“وتَستَمِرُّ الحياة”… وتَستَمِرُّ الرِّوايَة  

(قِراءَةٌ في رِوايَةِ “… وتَستَمِرُّ الحَياة”، لِلأَدِيبِ المُحامِي مِلحِم مارُون كَرَم)

                    

        

لَمَّا بَلَغَتنِي رِوايَةُ “… وتَستَمِرُّ الحَياة”، لِرجُلِ القانُونِ اللَّامِعِ مِلحِم مارُون كَرَم، تَساءَلتُ ما تُرانِي واجِدًا فِيها، ونَحنُ في زَحمَةِ الأَعمالِ القَصَصِيَّةِ، مَدَى عالَمِنا العَرَبِيِّ، والعالَمِ الأَوسَع. ثُمَّ وإِنَّنا في عَصرٍ وُسِمَ بِالسَّردِ، وفي مُحِيطٍ عَرَبِيٍّ قال فِيهِ النَّاقِدُ المِصرِيُّ جابِر عَصفُور: “نَحنُ في زَمَنٍ باتَتِ الرِّوايَةُ فِيهِ دِيوانَ العَرَب”.

قَرأتُها فَأَثارَت فِيَّ شَهِيَّةَ الجَدَل. وجَدتُها عامِرَةً بِالثَّقافَةِ الَّتي استَحَلَّت حَرَمَ السَّردِيَّةِ فَكَدَّرَت عُزلَتَها، وحُرِّيَّتَها، وحَمِيمِيَّتَها.

الرِّوايَةُ حَمَّالَةٌ لِفُنُونٍ شَتَّى، وهي قادِرَةٌ على نَقلِ أَفكارِ الكاتِبِ إِذا رَمَى مِنها إِلى أَغراضٍ مُتَنَوِّعَة. وهذا ما بَدا أَحَدَ مُسَوِّغاتِ كِتابَةِ هذه الرِّوايَةِ، فَغَرَضُها الرَّئِيسُ غَيرُ خافٍ. فَلِواؤُها دَعوَةٌ حارَّةٌ إِلى الإِيمانِ الدِّينِيِّ الخالِصِ مِن الشَّوائِبِ والتَّحَجُّرِ والانغِلاقِ، يُرَدِّدُه الكاتِبُ خَلَلَ الأَحداثِ، ومَدَى الكِتابِ، لَكَأَنِّي بِشُخُوصِهِ تَبتَهِل مع أَنطوان دِي سانت إِكزوبري (Antoine de saint exupéry, 1900 – 1944): “أَظهِر لِي رَبِّي وَجهكَ، فَكُلُّ شَيءٍ يُصبِحُ قاسِيًا حِينَ نَفقِدُ طَعمَ الله!”. هو دُعاءٌ تَتُوقُ إِلَيهِ القُلُوبُ النَّقِيَّةُ، وحاشا لَنا أَن نَعتَرِضَ على دَعواهُ، وعَتْبُنا أَنَّهُ زَجَّهُ في فَنِّ القِصَّةِ، “الضَّيِّقِ الصَّدرِ”، والبالِغِ الحَساسِيَّة.

فَهَمُّ القارِئِ، والكَرْبُ الَّذي يُساوِرُهُ مِن مَصائِرِ بَعضِ الأَبطالِ، لا يَدُومانِ طَوِيلًا، فَالعَزاءُ يَأتِي مِمَّنِ ابتُلِيَ إِذِ الإِيمانُ المَزرُوعُ فِيهِم قَوِيٌّ عَمِيقٌ يَكشِفُ عَن أَمَلٍ يُشرِقُ في البَعِيدِ، ويُضِيءُ الصُّدُورَ المُنقَبِضَةَ، ويُبَلسِمُ  الجَوارِحَ المَكدُودَةَ، هو الأَمَلُ الأَنوَرُ بِعَالَمٍ مِلؤُهُ السَّعادَةُ والطُّهرُ والنَّقاء.

كَثِيرَةٌ هي الأُمثُولاتُ الَّتي نَستَقِيها مِن طَيَّاتِ الكِتابِ، ونَستَشِفُّها مِن سُلُوكِيَّاتِ الأَبطالِ ومَآلاتِهِم. بَيْدَ أَنَّ أُخرَياتٍ يُرشِدُنا إِلَيها الكاتِبُ، وقَد أَخَذَتهُ رَغبَةُ التَّلقِين. فَبِاللهِ عَلَيهِ، هَل كان الوَعظُ يُغنِي عن الاستِنتاجِ الذَّاتِيّ؟

مِنها، تَمثِيلًا، أَنَّ الأَمَلَ والرَّجاءَ والعَزاءَ كَثِيرًا ما تَنبُتُ في بُؤْرَةِ اليَأسِ، وأَعمَقِ الأَحزان.

