من ذكريات برج أبي حيدر

بائع القهوة الجوَّال وزوجه عفيفة

(2)

(جزء من عملٍ سرديِّ قَيّدَ الإنجاز)

كانت “عفيفة” اربعينيَّة مربوعة القامة، أقرب إلى القِصَرِ منها إلى الطُّول، تميلُ بشرتها إلى السُّمرة، بيضاوية الوجه، صغيرة العينين، تجمعُ شعر رأسها بمنديل ملوَّنٍ تربطه بعقدة عند أسفل الرَّأس، كاشفةً عن أذنيها. وكنتُ أسمع من الجيران أنَّها، في الأصل، أمرأةٌ مسيحيَّةٌ وَفَدَتْ من إحدى القرى التُّركيَّة إلى بيروت، من دون أن يرافقها أحد من أهلها أو يكون لها معارف في البلدة؛ ثمَّ كان أنَّها اعتنقت الإسلام، بعد زواجها من “الحاج”؛ ومن يومها وهما يقيمان معاً في شارِعنا هذا. وعلمتُ من أهلي، أنَّ “عفيفة” كانت تدور على بيوت سُراة الحي، تعمل في غسيل الملابس وسواها؛ إذ لم تكن الغسَّالات الآليَّة منتشرة بكثرة بين ناس تلك المرحلة، وكان بيتنا من ضمن البيوت التي تعمل “عفيفة” لدى ذويها في شؤون الغسيل؛ فكانوا يخصِّصون يوماً أو يومين من أيَّام الأسبوع لهذه الغاية.

تَحْضَرُ “عفيفة” إلى المنزل صباحاً، إثر خروج ربَّ الأسرة إلى عمله؛ وتكون ربَّة البيت قد هيَّأت ما يجب غسله في أكوام متعدِّدة في “غرفة الغسيل” أو في حمَّام البيت إذا لم يكن في البيت غرفة خاصَّة للغسيل.

تنقسم عمليَّة الغسيل، عند “عفيفة”، إلى أربع مراحل؛ اوَّلها “التَّفويح”، وهي مرحلة غسل الملابس بالماء فقط، سعياً إلى تفتيت ما يمكن أن يكون عليها من فضلات أو سواها. والمرحلة الثَّانية تسمَّى “الغَلِيْ”؛ إذ تضع فيها “عفيفة” الغسيل في برميل متوسِّط الحجم، يُملأ بالماء وبعض رقاقات “البوطاس” قصد تعقيم الغسيل، ويوضع على “بابور الكاز نِمْرو أربعة”، لقوة حرارته. تعمد “عفيفة”، تالياً، إلى فرك الغسيل بيديها، مرَّات ومرَّاتٍ، بالصَّابون البلدي وإضافة أجزاء من مُكَعَّب “النِّيل” إلى ما كان لونه أبيض منها ليزداد بياضه ألقاً. أمَّا مُكَعَّب “النِّيل” هذا، فصباغٌ ذو لون أزرق مميَّز، يقال إنَّه مركَّبٌ من مادة “الأنديغوتين” المُسْتَخْرَجَة من نبات آسيوي يُعرف باسم “نِيلَة”، أو من نبات يُعرف باسم “الوَسْمَة”. وعندما تتأكَّد “عفيفة” من أنَّ الغسيل وصل إلى المستوى المطلوب من النَّظافة والتَّعقيم، فإنَّها تبدأ بالمرحلة الثَّالثة، وهي مرحلة “التَّفويح”. في هذه المرحلة تعمد “عفيفة” إلى اسقاط الغسيل المنظَّف بالصَّابون في برميل ماءٍ بارد لتخليصه من رواسب الصَّابون و”البوطاس” و”النِّيل”. وأما المرحلة الأخيرة، فهي مرحلة العَصْرِ؛ وفيها تعمد “عفيفة” إلى عصر كلِّ واحدة من قطع الغسيل على حدى؛ تبرمها بين يديها حتى تلتفُّ قطعة الغسيل بما يُشبه الذَّيل، ويتسرب منها ما كانت تحويه أنسجتها من مياه.

كم كان يروقني أن أُراقب “عفيفة” وهي تعصر ملاآت، “شراشف”، الأسِرَّة؛ إذ كانت تبرم جزءاً منها بيديها تعصره، فإذا ما تأكَّدت من فاعليَّة عصرها له، لفَّت هذا الجزء على عنقها، وكأنه أفعى، لتتفرغ لعصر القسم التَّالي من الملاءة، “الشَّرشف”؛ فيتكوَّن، مع نهاية أجزاء “الشَّرشف” حول عنقها، ما يشبه حيَّة عظيمة بالغة الضَّخامة! وختام حفلة الغسيل عند “عفيفة” كان في العمل على نشر الغسيل على حبال خاصَّة، إمَّا في حديقة المنزل، أو على سطحه، ليواجه أشعَّة الشَّمس فيزداد بلسعِ حرارتها تعقيماً ونقاءً ويتخلَّص من كلِّ رطوبة قد تكون متعلِّقة به.

اترك رد