الأمن في نظام المحاصصة الطائفية

   

بما يتجاوز فضيحة تلفيق ملف تآمري للمثل والمسرحي زياد عيتاني، فإن النقاش لا بد أن يطاول الأسباب الذاتية والموضوعية التي تسمح او تستسهل تركيب ملفات تضع أبرياء في غياهب السجون. لعل النظام الطائفي اللبناني الذي أُرسيت قواعده بعد اتفاق الطائف يفسر هذه الظواهر، يضاف إليها ما تشربته أجهزة الأمن والطبقة السياسية – الطائفية من إيديولوجيا الديكتاتوريات العربية وأساليبها، خصوصاً منها الاستبداد السوري الذي ناخ بثقله على اللبنانيين عقوداً، ولا تزال آثاره و «مواهبه» حية لدى من يمسكون بالسلطة، أكانت أمنية أم سياسية.

من المعروف أن المحاصصة الطائفية الدقيقة لم تترك ميداناً إلا وعملت فيه تقسيماً. توزعت الأجهزة الأمنية بين الطوائف، بحيث بات كل جهاز يتبع لسلطة طائفية، تحدد من يكون على رأسه، وتخضع التشكيلات فيه إلى المحسوبيات والولاءات الطائفية. افتقدت الدولة إلى البديهة المعروفة أن ممارسة العنف هو من مهمات الدولة التي تقف فوق الطوائف والكيانات الفئوية، ليصبح العنف مرتبطاً إلى حد بعيد بما تقرره الطوائف وزعماؤها. قديماً كانت القاعدة تقول بـ 6 و6 مكرر، بحيث يجب أن يقابل أي اعتقال من هنا اعتقال من هناك. ان انزياح الولاءات الأمنية، من المشترك الذي تمثله الدولة، الى الجهوي الذي تمثله الطوائف، هو الأساس في انحراف أجهزة الأمن، ومعها بعض أجهزة القضاء عن مهماتها الأصلية.

في المقابل، تركبت إيديولوجيا لبنانية موروثة عن الاستبداد العربي، تقوم على ان أسهل اتهام يمكن توجيهه لمن يُراد الانتقام منه، هو إلصاق تهمة العمالة لإسرائيل والتجسس لمصلحتها. وهي تهمة لايزال لها وقع سياسي ونفسي، بالنظر إلى أن اسرائيل تمثل العدو القومي للعرب ومنهم اللبنانيون. لم تنس الشعوب العربية معاناتها من استخدام الحكام العرب شماعة العدو الإسرائيلي والتفرغ لمحاربته، بما يفرض إسكات اي صوت معارض طالما انه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». تحت هذا الشعار، دفع مناضلون ومعارضون في العالم العربي أثماناً غالية في حياتهم من السجن والتعذيب والنفي والقتل وتشويه السمعة… كان لبنان اقل البلدان اندماجاً في هذه التعويذة قبل هيمنة الوصاية السورية عليه. هذه الهيمنة تفننت في إخراج مسرحيات العمالة والتجسس. وعندما رحلت، تركت وراءها أجهزة تحاول تقليدها، ولكن إخراجها يبدو كاريكاتورياً في معظم الأحيان.

لكن نظام المحاصصة الطائفية لم يقتصر على اقتسام الأجهزة الأمنية وإلحاقه بممثليه، بل مدّ أذرعه إلى الجسم القضائي محاولاً ممارسة العلاقة نفسها. لا يمكن إنكار صمود بعض القضاء ضد الإلحاق والسيطرة، لكن فضائح أثيرت في السنوات الأخيرة حول بعض هذا الجسم، أظهرت ان آثار إلحاقه بنظام المحاصصة يترك ندوباً حقيقية في جسمه. يصبح الأمر خطيراً جداً على المواطن عندما يتم التلاقي الفئوي والجهوي بين أجهزة الأمن والأجهزة القضائية. فالتوقيفات الأمنية والاتهامات من الأجهزة لا تكتمل وتصبح واقعاً من دون التغطية القضائية وإسباغ المشروعية عليها. هنا يصل الفساد الى أعلى ذراه.

يكتمل فساد المحاصصة في الأجهزة عندما يجري تسخير نفوذها في عمليات انتقام شخصي من هذا المسؤول ضد أي فرد على خصام معه. هنا تقع قضية زياد عيتاني مع المسؤول الأمني الذي أراد الانتقام منه استناداً إلى تغريدة، يبدو اليوم أن المتهم غير مسؤول عنها. يصبح الجرم أكبر، وتصبح المسؤولية على الجهاز الأمني والقضائي مسؤولية تستوجب المساءلة لمن هم مسؤولون سساسياً وأمنياً عن هذه الأجهزة. فهل نشهد شيئاً من هذا القبيل بعد هذه الفضيحة.

في الفضيحة الحالية، يصرّ الجهاز الأمني المسؤول على الاعترافات التي قدمها عيتاني بعلاقته بإسرائيل. لا يُعتدّ بالاعترافات التي تجري تحت التعذيب، فيمكن للمتهم قول أي شيء لوقف هذا التعذيب، بل قد يصل به القول إنه قتل الرئيس كينيدي. في كتابات أدب السجون العربية ما هو مذهل ومرعب عن طبيعة الاعترافات.

يميل المرء إلى التشاؤم في المحاسبة، بل قد يذهب الموضوع إلى اللفلفة، بعد محاسبة شكلية. لأن الذهاب في المحاسبة إلى النهاية مرتبط بالسلطات السياسية والطائفية، وبالصراعات بين الأجهزة نفسها، وتدخّل كل مسؤول لحماية أبناء طائفته. بدأت الأصوات تعلو بعدم محاسبة هذا الموظف لأسباب طائفية، وكأنّ المطلوب اختراع ملف يطاول مسؤولاً أمنياً من طائفة مقابلة. كما أن صيحات تعلو اليوم أن الهدف من فضح هذا الملف له علاقة بالانتخابات النيابية.

لا تنفصل الفضيحة الأمنية التي تشكل حديث الناس والإعلام، عن الفضائح الأخرى في قطاعات الكهرباء والاتصالات والنفايات وغيرها من الملفات، التي تظهر حجم الفساد الذي يعشش في البلد، ويتسبب بفضائح تتراوح من المالي إلى السياسي، وتعطي صورة للبنان لا تقل بشاعة عن أنظمة فاسدة في إفريقيا وأميركا اللاتينية. في كل حال، يحتل لبنان مرتبة متقدمة جداً من معدّل الفساد في دول العالم، لعل ما جرى مع زياد عيتاني ليس سوى نقطة صغيرة جداً من الفساد الأكبر الذي يمارسه المسؤولون والطبقة السياسية والطائفية في كل الميادين.

 

اترك رد

%d