وقَد تَطَرَّقَ صاحِبُنا إِلى مَسأَلَةٍ رافَقَتِ الإِنسانَ مع العُصُورِ، وكانَت مِن عَلاماتِ العارِ الَّتي يُوصَمُ بِها أَصحابُها، ويُضطَهَدُونَ بِسَبَبِها، فَكانُوا يَستَتِرُونَ عَنها، ولكِنَّها اكتَسَبَت شَرعِيَّةً في أَماكِنَ عَدِيدَةٍ، في أَيَّامِنا هذه، وباتَت مِن جَدَلِيَّاتِ الحاضِرِ في أَماكِنَ أُخرَى، أَلا وهي “المِثْلِيَّةُ الجِنسِيَّة”. وقَد عالَجَها رِوائِيُّنا بِقَلَمٍ عارِفٍ يَضَعُ الإِصبَعَ في الجُرْحِ، ويَتَكَلَّمُ بِلُغَةٍ عِلمِيَّةٍ بَعِيدَةٍ مِن مُخَلَّفاتٍ زَرَعَها المُجتَمَعُ في ذَاكِرَتِنا الجَمعِيَّةِ، ورَسَّخَتها التَّقالِيد. فَأَتاها صاحِبُنا بِمِنظارِ رَجُلِ العِلمِ والمَنطِقِ والقانُونِ، يَرَى إِلى الأُمُورِ بِفِكرِ مُتَبَصِّرٍ، ومُعالَجَةِ مُدرِكٍ لِكُلِّ خُيُوطِ اللُّعبَةِ ومَساراتِها.

ثُمَّ، أَلا يَفرُضُ القانُونُ بِصَرامَتِهِ، على صاحِبِنا المُتَعايِشِ مَعَهُ آناءَ نَهارِهِ، دِقَّةً مُتَمَيِّزَةً، ومَنطِقًا يَحكُمُ الأَحداثَ، ومَعقُولِيَّةً تُغَلِّفُ العَمَلَ وتَطبَعُه؟

هذه الرِّوايَةُ تَنحُو نَحْوَ النَّهجِ التَّقلِيدِيِّ في القَصِّ. ولا تَخلُو الحِكايَةُ مِن تَدَخُّلِ الكاتِبِ في شَرحٍ هنا، ورَأيٍ هُناكَ، ومَوعِظَةٍ هُنالِك. ويَبدُو صاحِبُنا مُلتَزِمًا رِسالَةً يَرُومُ إِبلاغَها، وإِيمانًا ماوَرائِيًّا يَحمِلُ لِواءَه. كَما لا تَخلُو مِن عَرضٍ مُتَوَزَّعٍ على الصَّفَحاتِ لأَقوالٍ مِن فَلاسِفَةٍ وأُدَباءٍ، تُعَزِّزُ مَنزِلَةَ الكِتابِ المَعرِفِيَّةَ، وتَكفِي رَغبَةً بَيِّنَةً عِندَ هذا الرِّوائِيِّ في طَرحِ قَناعاتِه في الحَياة. لِذا فَالرِّوايَةُ تَتَخَطَّى إِطارَ التَّسرِيَةِ والمُتعَةِ، لِتَثبُتَ تَثقِيفِيَّةً تَعلِيمِيَّةً تَوجِيهِيَّةً بِامتِيازٍ، ما يَجعَلُها مَيدانَ استِثمارٍ ناجِحٍ في النَّاشِئَةِ وطَلَبَةِ المَعاهِد. فهي مُرشِدٌ أَمِينٌ على القِيَمِ المُتَعارَفِ عَلَيها، والَّتي تُبَشِّرُ بِها الأَديانُ السَّماوِيَّةُ، وكُتُبُ الوُّعَّاظ. وقَد لا يَضِيرُها هذا، فلا أَظُنُّها تَطمَحُ لِأَن تَكُونَ رِوايَةً مُستَوفِيَةً شُرُوطَ القَصِّ الصَّارِمَةَ، أَو سائِرَةً في رَكْبِ السَّردِيَّةِ الحَدِيثَةِ الَّتي تَترُكُ حَولَهَا الكَثِيرَ مِن الجَدَلِ والتَّساؤُلات.

اعتَمَدَ أَدِيبُنا، في رِوايَتِهِ، الوَسِيلَةَ المُباشِرَةَ أَو الطَّرِيقَةَ التَّحلِيلِيَّةَ الَّتي “يَرسُمُ فِيها شَخصِيَّاتِهِ مِن الخارِجِ، يَشرَحُ عَواطِفَها وبَواعِثَها وأَفكارَها وأَحاسِيسَها، ويُعَقِّبُ على بَعضِ تَصَرُّفاتِها، ويُفَسِّرُ بَعضًا آخَر. وكَثِيرًا ما يُعطِي رَأيَهُ فِيها، صَرِيحًا مِن دُونِ التِواءٍ، كما عَرَّفَها النَّاقِدُ الدّكتُور مُحَمَّد يُوسُف نَجْم*.

