فارقت جدّتي هذه الأرض منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا وهي على مشارف التسعين. رحلت في زمن الحرب والاضطراب – تُرى هل انقضى زمن الحرب والاضطراب؟!- أذكرها نحيفة بشكل غير مألوف، كأنّها هيكل عظميّ لا يخفيه سوى جلد أسمر كثيرِ الطيّات دقيقِها. أذكر عينيها الغارقتين في محجريهما، مع ذلك لم أرها يومًا تضع نظّارات. لا أذكر صوتها، كأنّها لم تكن تتكلّم! ولكنّ ردّات فعل أولادها كانت تشي بأنّها تتكلّم وكلامها يثيرهم…
أذكر ثيابها البسيطة، والوشاح الذي لا يفارق رأسها، تحيط بطرفه فوق الجبين على شكل تاج أزرارُ زهر صغيرة متعدّدة الألوان، حاكتها بنفسها بالمكّوك. لم تكن تتزيّن أو تتبرّج. تقضي معظم أوقاتها في سريرها تشاهد التلفزيون أو تصلي، أو تراقب العابرين قبالة نافذة غرفة الجلوس. وأحيانًا تخرج الى الحديقة التي صُمّمت وفق أشكال هندسيّة متقنة، وقُسمت الى قسمين يفصلهما الممرّ العريض المؤدّي الى باب البيت. كانت تتوسّط كلّ قسم بركة تسبح فيها أسماك برتقاليّة وحمراء. ويغمر المكان سكون قلّما يعكّره صوت سيّارة تمرّ على الطريق أمام المبنى.
كان هذا كلّ عالم جدّتي.
أذكر يوم سألتْها أختي إن كانت تجد لديها قلمًا، فأجابت بمزاح: “نسيته على مكتبي”. لا أدري إن كانت جدّتي أميّة، ولكنّها بإجابتها هذه أرادت أن تقول أنه لم يكن لديها يومًا مكتب، وربّما قلم. مع ذلك كانت متنعّمة. تعيش في بيتها الكبير تخدمها ابنتاها، وتصلها في نهاية كلّ شهر إيجارات شقق المبنى الذي تملكه.
كانت تعرف أخبار العالم من زوّارها، وأولادها، من يعيش منهم مع عائلته في المبنى نفسه حيث تقيم، ومن هو على سفر دائم. لم يكن عدد البيوت المحيطة ببيتها يتخطّى عدد أصابع اليد الواحدة. كان عالمها بسيطًا، من دون تعقيدات، أو ربّما هكذا أظن.
اليوم أعيش حيث عاشت جدّتي، في المبنى نفسه، محاصرة بالأبنية الشاهقة من كلّ جانب. الطريق أمام المبنى تضاعف عرضها وقُسمت الى قسمين، يفصل بينهما رصيف، ويحاذي كلَّ قسم رصيف. وبات ملتقى الطرق القريب من المبنى محكومًا بإشارات عبور تُلزم السيّارات التوقّف والسير وفق إرشاداتها، كما تُلزمنا تحمّل أصوات الزمامير تصدح كلّما أضاءت الإشارة الخضراء، لأن أيًّا من العابرين لا يمكنه أن ينتظر دقيقة حتى يمشي من هم في الصف الأول عند الإشارة.
لقد حلّ ضجيج زمامير السيارات ومحرّكاتها مكان طنين النحل ونقيق الضفادع وحفيف أوراق الشجر، وسقسقة المياه في نافورتَيْ البركتين أمام المبنى؛ ورائحة الدخان المتصاعد من السيّارات والآليّات مكان عبير الزنبق والقرنفل والفلّ والغَردينيا التي كانت تزيّن الحديقة القائمة أمام بيت جدّتي وأزيلت.
لقد أقفلنا شرفات البيت بسياج حديديّ يحمينا من اللصوص، وما عدنا نمضي الوقت عليها نتأمّل أشجار الكينا حين تتراقص أوراقها على ألحان النسائم الممزوجة بتغاريد العصافير… أقفلنا نوافذنا وفتحنا لنا نوافذ داخليّة على عوالم لا تعرف عنها جدّتي شيئًا… ونظنّ نحن أنّنا نعرف عنها الكثير، ولكنّها تفاجئنا كلّما غصنا فيها، مؤكّدة جهلنا وعدم معرفتنا حتى أنفسنا!
بدأت شامات الشيخوخة البنيّة تلوّح جلدة يدي المتعبة المنهكة من ثقل السنين، فتذكّرني بيدَيّ جدّتي… أجدني واقفة معها في المكان نفسه، والزمن واقف بيننا، يترقّب اللحظة المناسبة بحنكة وصبر، لحظةَ ينقضّ على زمني كما سبق وانقضّ على زمن جدتي، فيبتلعه بكلّ ما فيه، ثم يتمدّد بهدوء منتظرًا موعد وجبة جديدة يحضّرها له زمن جديد!
الحدت 22- 2- 2018
رَسَمتِ بِالقَلَمِ لَوحَةً إِنسانِيَّةً تُحَرِّكُ الجَوارِح. فَكُلُّنا إِلى هذه القِبلَةِ جادُّون. عَزاؤُنا، في صِيالِنا الزَّمَنَ، قَلَمٌ نَستَجِيرُ بِهِ، نَبُثُّهُ الشَّكوَى، ونَأمَلُ مِن شَهدِهِ – دَرْءًا لِعَبَثِيَّةِ الوُجُودِ – بَعضَ إِكسِيرِ الخُلُود.
نَعَم… وَنَتَغافَلُ عن قَولَةِ أُستاذِنا الكَبِيرِ مارُون عَبُّود في مُناجاتِهِ رُوحَ صَدِيقِهِ الرَّاحِلِ فِيلِكس فارِس: “ما أَقَلَّ عَقلَ الأَدِيبِ، وما أَسخَفَ هذا الَّذي نُسَمِّيهِ أَدَبًا خالِدًا… ماذا يَظَلُّ بَعدَ تَلاشِي الذَّاتِ وفَناءِ الهَيُولَى؟”
سَلمِتِ، ولا شاخَ قَلَمُكِ على العُمر!
مُوريس وَدِيع النَجَّار 24/2/2018