م. ن. اعلاه، ص11.
[16] ـ شميّل، شبلي. كتابات سياسيّة واصلاحية، م. س. ص 16.
[17] ـ شميّل، شبلي. كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 17 و18.
[18] ـ شميّل، شبلي. كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 20.
[19] ـ شميّل، شبلي. “النغولة السياسيّة”، المقطم: 26/9/1908. وراجع ايضاً: كتابات سياسيّة واصلاحية، م. س. ص 62.
[20] ـ شميّل، شبلي. كتابات سياسية واصلاحية، م. س. ص 63.
[21] ـ شميّل، شبلي. “أجهل أم جبن أم نفاق”، المقطم، 3 اغسطس (آب) 1908. وراجع ايضاً: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 58.
[22] ـ شميّل، شبلي. “الاصلاح. الاصلاح. الاصلاح”، المقطم، 20/11/ 1908. وراجع ايضاً: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 69.
[23] ـ شميّل، شبلي. “أهكذا يكون الجند يا أهل لبنان”، المقطم 12/9/ 1908. وراجع ايضاً: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 60.
[24] ـ شميّل، شبلي. كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 61.
[25] ـ شميّل، شبلي. “اللبنانيون ومحط آمالهم”، الاهرام: 22 تموز 1912. راجع ايضاً: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 177.
[26] ـ شميّل، شبلي. كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 178.
[27] ـ شميّل، شبلي. “لبنان. لبنان. لبنان”، الاهرام: 18/12/1912. راجع ايضاً: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 181.
[28] ـ شميّل، شبلي. “لبنان … سويسرا الشرق؟ لبنان الجميل ولبنان المشوّه ومطالب اللبنانيين النافعة”. الاهرام: 27 كانون الأول 1912، راجع ايضاً: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 183.
[29] ـ شميّل، شبلي. م. ن. أعلاه، ص 184.
[30] ـ شميّل، شبلي. “اللبنانيون واصلاح وطنهم”، الاهرام : في 10 آذار 1913. راجع ايضاً: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 192.
[31] ـ شميّل، شبلي. “سوريا ومستقبلها”. نشرت مطبعة المقطم هذه المقالة في كرّاس من 29 صفحة في 25 تشرين الأول 1915. واعادت نشرها جريدة لسان الحال في اعداد 20 و21 و22 أيار، 1919. راجع ايضاً: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 203.
[32] ـ شميّل، شبلي. م. س. ص 206.
[33] ـ شميّل، شبلي. م. س. ص 207 و 208.
[34] ـ شميّل، شبلي. كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص148 .
[35] ـ عن جريدة “البلاغ” البيروتية، العدد ال 361 الصادر السبت في 10 شوال 1333 و21 آب 1915. راجع: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص 211.
[36] ـ شميّل، شبلي. “الاشتراكية الصحيحة”، المقتطف 42 (1913) 9 ـ 16.
[37] ـ شميّل، شبلي. “سورية المعذبة الجائعة”، الاهرام، 5 يونيو (تموز) 1916. والاهرام 30 سبتمبر (ايلول) 1916. راجع: كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. س. ص224.
[38] ـ شميّل، شبلي. كتابات سياسيّة واصلاحيّة، م. ن. اعلاه، ص 5.