عَلاوَةً على ذلك، فَإِنَّهُ – وهو المُحامِي النَّاجِحُ العَرِيضُ الشُّهرَةِ – مُفَكِّرٌ عَمِيقُ الثَّقافَةِ، يَرقَى إِلى مُستَوى العالِمِ الاجتِماعِيِّ بِما يُقَدِّمُ مِن طُرُوحاتٍ مُستَفِيضَةٍ راقِيَةٍ مُعَزَّزَةٍ بِخُلاصاتٍ استَقاها مِن مُفَكِّرِينَ كِبارٍ تَرَكُوا بَصَماتِهم في التَّارِيخ. كما لَهُ مُداخَلاتٌ طَوِيلَةٌ في عِلمِ الاجتِماعِ، والسُّلُوكِ البَشَرِيِّ، والعَلاقَةِ مع اللهِ، مَشفُوعَةٌ بِآراءِ كِبارِ المُفَكِّرِين. هي مُفِيدَةٌ في ذاتِها، عَمِيقَةُ المُحتَوى، تَدُلُّ على طُولِ بَاعِ صاحِبِها في الثَّقافَةِ، ولَرُبَّما أَساءَت إِلى سِياقِهِ وانسِيابِيَّةِ القَصِّ، في مَواضِعَ سَاقَهُ فِيها التَّفصِيلُ الفائِضُ لِلنَّظَرِيَّاتِ الاجتِماعِيَّةِ، ونَشْرُ مَنطِقِ المُحامِي في المُداوَلاتِ، إِلى الحَدِّ مِن انسِراحِ السَّردِ، وإِلى تَعَثُّرِهِ وتَشتِيتِ ذِهنِ القارِئِ عن الحَبْكَةِ الرَّئِيسَة. كما قَد يَكُونُ شَوَّشَ استِغراقَ القارِئِ النَّصَّ، وجَرَيانَ الأَحداث. فَالرِّوايَةُ مَسرَحٌ يَلعَبُ فِيهِ الأَبطالُ كما تَشاءُ طِباعُهُم، ويَقُولُونَ ما تُملِي عَلَيهِم انفِعالاتُهُم. وقد تَفسُدُ اللُّعبَةُ إِمَّا فَرَضَ الكاتِبُ ما هو دَخِيلٌ على طَبِيعَةِ الأُمُور. قال مَكسِيم غُوركِي (Maxim Gorky, 1868 – 1936): “يَقِفُ الرِّوائيُّ بِقُربِ الحَياةِ، يَستَخدِمُ إِلهامَها ونَمَاذِجَها وصُوَرَها وكُلَّ خَلَجاتِ لَحمِها ودَمِها بِشَكلٍ مُبَاشَر”. ما يَعنِي الحَياةَ كما هي، لا مُزَيَّنَةً، ولا مُشَوَّهَةً، ولا مُسَخَّرَةً في حَمْلِ ما لَيسَ مِن تَكوِينِها.

أَلَا دَسَّ، صاحِبُنا، مَنطِقَه في مَنطُوقِ رِوايَتِهِ فَسَلِم!

أَلَا تَذَكَّرَ قَولَ مَرسِيل برُوست (Marcel Proust, 1871 – 1922): “أَن تَشرَحَ تَفَاصِيلَ رِوَايَةٍ كَأَنْ تَنسَى السِّعْرَ على هَدِيَّة”!

ولَن نَغفُلَ عن سَلامَةِ اللُّغَةِ، والبَيانِ المَضبُوطِ، والصُّوَرِ الزَّواهِي المُتَناثِرَةِ عَبرَ الرِّوايَةِ، ما يُؤَهِّلُها لِكِفايَةِ طَبَقاتٍ مُتَفاوِتَةٍ مِن القُرَّاء. فَإِلى الشَّبيبَةِ الَّتي تَجذِبُها حِكاياتُها اللَّطِيفَةُ، وإِلى الأَهلِ الَّذين يَرَونَها مُناسِبَةً لأَبنائِهِم، فَهُناكَ فِئَةٌ مِن المُثَقَّفِينَ يَستَعِيدُونَ مَعَها الحَنِينَ إِلى أَيَّامٍ كانت فِيها الرِّوايَةُ العَربِيَّةُ تَدُبُّ في بِداياتِها مع “زَيْنَب” لِمُحَمَّد حُسَين هَيكَل، وأَعمالِ كَرَم مِلحِم كَرَم، وسَلِيم البُستانيِّ، وغَيرِهِم كَثِيرِين.

ونُلاحِظُ، بِتَقدِيرٍ، حُنْكَةَ هذا الكاتِبِ في نَسْجِ شَبَكَةِ العَلاقاتِ بَينَ الشُّخُوصِ، بِإِحكامٍ مُتقَنٍ، فَلا نَقصَ هُنا يَعتَوِرُ اكتِمالَ مَشهَدٍ، أَو فائِضًا دَخِيلًا هُناكَ يَبدُو نَشازًا في حَرَكِيَّةِ حِكايَة. حَتَّى أَدَقَّ التَّفاصِيلِ يُولِيها الكاتِبُ اهتِمامَهُ، فَيَنشُرُ فَوقَ مَسرَحِ الحَدَثِ عَيْنَ نَسْرٍ لا تَفُوتُها المُنَمنَمات. فَكَأَنَّهُ يَحمِلُ آلَةَ تَصوِيرٍ شَدِيدَةَ الحَساسِيَّةِ، أَضافَ إِلى تَركِيبِها باصِرَةً فَنِّيَّةً أَدَبِيَّةً تُزِيلُ عن الصُّوَرِ جُمُودَها المُمِضَّ، ورَتابَتَها المُمِلَّةَ، وتَدخُلُ إِلى عُمقِ المَشاهِدِ، وتَكشِفُ الدَّواخِلَ الخَبِيئَةَ، وهذا لا يُتاحُ إِلَّا لِخَبِيرٍ مُطَّلِعٍ على عِلمِ النَّفسِ، تَرفِدُه مَلَكَةٌ غَنِيَّةٌ، وبَراعَةٌ في التَّحلِيلِ مَوهُوبَةٌ ومُكتَسَبَة.

فَيا صَدِيقَنا…

استَلَلتَ رِوايَتَكَ مِن صَمِيمِ المَعقُولِ، وأَشخاصُها لَيسُوا رُسُومًا نَمَطِيَّةً، أَو أَصنَامًا بارِدَةً، بَل هُم مِن لَحمٍ ودَمٍ، تَجرِي في عُرُوقِهِم حَرارَةُ الإِنسانِ، ويَتَفاعَلُ فِيهِم الفَرَحُ والحُزنُ، القُوَّةُ والضَّعفُ، وقد أَبَيتَ إِلَّا أَن تَزرَعَ فِيهِم إِيمانًا بِخالِقٍ يَرعَى، ورَجاءً يُشَدِّدُ عَزِيمَةَ البائِسِينَ في أَشَدِّ ساعاتِهِم حَلَكًا. وَهُم إِن لَم يَكُونُوا مَرُّوا في حَياتِكَ، فَقَد يَمُرُّونَ في حَياةِ كُلٍّ مِنَّا، لِأَنَّهُم مِن تُربَةِ الواقِعِ، ومِن وِلْدَةِ الحَياة.

ولَقَد استَطَعتَ، بِدُربَةٍ لافِتَةٍ، أَن تَعِيشَ دَقائِقَ أَبطالِكَ، لَكَأَنَّكَ تَروِي مِن مَخزُونِ أَحداثٍ شَهِدتَها، وهذا يُحسَبُ لَكَ، فَـ”الأَدَبُ هُو مَوهِبَةُ أَن نَحكِيَ حِكايَتَنا الخاصَّةَ كما لو كانت تَخُصُّ آخَرِينَ، وأَن نَحكِيَ حِكاياتِ الآخَرِينَ كما لو كانت حِكايَتَنا الخاصَّة” كما قالَ الرِّوائيُّ التُّركيُّ أُورهان بامُوق.

صَدِيقَنا…

لَمَّا كانَتِ “الحَيَاةُ لا تَنضُبُ”، فَنَحنُ نَتَشَوَّفُ إِلى رِوايَةٍ أُخرَى تُتحِفُنا بِها، وأَن تَكُونَ مُحايِدًا فَلا تَقحَمُ نَفسكَ في سَردِها، ونَتُوقُ لِأَن نَراها تَصَفَّت مِن هَنَاتٍ عَلِقَت بِسالِفَتِها مِن دُونِ أَن تَطمِسَ بَرِيقَها، أَو تَحِدَّ مِن إِشعاعِها. ولَأَنتَ قادِرٌ، أَنُوفُ القِبلَةِ، عَزُوم…

وَفَّقَكَ الله!

*****

(*) أُنظُر كِتابَ “فَنّ القِصَّة” للدّكتُور مُحَمَّد يُوسُف نَجْم، ص 81.

اترك رد